الماضي هو الحاضر في زمان الأوبئة والانحطاط في العراق!
كاظم حبيب
الماضي هو الحاضر في زمان الأوبئة والانحطاط في العراق!
أعود بذاكرتي أحياناً غير قلية إلى عقود خلت بحلوها ومرّها، بعضها يحمل معه الحنين إلى ماضٍ جميل، إلى حياة الطفولة والصبا والبراءة، وبعضها الآخر يحمل معه ماضٍ يتجدد في حاضر العراق وشعبه، وكأن العراق لم يعرف طيلة هذه العقود كل هذه التغييرات الكبرى والتحولات المدهشة الجارية في العالم الذي يحيط بنا، لاسيما في عالم العلوم، ومنها الطب والتعليم ومكافحة الأمية، والثقافة العامة ومكافحة الجهل والتجهيل ومحاربة الأمية والخرافات والأساطير. في تلك الأيام الخوالي وقبل ما يقرب من ثمانية عقود كانت لي خالة اسمها نرجس، وندعوها أم سيد باقر. كانت هذه الخالة طيبة القلب عطوفة، مليحة الوجه، ممشوقة القامة ومتدينة. كانت حين تخرج من بيتها تكون قد ارتدت شروالاً طويلاً يصل إلى الرسغين، وترتدي فوقه دشداشة طويلة ذات جيبين على الجانبين يغطيان جزءاً من القدمين، وتلبس جواربا يمنع تسرب الهواء إلى الجسم. كما كانت تضع على رأسها عصابة تغطي الشعر والجبين حتى الحاجبين، ثم تضع عباءة سوداء على كتفيها تمتد حتى أسفل اقدمين، ثم تضع عباءة أخرى على رأسها بحيث لا ترى منها سوى السواد من قمة رأسها إلى أخمص قدميها حتى لا يمكن للناظر إليها أن يرى نعليها. وكانت حين تمشي في الأزقة الموصلة من محلة العباسية إلى محلة باب النجف عبر الشوارع والأزقة لتصل إلى دارنا في زيارات غير نادرة وهي في طريقها لزيادة صحني وضريحي الحسين والعباس، حيث يتوسطهما دارنا في شارع على الأكبر، تغطي وجهها بالكامل، إذ كانت تمسك طرف العباءة عند الوجه باليد اليسري لتلفها على الجانب الأيمن الآخر من الوجه بالعباءة الممسكة بطرفها باليد اليمنى. الناظر إليها لا يرى من وجهها شيئاً حتى عينيها لا يمكن رؤيتهما. وكانت كثيراً ما تتعثر في سيرها بسبب سوء رؤية الطريق. وحين كانت تصل إلى دارنا لا تخلع عباءتها، بل تكشف قليلاً عن وجهها، رغم عدم وجود الوالد، وهي في استحياء كبير. كانت تمنحني باستمرار بعض الچكليت (التوفي) الذي تأخذه من دكان ابنها العطار في محلة العباسية، كما كانت تجلب لنا المربى الذي تقوم بصنعها في البيت من قشور الحمضيات وخاصة الاطرنج (ترنج Medic Citrus). وكانت حين يتمرض البعض منا تجلب لنا معها ورقة صغيرة مطوية بعناية تفتحها بحذر شديد وقدسية عالية فيها بعضاً من تراب تطلق عليه (تربة الشفاء)، وهو تراب مأخوذ من أرض كربلاء يدعي بائعوه أنه من تربة الحسين بكربلاء وصالح لمعالجة كل الأمراض. كانت خالتي أمية لا تقرأ ولا تكتب ومؤمنة بما يقوله شيوخ الدين وما ينصحون به. لم تكن اختها (أمي فاطمة) تختلف عنها من حيث الأمية وعدم معرفة القراءة والكتابة، ولكنها كانت تقول لها، “داده اخذ أبني للسيد مهدي الحكيم أحسن، هو يكتبله دوه زين”. كانت خالتي تصّر على استخدام تربة الشفاء. فما كان من أمي غير أخذ تربة الشفاء من أختها الأكبر سناً وتضعها جانباً خلف مرآة كبيرة في حوش الدار. وحين تغادر الخالة تقتداني أمي إلى عيادة الحكيم في بيته الواقع في زقاقنا الطويل قرب تكية شير فضة (أسد فضة) [يعرف هذا المقام بين العامة بمقام ( شير فضة ) اي اسد فضة. وفضة هي خادمة السيدة زينب أخت الحسين] ليعالجني بأعشابه الطبية، التي تثق بها أمي، لأن والدي الحاج حبيب الملا عبد كان في شبابه عطاراً يبيع مثل هذه الأعشاب أيضاً وكذلك حبات الكنين ضد الملاريا، وكانت تجد أمي فيها نفعاً. أين رباط الحچي بهذه الخاطرة؟ اليكم ما حصل لي في مكالمة تليفونية مع سيدة صيدلانية في كربلاء قبل ثلاثة أيام ونحن في القرن الحادي والعشرين.
مع انتشار وباء كورونا في العالم كله ووصوله إلى العراق مع الزائرين المصابين به، ورغم الدعوات العالمية بالحذر من الإصابة به واتخاذ الإجراءات الكفيلة لمنع انتشاره، أعادت جمهرة من مخرفي شيوخ الدين، لا بسبب كبر سنهم، بل بسبب خلو الرأس من العقل ومن القدرة على التفكير السليم، وجمهرة من الرواديد في عزاءات الحسين بكربلاء، تشجيع الناس على عدم الالتزام بالإجراءات الصحية والقيام بالزيارة الشعبية الجماهرية لضريح وصحن موسى الكاظم في مدينة الكاظمية بمناسبة ذكرى ميلاده. فقد جاء في مقال للسيد أزهر الربيعي بعنوان “لطميات كورونية في العراق لمواجهة الفيروس المميت” ما يلي: “رغم الدعوات العالمية لالتزام المنازل والابتعاد عن الاختلاط، نشر رواديد عراقيون لطميات يتحدون فيها فيروس كورونا ويشجعون الناس على مواصلة إحياء الشعائر الدينية، ذاكرين أن زيارة مقام الإمام موسى الكاظم تشفي من أي مرض”. وهي دعوة لإصابة الناس بالجملة بهذا الوباء وموت الكثير منهم تدريجاً. وبعض هذه اللطميات تقول: “خلينه نمشيله، خلينه نمشيله… ترى الكاظم دوانه (لنذهب إليه، لنذهب إليه، فالكاظم دواؤنا) ـ يا كورونا هاي ومنها نختاض؟!… ترا الكاظم دوا ويشافي الأمراض (ما هذه الكورونا حتى نخشاها؟!… الكاظم دواء ويشفي من الأمراض)” (راجع: أزهر الربيعي، لطميات كورونية في العراق لمواجهة الفيروس المميت، موقع رصيف، بتاريخ 24 أذار/مارس 2020″. أليس هؤلاء الشيوخ والرواديد دجالون من الدرجة الأولى؟ أليس هؤلاء هم من ينبغي أن يطاردهم القضاء والادعاء العام؟
أجريت مكالمة هاتفية مع سيدة صيدلانية قريبة لي في مدينة كربلاء وتحدثنا عن وباء كورونا وكيف هم الآن، وعن نقص الأدوية والأجهزة. وكيف كان الناس في السابق يلجؤون إلى “تربة الشفاء” التي لا تنفعهم في شيء. فتصدت لي السيدة الصيدلانية التي درست أربع سنوات في كلية الصيدلة وهي منذ ثلاثين عاماً صيدلانية وقالت بانفعال: لماذا لا؟ تربة الشفاء تنفع، من قال لا، ربما في التربة الكثير المسائل القلوية النافعة! لقد صدمت حقاً بهذا الجواب من السيدة المتعلمة. ولكنها لم تع من سني دراستها في كلية الصيدلة وعملها الطويل كصيدلية ما يقيها من هذه الأوهام والخزعبلات، إنها تعرف القراءة والكتابة ولكنها أمية الثقافة العلمية لاسيما الطبية. إنها امرأة مؤمنة وليست مثقفة، وأنها لا تزال تعيش كخالتي أم السيد باقر في الماضي وقبل ثمانية عقود، وأن العراق في ظل هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون بخير عميم أو يتجنب الأمراض والأوبئة السارية. هناك طبيب عراقي نشر على مواقع التواصل الاجتماعي خبراً يقول فيه: فحصت حذاءً في كشوانية الحسين في كربلاء (مكان قبل الدخول إلى بهو الضريح يضع فيه الزائرون أحذيتهم قبل الدخول إلى المقام)، فوجدت إن الحذاء خالٍ من المكروبات، ثم فحصته في المختبر بنفس الجهاز، فظهر أنه مليء بالميكروبات!”. أليس هذا الطبيب دجالاً، أليس موقفاً حين نقترح سحب شهادة هذا الطبيب الدجال!
لقد كان من واجب القضاء العراق، لاسيما المدعي العام، إقامة الدعوة القضائية ضد هؤلاء الرواديد وشيوخ الدين الذين ينشرون الجهل والتجهيل والخزعبلات و”المعجزات!” التي تقود الناس إلى موت محقق. ولكن هل لدينا قضاة ومدّعون عامون يهتمون بأحوال الناس ويحملون معهم همومهم ومشكلاتهم ويتصدون لأولئك الذين يسرقون لقمة العيش من افواه المساكين من حكام العراق ويضحون على عقول البشر؟ لا ليس لدينا مثل هؤلاء القضاة ولا مدعون عامون، إلا القليل وربما ليسوا في الوظيفة! العراق لا يعاني من وباء كورونا المؤقت وحده، بل من أوبئة قاتلة لم تعد مخفية على كثير من شعب العراق!