هل اختفت تتيانا بوشكين ومفاهيمها ؟
هل اختفت تتيانا بوشكين ومفاهيمها ؟
أ.د. ضياء نافع
تتيانا لارينا هي بطلة رواية بوشكين الشعرية – ( يفغيني اونيغين) , التي أحبت بطل تلك الرواية يفغيني اونيغين وكتبت له رسالة رقيقة وصريحة ومباشرة تعبّر فيها عن حبها له, وتبتدأ تلك الرسالة هكذا –
أنا التي أكتب اليك , فماذا أكثر,
وماذا أقدر ان أقول أكثر …
ولكن يفغيني اونيغين رفض الاستجابة لحبها آنذاك , ثم عاد بعد سنوات طويلة جدا يطلب حبها , فقالت له (ايضا بصراحة وبشكل مباشر) انها لاتزال تحبه , ولكنها ترفض الان الاستجابه له .
شخصية تتيانا لارينا أثارت ولا تزال تثير الجدال والنقاش بين نقاد الادب الروسي والباحثين في تفصيلات تاريخه الصغيرة والكبيرة على السواء , هؤلاء الذين يدرسون نتاجات الادب الروسي , كي يحددوا سمات الشخصية الروسية وخصائصها في الواقع الحياتي, لانهم يعتبرون الادب هو التعبير الحي والتصوير المتكامل للحياة كما هي , وهم على حق طبعا بشأن ذلك , اذ حتى عندما نتأمل و نحلل بدقّة وعمق اللوحات السريالية ( بالمعنى العام للكلمة ) في الفن التشكيلي نجد ان تلك اللوحات (غير المفهومة للوهلة الاولى) هي تعبير حي فعلا لواقع الانسان في ذلك المجتمع الذي رسم فيه الفنان التشكيلي لوحاته تلك ( لنتذكر الغورنيكا لبيكاسو مثلا ) , وذلك لان الفنون في كافة اجناسها واشكالها هي انعكاس للمجتمع الانساني مهما كانت انواعها.
كثيرون من النقاد و الادباء الروس كتبوا عن بطلة بوشكين – تتيانا لارينا , ومن هؤلاء النقاد يستشهدون عادة باسماء بيلينسكي وبيساريف من القرن التاسع عشر و افسيانكو – كوليكوفسكي ( 1853 – 1920) من النقاد الذين ظهروا بعدهم , و من الادباء باسم دستويفسكي , ونحاول ان نتوقف عند جوهر افكارهم العامة حول هذه البطلة , وموقفهم تجاهها . لقد كان بيلينسكي مناصرا لتتيانا لارينا وبحماس وكذلك افسيانكو – كوليكوفسكي , اما بيساريف فكان مضادا لها كليّا , وكان دستويفسكي يمجّدها , مثلما كان يمجّد بوشكين بشكل عام , ونحاول في نهاية المقالة توضيح الاجابة – بشكل او بآخر – حول السؤال الذي ثبتناه في عنوان مقالتنا , وهو – هل اختفت فلسفة تتيانا لارينا ومفاهيمها و روحيتها , ام هي موجودة لحد الان في روسيا ؟.
كتب بيلينسكي عن بوشكين كثيرا من المقالات المهمة , والتي لازالت تمتلك اهميتها من اجل فهم بوشكين ومكانته في مسيرة الادب الروسي , وقد توقف طبعا عند تتيانا لارينا بطلة روايه بوشكين المركزية – يفغيني اونيغين . تتيانا لارينا كما يراها بيلينسكي – ( …استثنائية .. عميقة ..عاشقة ..الحب بالنسبة لها يمكن ان يكون متعة عظمى او معاناة عظمى , ولاشئ وسط .. ) رغم ان بيلينسكي يرى انها اصبحت ربّة عائلة هادئة , بعد ان ارتضت بتضحيتها لحبها , ويدافع كوليكوفسكي عنها ايضا في كتاباته بعد أكثر من نصف قرن من بيلينسكي , ويعتبرها ( أقوى روحيا من اونيغين ) , ويقارنها بسلسلة بطلات ظهرن في مسيرة الادب الروسي مثل بطلات تورغينيف وتولستوي , ولكنهن جميعا ( لم يجعلننا ننسى تتيانا بوشكين ) , ويؤكد انها ( ستبقى في أدبنا الى الابد ) .
اما بيساريف , فقد كان يرى انها – ( قروية حمقاء ) , وكتب يقول , انها تمتلك ( تصوّرات مريضة ) , ولهذا , ونتيجة لتلك التصوّرات , كانت تختلق احاسيس ومتطلبات وواجبات مفتعلة , وتصل الى تخطيط برامج لا تتناسق مع الواقع , وتحاول ان تحققها بعناد غريب . وبشكل عام , فان بيساريف صوّرها وكأنها امرأة مريضة , وكان ضدها تماما . بيساريف كان يعتبر بوشكين قد اصبح يمثّل مرحلة انتهت , ولا مجال هنا للحديث عن علاقة بيساريف ببوشكين , الا ان موقف هذا الناقد لم يؤثر على موقع بوشكين واهميته في دنيا الادب الروسي , ولم تتغيّر مكانة تتيانا لارينا نتيجة ذلك لدى القراء الروس ابدا .
اما دستويفسكي , فقد قال عن تتيانا لارينا, انها شخصية قوية , وتقف على تربتها بثبات وصلابة , وانها أعمق من يفغيني اونيغين وأذكى منه , ولهذا , فانها تعرف بدقة اين الحقيقة , وتقدر ان تحددها . ويرى دستويفسكي , ان بوشكين كان يجب ان يسمي روايته تتيانا لارينا وليس يفغيني اونيغين . لانها البطل الحقيقي الاول في تلك الرواية الشعرية .
هناك طبعا آراء اخرى حولها , منها مثلا , رأي نابوكوف , الذي يرى , ان ثورة اكتوبر 1917 قد غيّرت تلك المفاهيم , وان تتيانا لم تعد تلك البطلة النموذجية , ولا مجال لعرض تفصيلي لآراء نابوكوف , الذي ( يسيّس) الموضوع انطلاقا من موقفه السياسي طبعا , وهي نظرة نعرفها – نحن العراقيين – نتيجة تجربتنا الحياتية المريرة , وكم يوجد لدينا من هؤلاء الذين ( يسيّسون !) كل شئ.
ختاما , اود ان أشير , الى اني شخصيا رأيت كيف يتقبّل الروس هذه البطلة , وكيف ان تلاميذ المدارس الثانوية ( وخصوصا التلميذات ) يحفظون عن ظهر قلب رسالة تتيانا لارينا الى يفغيني اونيغين , وكيف يتنافسون لالقائها امام الآخرين عندما يطلبون منهم ذلك , وشاهدت كيف كان الطلبة (يتدافعون!) لاقتناء بطاقات لمشاهدة الفلم الذي يعرض الاوبرا حسب رواية بوشكين تلك , واعرف ايضا , ان تتيانا لارينا قد تحولت الى موضوع دائم لمادة ( الانشاء ) في المدارس الروسية.
تتيانا لارينا وفلسفتها لازالت موجودة في روسيا , ولازالت تتيانا تتمشى في شوارعها , ولازالت تثير التعاطف والحب , لان بوشكين لازال حيّا في روح روسيا و شعابها…