رفعت الجادرجي أثمة استعادة وتأصيل لـ ” الليبرالية العراقية”؟ عبد الحسين شعبان
رفعت الجادرجي
أثمة استعادة وتأصيل لـ ” الليبرالية العراقية”؟
عبد الحسين شعبان
توطئة
برحيل رفعت الجادرجي (94 عاماً) يوم الجمعة 10 نيسان (ابريل) 2020 يكون العراق والعالم العربي قد خسر أحد روّاد العمارة والفن التشكيلي، إضافة إلى فقدان أحد أبرز آخر الليبراليين العراقيين والعرب. وقد ترك لنا الجاردجي إرثاً حضارياً وجمالياً غنيّاً على المستويات الفنيّة والفكرية والإنسانية، وستظل الأعمال التي أنجزها بروح الحداثة تؤشر إلى مرحلة مهمة من تاريخ العراق، وفي مقدمتها تصميم القاعدة التي ارتفع عليها “نصب الحرية” في ساحة التحرير ببغداد للفنان جواد سليم ، ونصب “الجندي المجهول” الذي تم هدمه في العام 1982، ليقام على أنقاضه تمثال للرئيس العراقي السابق صدام حسين في ساحة الفردوس، والذي تم إسقاطه في العام 2003، وله مساهمات عالمية، كما حصل على جائزة آغا خان للعمارة في العام 1986.
انشغل رفعت الجادرجي منذ أواسط الثمانينات باستعادة وتأصيل الفكر الليبرالي والديمقراطي العراقي، وقدّم نقداً معمّقاً للنموذج الشمولي للدولة العراقية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، والتي قادت إلى القطيعة الأولى مع الفكرالديمقراطي، لاسيما بهيمنة العسكر واستحواذهم على القرار السياسي والتشريعي والقضائي وقطع خط التطور التدريجي.
اعتقل رفعت الجادرجي في 16 كانون الأول (ديسمبر)1978 وحكمت عليه “محكمة الثورة” بالسجن المؤبد، ولكنه أطلق سراحه في العام 1981 للاستفادة من خبرته المعمارية في تجميل مدينة بغداد تحضيراً لانعقاد مؤتمر عدم الانحياز الذي كان من المزمع عقده في بغداد العام 1982، لكنه لم ينعقد.
اضطرّ للعيش في المنفى منذ أواسط الثمانينات وأنجز فيه أهم مؤلفاته وأعماله الفكرية ومن أبرزها ” صورة آب -1985″ و”شارع طه وهمرست -1991″ و”الإخيضر والقصر البلوري-1991″ ومقام الجلوس في بيت عارف آغا-1999″ و” في سببية وجدلية العمارة- 2006″.
وقد حاز هذا الكتاب على جائزة الشيخ زايد في العام 2008، ولعلّ من أعماله المتميّزة هو كتاب “جدار بين ظلمتين” بالاشتراك كع زوجته بلقيس شرارة.
هذه التوطئة كتبها د. شعبان خصيصاً لجريدة الزمان، ليعيد نشر القسم الثالث من كتابه الموسوم ” جذور التيار الديمقراطي في العراق- هل انقطع نسل الليبرالية العراقية”، دار بيسان، بيروت، 2007. ويسرّ جريدة الزمان أن تنشر هذه المساهمة لمناسبة رحيل المعماري الكبير رفعت الجادرجي.
*****
يعرف كثير من العراقيين رفعة الجادرجي ، باعتباره معمارياً متمّيزاً إشتهر بتصاميمه منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان . وذاع صيته على الصعيد العربي والعالمي ، لكن القليل منهم من يعرف رفعة الجادرجي كأحد الدعاة المخلصين والجادين للتراث الليبرالي العراقي ، ليس على صعيد الفكر حسب ، بل في التطبيق منهجاً وسلوكاً وهو ما حاول أن يعكسه منذ عقدين من الزمان تقريباً.
وقد يكون ثمة في الأمر غرابة وربما مجازفة ، أن يتصدى داعية أعزل لعالم مدجج بالآيديولوجيا ، خصوصاً بعد ” إنقطاع ” نسل المدرسة الليبرالية العراقية، وربما العربية منذ أوائل الستينات، أو هكذا بدا الأمر حتى أواسط الثمانينات ، فقد صرعتها الانقلابات العسكرية ودحرجتها بين الأرجل ، في العديد من البلدان العربية ، حيث انقطع خط التطور التدريجي وازدرت السياسة الأفكار وتطاولت عليها خصوصاً بصعود نخب سياسية شحيحة المعارف ومحدودة الثقافة وقليلة الاطلاع. وكان للتيارات الشمولية بجميع ألوانها ومدارسها وكجزء من سياق تاريخي نشأت فيه الدور الأساسي في محاصرة الإرهاصات الليبرالية العربية والعراقية الناشئة.
ومع إن صلة رحم متينة وقّوية ربطت المدرسة الليبرالية، بالمدرسة اليسارية والماركسية تحديداً في العراق وبعض البلدان العربية ، وخصوصاً في الثلاثينات وبصورة أوسع في الأربعينات ومطلع الخمسينات، إلاّ أن حبل الود انقطع بينهما، بعد أن حاول التيار اليساري وبخاصة في العراق الهيمنة على الشارع وحشده لجهة حسم الصراع مع التيار القومي العربي، في حين ظل التيار الليبرالي متحفظاً، بل رافضا” الانخراط في الحشود الجماهيرية، التي غالباً ما تعبّر بطريقة غير عقلانية عن مآل الصراع ووجهته. ففي حين كانت هذه الحشود التي تذكّر بعصر المداخن والكتل البشرية الهائلة، تهتف بأعلى الأصوات والحناجر عام 1959 ” حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي …” وتحيّ الصداقة السوفيتية وتطالب الزعيم عبد الكريم قاسم باإعدام ” الخونة” ، كانت حشود أخرى وربما جزء منها استبدل رحيله ، تهتف للوحدة الثلاثية عام 1963 بعد أن كانت الجماهير الغفيرة تمجّد ” الاتحاد الفيدرالي ” أيام المدّ الشيوعي، وانخرطت مجموعات من هذه الحشود الغاضبة في ” الحرس القومي” الذي عاث في الأرض ” فساداً ” بعد أن كانت الحشود تصطف بطوابير للانخراط في “المقاومة الشعبية” ، التي كانت إحدى اذرع الحزب الشيوعي الضاربة، والتي هيمنت على ” الشارع” وحاولت إلغاء وإقصاء الآخر.
وبقدر تأثير التيار الليبرالي في الشارع العراقي، إلاّ انه ظل يعتمد على النخب الفكرية والثقافية، ويخاطبها ويتوّجه إليها في إطار عريض، خصوصاً وقد نأى بنفسه عن العنف يوم ساد عام 1959 لتصفية الخصوم فكرياً وسياسياً ومن خلال آلة الدولة وبمساعدتها في أجهزة رسمية او غير رسمية أو شبه رسمية خصوصاً بعد حركة الشواف في الموصل 7-8 آذار (مارس) 1959 او ما تبعها من انتهاكات خلال أحداث كركوك في العام نفسه وفي بغداد وغيرها من مدن العراق، ويوم أصبح العنف الوسيلة الأساسية والمفضّلة للقضاء على الشيوعية وحواشيها وأتباعها في هستيريا منفلتة من عقالها بعد 8 شباط (فبراير) عام 1963.
إن الجادرجي رفعة الذي حاول استعادة الليبرالية العراقية في رغبة لتأصيلها، ظل هو وهذا التوّجه الجديد خارج الوطن، إذ لم يكن في تلك الأيام العصيبة، التي شهدت عبادة الفرد وتمجيد القوة وازدراء الفكر إلاّ أن يكون غائباً أو مغيباً.
وعلى رغم أن ذلك يعدّ ” انقطاعاً ” عن ساحة التأثير ، إلاّ انه انقطاع ايجابي وتخصيب جديد في ظل ضرورات لم يكن من الممكن الزوغان منها. وهكذا كانت هناك محاولة لإنضاج الثمرة في ظل “رعاية خاصة” وفي ظروف قاسية وغير طبيعية خصوصاً وان تلك الثمرة تحتاج إلى تربة مناسبة وبيئة صحية ، لكي تنمو وتترعرع.
هكذا رأت أفكار رفعت الجادرجي النور في الخارج ، حيث كان العراق منقسماً بين ” جدارين ” أو ” ظلمتين ” ، ظُلمةُ وظَلَمة السجن وظُلمةُ وظَلمة خارجه، وهذه التورية وجدت طريقها إلى عنوان كتاب رفعة الجادرجي وبلقيس شراره “جدار بين ظلمتين”.
وإذا كان الجادرجي رفعة قد نفى نفسه بعد خروجه من السجن، فإنه كان منفياً بل مستلباً بالكامل وهو خارجه، يوم كان في العراق، وذلك ما تكشفه تلك السردية الدرامية الهائلة التي يدوّنها على نحو شّيق ومؤلم في الآن في كتابه مع بلقيس شرارة.
إن انقطاع الداخل العراقي عن الخارج لم يتح له قراءة نتاج الخارج العراقي، الذي زخر بأعمال إبداعية متميزة ومهمة لمثقفين عراقيين عاشوا في الخارج قدّر عددهم بنحو 3 آلاف مبدع ، مما يتطلب ” جهداً ” مضاعفاً لتجسير الفجوة وإعادة طبع وتأصيل نتاجات الخارج العراقي ، ليصبح ” داخلاً “، خصوصاً وان فترة نحو ربع قرن كانت تفصلها عن بعضها حواجز وجدران سميكة ، مثلما هو الجدار الذي فصل رفعة عن بلقيس زوجته.
لقد كانت نواة استعادة الليبرالية العراقية على صعيد الفكر هو كتاب ” صورة أب ” الذي هبطت أفكاره على رفعة وهو منقطع عن العالم ، وحيداً في زنزانة رطبة وملابس مهترئة وقمل ينهش جسده وصوت مثل المخاط يملأ أذنيه … لكنه بين جولة وجولة ، كانت الأفكار تراوده وهو في تأمله وصومعته وحزنه وأجواء الكآبة والحرمان والعذاب ، التي ترافقه . كهذا اختمرت ” الفكرة ” حبّة حبّة ، وهي محاطة بظُلمةٍ وظَلَمةٍ.
كان الجادرجي رفعة يستعيدها فكرة .. فكرة ويمحّصها ، ولم يدرِ انه يعيد بوعي أو دون وعي كامل منه ، بل باستفزاز للعقل ، الفكرة الليبرالية من خلال جمالية احترام البشر وحقوقهم وخصوصياتهم الفكرية والشخصية ، على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي وطريقة العيش والحياة.
ومن المفارقة أن يكون كتاب حسين جميل “حقوق الإنسان في الوطن العربي” قد صدر في الفترة ذاتها التي صدر فيها كتاب صورة أب . وكتاب جميل هو الآخر استعادة جديدة للفكر الليبرالي على الصعيد الحقوقي خصوصاً تأكيده على الحريات الأساسية العامة والخاصة. وكان حسين جميل رجل الديمقراطية والاعتدال والصمت قد وضع خلاصات لنقد الفكر الليبرالي على صعيد حقوق الإنسان في ندوة فكرية مهمة انعقدت بمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية في ليماسول (قبرص) عام 1983 ، ثم عززّها في كتاب صدر عن المركز ذاته.
كتاب ” صورة أب “ الذي تحدث فيه رفعة عن صورة والده كامل الجادرجي ، زعيم الليبرالية العراقية وأحد الرموز الوطنية العراقية ذات الصدقية العالّية ، كان النواة الأولى لأفكار رفعة التي ناقشها مع عطا عبد الوهاب ، المسجون أيضاً ، والذي شجعّه عليها وهّربها فيما بعد إلى خارج السجن ، ولتطبع في الخارج بعد خروجه من ظلمة وظلمة العراق عام 1985.
هل للسجن من فوائد ، رغم المرارة والعذاب والحرمان ؟ وهل للمنفى رغم الانقطاع والحنين والغربة من منافع؟
سألت الجواهري شاعر العرب الأكبر في حوار طويل معه (منشور في كتابنا الجواهري: جدل الشعر والحياة) : وماذا كان يا أبا فرات في تلك السبع العجاف (أيام هجرته الأولى إلى براغ عام 1961 )، هل زمهرير المنفى أم فردوس الحرية ؟ فأجاب على الفور بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي لا تفارقه ونفث دخانها عالياً : الاثنان معاً ، أيْ والله …الاثنان معاً.
ربما لو لم تتح لرفعة الجادرجي فسحة التأمل تلك على المستوى العام والخاص التي وفرتها تجربة السجن المريرة ، خصوصاً الصور التي كانت تمّر أمامه كشريط سينمائي ويحاول استعادتها، لم يكن لنا أن نطّلع على هذا المخزون الثري. لقد بحث رفعة وهو في قاع السجن وفي دهاليزه عن أجوبة لأسئلة كبيرة، ربما لم يفكّر فيها من قبل. بحث عن بديل أو بدائل لاستعادة إنسانية الإنسان المهدورة . ولكن هل يكفي هذا لمقايضة ما كابده الجادرجي من ألم وانسحاق وقلق ورعب خلال تلك الفترة المضنية؟
***
لقد انقطعت حياة رفعة الجادرجي الاعتيادية يوم جاءه شخصان بملابس أنيقة وسيارة بيضاء صبيحة يوم 16 كانون الأول (ديسمبر) عام 1978 ، حيث كان عائداً من أوربا زائراً ومحاضراً حول ” العمارة وجدلياتها ” . وإذا بهما يقتادانه إلى مكان مجهول بعد أن أخبراه بأن غيابه ” لن يطول أكثر من 20 دقيقة .. يريدون الاستفسار.. بعض الأسئلة فقط وترجع إلى بيتك ” وهو الأمر الذي كان يتكرر في العراق كل يوم تقريباً.
ودام المكوث في مقر المخابرات ، في الزنزانة رقم 26 ثم رقم 5 مدّة 6 (ستة) أشهر، لم يستطع خلالها رفعة أن يغيّر ملابسه. وكان قد تردد إن سعدون شاكر مدير المخابرات حينها ووزير الداخلية بعد حين، كان قد صّرح بأن رفعة لن يتمكن من تبديل ملابسه فيما إذا كان الحكم بيدنا ، عندها سنضعه في السجن وسيرى ” نجوم الظهر “.
هل ثمة خصومة بين رفعة الجادرجي وسعدون شاكر؟ من المنطقي طرح مثل هذا السؤال ، فكلاهما من قماشة مختلفة وثقافة مختلفة ، كما لم يكن هناك حتى تعارف بينهما ، اللهم إلاّ إذا كان ” سعدون الجندي ” كما كان يسميه أقرانه ، حانقاً على رفعة الجادرجي ، يوم كان الأخير يزور مطار المثنى بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 باعتباره المهندس المسؤول وكان الأول يقضي فترة ” التجنيد الإلزامي ” في المطار، بعد أن تخلّف عن إكمال دراسته الثانوية، فهذا جانب من ” الرواية ” !
أيكون ثمة حقد طبقي ؟ حين كان الشاب الوسيم ، المتأنق ، الدارس في أرقى الجامعات ، وسليل الأسرة الجادرجية المرموقة ، خصوصاً وانه ابن كامل الجادرجي الزعيم الديمقراطي وأحد رواد المدرسة الليبرالية العراقية، بينما كان سعدون شاكر يجّر أذيال الخيبة والفشل؟ أم هو حقد على الفكر الليبرالي من خلال المدرسة الشمولية القومية المتعصبة وبخاصة بعد السيطرة على السلطة والمجتمع بل والدولة بكاملها وإخضاعها لمصالح فئة ضيقة ومعزولة وأقلوية؟
لقد بقي رفعة الجادرجي حيث هو ، أما الثاني أي سعدون شاكر ، فقد حملته السلطة إلى أعلى المستويات من جندي متسكع، وحزبي صدامي في جهاز سرّي للعنف “جهاز حنين” ، إلى قائد ومسؤول ، وأخذ ينظر إلى البشر من موقعه ، فحاول الانتقام مستغلاً صلة الجادرجي بإحدى الشركات الأجنبية ، لكي تكون التهمة جاهزة سواء بدليل أو من دونه ، طالما حصل ثمة ” اتصال ” بحكم العمل ووفقاً لمواصفاته أو لم يحصل !!!
لا ادري كم ستكون خسارتنا فادحة لو أن القدر فاجأنا وتمكّن من اختطاف رفعة الجادرجي وهو في سجنه ، وهو أمر معتاد ومعروف ، خصوصاً وانه كان محكوماً بالمؤبد ؟.
لا شك أن الخسارة ستكون كبيرة ، ليس لكون رفعة الجادرجي أحد رواد المدرسة المعمارية الحديثة حسب ، بل أيضاً وهذا جانب في غاية الأهمية ، لكونه حمل لواء إضاءة جديدة وإرهاص فكري بمحاولة استعادة وتأصيل الليبرالية العراقية وربما مواصلتها ! كما ستكون الخسارة شديدة لو ضاعت شهادة رفعة الجادرجي ذات السردية العالية ، مثلما ضاعت شهادات عشرات ومئات من الشهادات ، التي كان يمكنها أن تؤرخ لمرحلة تاريخية عصيبة وتعكس معاناة إنسانية رهيبة.
***
ولعل كتاب ” جدار بين ظلمتين ” الذي وضعه رفعة بالتعاون مع بلقيس شرارة يشكل ملامح مهمة من سردية درامية لحياة يومية تتأسس في خضم المعاناة على الفكرة الليبرالية ، التي نجد فيها الكثير من التفاصيل والمختلف والمتناقض من الأشياء، الممزوج بحبكة شديدة التعقيد ، لكنها حبكة تعكس الواقع بكل تضاداته. فقد عرض لنا الجادرجي شخصيات وصور متكاملة تابعها بدقة ورسم ملامحها وحركتها. وربما أضاف إليها شيئاً جمالياً يكاد يكون مكملاً أساسياً للسردية الجمالية وأعني به: الصورة ذاتها التي تتابعها بلقيس في النصف الآخر ، من الكتاب، الذي لا يمكن قراءته إلاّ من خلال هذه الجدلية بين الظُلمتين أو الظَلمتين.
لقد عبّر رفعة الجادرجي منذ خروجه من السجن في كتب عّدة عن أفكاره وتصوراته للعمارة والفن والجمال والفكر والسياسة ، بطريقة غير اعتيادية، باحثاً في التفاصيل وعن أدق الأشياء أحياناً ، ومصّوراً حركة الوجوه والألوان والأفعال وردودها ، في محاولة لرفع شأن الفكر الليبرالي في العراق ، الذي جرى تشويهه. وقد لا يخلو الأمر من شعور داخلي دفاعي ولكن بقراءات جديدة، وربما مستحدثة خصوصاً وقد شهد فترة سبات أو جدب بسبب العزلة والحصار والاستخفاف، وليس أدل على ذلك إعادة طبع كتاب والده ” مذكرات الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديمقراطي ” عام 2002 وهو الكتاب الذي صدر في أوائل السبعينات بعد وفاة الجادرجي في العام 1968.
وتشكل المقدمة الجديدة التي كتبها رفعة لكتاب مذكرات الجادرجي ( الكبير ) مراجعة مهمة للفكر الليبرالي العراقي ورؤية جديدة لهذا التيار ، الذي جرت محاولات عديدة ” للحط ” من شأنه ، مع إن ” الجميع ” تربوا عليه واحتموا بظلّه وتمسكّوا بالمبادئ التي دعا إليها وبخاصة في ميدان الحريات ، عندما كانوا خارج سلطة الحكم.
كما أن كتاب ” شارع طه و همرسمث ” هو رؤية مقاربة لفن العمارة العراقي والدولي ، وهو استكمال لبحث الجادرجي أيام دراسته كما يقول ، كان قد ابتدأه ، ثم واصله بعد خروجه من السجن . ونجد في كتاب ” التصوير الفوتوغرافي لكامل الجادرجي ” الصادر عام 1991 رؤية الجادرجي ( الابن ) لجماليات الجادرجي الأب. ويحتفظ رفعة هو الآخر بمئات بل آلاف الصور النادرة لمحلات وحارات وأسواق ووجوه ، لعل قسماً منها غاب ، وكأنه يريد أيضاً أن يعيدنا إلى ذاكرة منتصف القرن الماضي ، أو يعيد ذاكرة الماضي الينا ، تلك الذاكرة التي اختزنت بقيم ومُثل تلك المرحلة.
وقد حاول في كتاب ” مقام الجلوس في بيت عارف آغا ” الصادر عام 1999 تقديم دراسة أنثروبولوجية عن فترة الأربعينات والخمسينات عبر تصوير حقيقي لجماليات تلك الفترة ، عمارة وفكراً وثقافة ، من خلال العادات والتقاليد وطرق الحياة والمأكل والملبس والمرأة والطقوس الاجتماعية وبعض الرؤى الدينية وغير ذلك.
***
من الأشياء المتّميزة في كتاب ” جدار بين ظلمتين ” انه قدّم لنا بلقيس شرارة باعتبارها مشروع روائية ، حيث تابعنا شخصياتها ، التي رسمتها بدقة متناهية ، مستغرقة في التفاصيل ، متابعة بخيال كبير أجواء تلك المرحلة التاريخية … فهذه أم رفعة ، وهي تمسك سيكارتها وتكظم غضبها وغيضها ، وهذا هو نصير الجادرجي، وهو يتابع بصبر وأناة وحذر قضية رفعة بلقاءات وأسفار واتصالات تشمل شخصيات عديدة في العراق وخارجه، ناهيكم عن بعض الزوار، في المكتب، الذين يتهامسون أحياناً ويحاولون إلتقاط أي خيط جديد عن قضية رفعة، وهذه وجدان ماهر المهندسة المعمارية، التي همست بيوم الأربعاء ” المحاكمة ” ، وهي التي وصلها خبر إطلاق سراح رفعة بعد محادثة مع مهندسين إلتقاهم “الرئيس” تحضيراً لمؤتمر قمة عدم الانحياز ( الذي لم ينعقد – 1982 ).
ثم تصوّر بلقيس الأجواء السائدة ، كيف تتسرب الإشاعات وتلاحقها أحياناً ، وتميّز بين الإشاعة وما يتحقق منها أو ما يترشح من وقائع من خلالها. وتقتفي أحياناً أثر الإشاعة ، خطوة ، خطوة ، لتصل إلى أن الإشاعة هي إشاعة وتبقى الحقيقة ، حقيقة.
ويوم وصل بلقيس خبر احتمال إطلاق سراح رفعة عندما قال ” الرئيس ” ردّاً على سؤال عن المهندسين المعماريين المطلوب منهم ” تجميل بغداد ” ، التي تنتظر قمة عدم الانحياز ، فأخبره أحد المهندسين بوجل شديد ” لدينا خيرة المهندسين المعماريين … ” فسأله الرئيس : أين هم ؟ فأجاب : ” واحد برّه والثاني جوّه ” وقصد بذلك الدكتور محمد مكية المعماري الشهير ورفعة الجادرجي المعماري المعروف ، أي أن الأول خارج العراق والثاني في السجن ، فما كان من ” الرئيس ” إلاّ أن يقول ” البرّه نجيبوا والجوّه نطلعوا ” هكذا بدا المشهد من عالم اللامعقول، فبعد أسابيع يجتمع على مائدة ” الرئيس ” صدام حسين ، محمد مكية ورفعة الجادرجي ، ليبحثا ومع أمين العاصمة أيضاً ( سمير الشيخلي ) وهي مفارقة أخرى ، موضوع تجميل بغداد واستقبال وفود دول عدم الانحياز.
العالم السريالي السجني ، الذي تحدث عنه رفعة بدا ” واقعياً ” أو أكثر سريالية من الخيال نفسه بحكم اختلاط الخيال بالواقع والواقع بالخيال لدرجة لم يكن بإمكانك التمييز أحياناً بين الأول والثاني ، فما هو واقعي يصبح خيالياً وما هو خيالي يصبح واقعياً ، لدرجة استبدال المواقع والأماكن والتواريخ والأسماء والمواصفات والوقائع، يوم تحوّل ” المجرم ” المحكوم ب ” المؤبد ” والمكروه من الرئيس السابق أحمد حسن البكر ، والمنكّل به من جانب سعدون شاكر ، الحاقد والمنتقم لأسباب بقيت غامضة ، إلى جليس مع الرئيس ومعه مكيّة ، الذي كان الرئيس هو الآخر يقدّم له التسهيلات لكي يعود . كل ذلك يحدث دون مساءلة أو مناقشة أو مراجعة أو رد للاعتبار بل بحكم إرادة الفرد المهيمن على كل شيء، فهو الحاكم بأمره وتلك إحدى مكرماته ، حين يعفو ويمنح ويلغي ويصادر و ” يعلي ” و ” ينزل ” ولكن كل ذلك كان بعيداً عن دائرة القانون والقضاء، اللذان كان يتم استذكارهما فقط عند تبرير أي ” فعل”!!.
يومها هجس رفعة وهجست بلقيس ، إن الفرق كبير بين تجربة سجن كامل الجادرجي ( الأب ) وتجربة سجن رفعة ، ذلك أن الحاكم الذي أصدر الحكم بحق الجادرجي الكبير كان يحكم بنوع من المؤسسات وبشيء من ” الشرعية ” حتى وان شابها الكثير من الملاحظات والطعون ، ولكن الحاكم الحالي كان يحكم بأمره ودون مؤسسات وكان بإمكانه تغييب رفعة ، ولكن حكام أيام زمان لم يكن بإمكانهم تغييب كامل الجادرجي ، وهو ما استذكره ماجد مكي الجميل في كلمته عن عمّه حسين جميل نقيب المحامين العراقيين الأسبق وأمين عام اتحاد المحامين العرب وأحد رواد الفكر الليبرالي الديمقراطي العراقي ، حين قارن بين سجنه وسجن ابن أخيه ، حيث قال ” حسين جميل ” إلى ماجد: سجني أقسى من سجنك لأن من سجنني كان يملك مؤسسات، في حين إن من سجنك كان يفتقد إليها ، وبهذا المعنى فان حجب حريتي كان أكثر قسوة من حجب حريتك.
بجرّة قلم ألغي حكم المؤبد بعد أن أشار ” الرئيس ” إلى طارق حمد العبد الله، أحد مرافقيه ، الذي انتحر فيما بعد لأسباب أخرى تتعلق بالهواجس أيضاً ، مخاطباً إياه: ضروري إنهاء قضية رفعة. هكذا أسدل الستار وكأن شيئاً لم يكن.
*****
إن كتاب ” جدار بين ظلمتين ” هو مشروع رواية بكل معنى الكلمة ففيه سردية عالية الحساسية لسيرة سجنية ، كما فيه سردية أخرى لحياة لا تقل عتمة عن السجن ، حيث الإشاعات والرعب والمخبرين والأدعياء والقلق والمصير المجهول. أما القانون وحقوق الأفراد والمجتمع ، فتلك أمور ليس لها عناوين في قاموس الحكم الشمولي المطلق والحاكم بأمره.
لولا صدور هذا الكتاب الشّيق ، ما كنّا قد حصلنا على مصدر جديد للتجربة العراقية، حيث عالم كافكا العراقي تجده ماثلاً للعيان.
ربما كانت مقدمة بلقيس شرارة عن كتاب أختها ( حياة شرارة ) الأستاذة الجامعية التي انتحرت ( في أواسط التسعينات ) هي وابنتها بطريقة عاصفة وفاجعة ومثيرة، مقدمة لهذا العالم الكافكوي ، الذي يتحوّل فيه المرء إلى صرصار.
وقد لفتت مقدمة كتاب ” وإذا السماء أغسقت ” الانتباه إلى بلقيس شرارة باعتبارها صوتاً سردياً مضافاً إلى الرواية ذاتها ، التي سجلّت احتجاجاً عميقاً على أوضاع بالغة القسوة والوحشية ، أوضاع مزرية وحاطة بالكرامة ، من استبداد طويل الأمد ولا ضوء في نهاية النفق ، إلى حصار دولي جائر وتفكك النسيج المجتمعي العراقي.
فحياة شرارة قبل أختها بلقيس ، كانت شديدة الحساسية إزاء الكرامة والحرية ، وذلك للقيم التي تربّت عليها والتأثر الكبير بوالدها رجل الدين محمد شراره الذي درس في النجف لسنوات طويلة علوم الدين قادماً من لبنان ، ليتحوّل إلى نصير للمرأة وحريتها وللفكر الليبرالي واليساري وهي تجربة مماثلة عاشها المفكر اللبناني حسين مرّوة الذي درس الفقه وعلوم الدين في النجف 14 عاماً في ” مدرسة الخليلي ” الشهيرة في عكَد السلام في محلة العمارة في النجف، وليتحّول بعد ذلك إلى أحد رواد الفكر الماركسي فى العالم العربي خصوصاً وقد كتب مجلداته الشهيرة “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية “ في أواخر السبعينات، وكان قد علّق في وقت سابق انه تعرّف على ماركس في النجف .ولعل المدرسة النجفية كانت قد خرجت باقة متنوعة ومتميزة من المفكرين والدعاة اليساريين والليبراليين ورجال الدين المتنورين، وتلك إحدى خصائصها وميزاتها.
لقد وضعت حياة شرارة زوجة الدكتور محمد صالح سميسم الشيوعي المعروف ونزيل السجون والمعتقلات والمتوفي أثر اعتقالات متكررة له عام 1983 ، حداً لحياتها قرباناً للحرية التي نشدتها ونشدها العراقيون ، يوم لم يكن الصمت سوى أحد أشكال المواجهة ، فما بالك إذا كان الموت صمتاً ، فلعل في ذلك تحدياً من نوع أكثر إثارة ورنيناً خصوصاً وقعه على الوسط الأكاديمي والجامعي والثقافي وعلى النخب الفكرية والسياسية.
*****
يتحدث رفعة عن الزنزانة رقم 26 فيقول ” … لا تدخلها الشمس إلاّ لبضع دقائق وقت الغروب ” . كان رقمه 200 وطلب منه أن ينسى اسمه .. ” أجساد ملقاة في الزنزانة بلا حركة ، وبلا صوت ، سوى معاناة داخلية ، لا تُسمع خارج الأبواب الحديدية ” ص 144 هكذا يكون كل شيء ثقيلاً هواء ثقيل ممتزج برطوبة أنفاس الآخرين …وروائحهم النتنة …” ص 146 . ثم يرسم رفعة صور الشخصيات السجنية عبر سوسيولوجيا ثقافية نافذة ” فهذا أبو علي : الراعي من غرب العراق، انتهازي ، أناني ، متملق ، يخضع للحرس ويناديهم ب ” سيدي ” يتباطأ باستعمال المرحاض من غير مراعاة حصة الآخرين …”.
وهذا محمد الشاعر الكردي ، الماركسي ، الذي يعتبر ورفعة ” الانتظار في ظلمة الزنزانة حالة قتل للفكر … ” ص 148 ، ولعل ذلك يذكرنا بالفنان رشاد حاتم الذي كان الزعيم الشيوعي فهد يقول له ادفع الجدران وتصوّر العالم خارجه وارسم.. ولعل رفعة يقول انه كان في حالة من ” البحث عن إلهاء الدماغ وإشغاله بمسألة خارج الوجود “.
يتحدث رفعة الجادرجي عن سعد الإطفائي ، اللطيف ، النظيف ، المصاب بأرق إرهابي دائم وهو الخوف من التحقيق . أخوه متهم بالشيوعية ولذلك فهو دائم الرعب. ويذكر قدراته الخارقة : قدرته في معرفة الوقت ، بدون ساعة ، فيقول لك : الساعة الآن الخامسة والربع أو العاشرة إلاّ عشرة دقائق. يتعرف على الوقت عن طريق الصوت، صفير القطار، حركة سيارة المخابرات، موعد وجبات الطعام، زقزقة العصافير في المساء أحياناً.
أما حامد فهو من جنوب غربي العراق ، قصير القامة ، بدين ، سريع الحركة، يتصف بقفزات متقطعة ، صاحب دكّان للمواد الغذائية ، لا يراعي حصة كل فرد للمدة التي يقضيها في الحمام ، يضربه الحرس على رقبته ، وهناك إيراني الجنسية ، لا يكّلم أحداً ، يشك بالجميع ويصلي ويتوسل إلى ربه ( ص 158 ) .
ويصف رفعة حركة النمل وأنواع القمل وألوانه ومكان وجوده و العصبة التي توضع على عينيه خلال استدعائه للتحقيق ( 5 مرات ) واستخدام التلفون الذي سُمِحَ له أحياناً والشيفرة التي كانت بلقيس تلتقطها على الطرف الآخر من التلفون.
*****
لقد خصصت الدولة محامياً للدفاع عن مجموعة رفعة كما كانت تسمى “أصحاب القضية الواحدة” وهو لا يعتبر محامياً بالمعنى المعروف في القانون والعرف الدولي وبخاصة إزاء المحاكمات العادلة والمعايير الدولية ، بل هو موظف عينته السلطة ليقوم بتأدية هذه المهمة مقابل أجر مقطوع. ومهمة المحامي ليست الدفاع عن المتهم، وإنما طلب الرأفة والرحمة من السلطة، بحق المتهم وتخفيض الحكم، ولا تستغرق محاكمة المتهم عادة أكثر من بضع دقائق قبل أن يقرأ الحكم المقرر بحقه مسبقاً. ص (187)
تقول بلقيس عندما حاولت استنطاق نصير الجادرجي ( شقيق رفعة ) وهو من المحامين المعروفين : لقد جثت الكلمات ضاغطة على شفتيه وأزاح ما ينوء به عندما نطق كلمة ” مؤبد “. ثم تقول بعد صمت طويل ومرير : انفلت الصمت السجني بين شفتي وعصرت كلمة مؤبد بين فكّي وأسناني وسال عصيرها القاتم المّر بين شفتي، مؤبد، مؤبد، مؤبد، …
وهنا نلاحظ صورة التناقض وجمع الأضداد، فبعد هذه الصورة القاتمة تعود بلقيس لتصف الربيع بعنفوانه الزاهي، الضاحك، وعشب الحديقة الغامض المقصوص بالتساوي كسجادة خضراء، والياسمين المتسلق على جدران دارنا بألوانه الوردية، البيضاء، تفوح رائحتها العطرة في أجواء الحديقة.
وتصف كيف انفجر السائق حسين بالبكاء عندما سمع خبر حكم رفعة بالمؤبد، وهو السائق الذي عاش مع العائلة ردحاً من الزمن وصار جزءاً منها، هكذا يشعر وهكذا يشعرون.
لم تكتفِ بلقيس بذلك بل تصف لنا ” لسعة الشامتين بنظراتهم كلسعة النحلة، ولكن كانت خيبتي عميقة ولسعتي مؤلمة كلدغة العقرب المفاجئة من الأصدقاء الذين ظننتهم سنداً في تلك المحنة” ص ( 216 ) . لقد انقطع البير عن زيارة بلقيس، وكان التبرير: متألم على صديقه وخائف على نفسه، وهو أمر طالما تكرر في عالم الرعب العراقي، ولا يشمل الأصدقاء أحياناً، بل الأهل والأخوة والأخوات والأعمام والأخوال، طالما كان الحاكم يتهم الجميع.
وتصف بلقيس ألمها من بعض المظاهر الاجتماعية المنافقة بالقول : لم أكن أدعى إلى حفل خطوبة أو زفاف، حتى من أقرب الناس اليّ، فقد أخفوا وكتموا عني أفراحهم … المجتمع التقليدي قاس على المرأة، الأرملة لاحّق لها بالتبّرج أو ارتداء الألوان البهيجة. انحصر حقي في حضور المآتم فقط كان في تلك المآتم نسوة لا يستطعن التوقف عن الكلام … كنت أعود إلى الدار كئيبة، أستمع إلى مغنية الأوبرا ماريا كلاس وأتخلّص من أشباح الموتى.
لنستمع إلى حوارها الداخلي وهي تردد ” صرت أتجنب زيارة المعارض الفنية، لكي أتفادى جفاء بعض الناس … كأنهم يخافون وباءً أنقله أليهم إن ردوّا علّي السلام ” … وتضيف ” كان يعزّ علّي أن أجد أُناساً مثقفين ومتعلمين، يؤمنون بقيم التحرر ولكنهم يتصرفون بأسلوب المجتمع الأبوي، ولا يختلفون في تفكيرهم وتطبيقهم للتقاليد عن الإنسان الجاهل البسيط … ” وتفصح بلقيس عن رأيها بالقول ” … نحتاج إلى أجيال لتحديث العقلية وإلغاء القيم السلفية – التي هي أقوى بكثير من الإرادة التحررية …” ص (223 – 225).
ومن سياقات فكرها الليبرالي، النصف الآخر لفكر رفعة تصف حال المجتمع … ” اتجه البعض إلى الدعاء والصلاة .. فلليأس راحة نتنه عندما يخبو الأمل ولا يستطيع الإنسان الاستمرار في الحياة اليومية، بل يتمسك عندها بالغيبيات ويلجأ إلى السحر والشعوذة والتعاويذ … ” ص 226.
تنقل هنا صورة عن تردي المجتمع وحال بعض صديقاتها اللواتي اتجهن إلى السحر وقراءة قهوة الفنجان وزيارة العرافات وقراءة الكف والودع.
كيف لها أن تقبل كل ذلك وهي التي نشأت في طفولة لا تؤمن بذلك، وكانت تتعامل مع مقترحات البعض إلى ام رفعة ” بقراءة سورة معينة من القرآن الكريم ألف مرّة ” بالصمت، والازدراء الداخلي.
مّرة أخرى تواجه رائحة العفن النابعة من اليأس، بالحديث عن نقيضه الربيع وحديقة الدار رغم مرور سنة على صدور الحكم ضد رفعة بالمؤبد … تفتحت ورود الجوري وملأ عبيرها جو الحديقة، وفاحت رائحة الياسمين المتسلق جدار دارنا، بألوانه الوردية والبيضاء، وامتزجت بعبق الجوري والشبوّي والليلي … ص (227).
*****
” جدار بين ظلمتين ” هو سيرة ذاتية واقعية لمرحلة زمنية تتجاوز العشرين شهراً، ولم يكن لهذه السيرة أن تدوّن إلاّ خارج العراق وعشية رحيل الاستبداد.
وإذا كان كثيرون دخلوا السجن، لكن رفعة كان مختلفاً … عاش في السجن على طريقته الخاصة، ودوّن أدق التفاصيل واليوميات على نحو روائي. أما الجدار الذي كان يفصل رفعة عن بلقيس فقد كان غير قابل للاختراق بحيث جعل كلاً منهما يعيش في ظلمة على حد تعبير رفعة في مقدمة الكتاب. وبعد 15 سنة قرّرا أن يكتب كلاً منهما من موقعه عن ذلك الجدار الذي فصلهما عن بعضهما، فكتبت بلقيس عن الظلمة الخارجية بما فيها من أحداث ومشاعر ومحن وإحباطات، وكتب رفعة عن الظلمة الداخلية.
كان الجو الذي خيّم عليهما يفرض على كل منهما أن يواجه الأحداث بمفرده ولا يستعين بالآخر.
***
طريقة الكتابة والغلاف هي الأخرى متميزة. اتفقا أن يكتب كل منهما ما يتذكره بمفرده من غير أن يطلع عليه الطرف الآخر، وذلك بهدف استكمال النصوص واستهدفا ” تكوين خزين مرجعي صادق ومحلل للأحداث ” ، أي تحويل الذاكرة الشفوية إلى ذاكرة مكتوبة ، وتحويل الأحداث اليومية البسيطة وربطها ببعضها إلى نوع من السردية عن مرحلة من المراحل التطور السياسي في العراق، وان كان الهدف غير سياسي، كما سيأتي ذكره على لسان الكاتب رفعة نفسه. أما الغلاف فقد انقسم إلى قسمين بشكل هندسي وكانت الضلال هي الحد الفاصل بين طرفي الجدار المعتمين.
لكن تلك السردية اشتملت على الانتصار لحقوق الإنسان والقيم التي تؤمن بالحرية سواء كان مصدرها علماني أو ديني. ويلقي رفعة من خلال فصول الكتاب الأربعة وكذلك بلقيس،بلغة غنية ومثيرة وبأسلوب أنيق ورشيق، نظرة نقدية للمجتمع العراقي ومرجعياته، كما يبيّن مواقفه من الوجود والحداثة والجمال وغيرها. ويشير إلى أن أوساطاً واسعة غارقة في عالم الغيبيات والأساطير وتشكل معوّقاً فكرياً إزاء متطلبات الحداثة والتغيير.
ويتوصل رفعة الجادرجي إلى استنتاج مهم هو : إن المجتمع العراقي لم يمتلك فرصة لممارسة السياسة، قبل تأسيس الدولة العراقية، وما حصل بعد تأسيسها جاء ناشئاً وأخمد في مهده، وبقيت الدولة الناشئة تابعة لسلطة رجال الحكم ومُبتلعة من قبلها، وذلك لأسباب متعددة منها :
أولاً – إن المجتمع العراقي لم يمارس السياسة في السابق ولم يمتلك دولة مبنية على المؤسسات بالمفهوم العصري، ولذا فهو لم يدرك أهمية السياسة في تنظيم إدارة معيشته، والحرية التي يمكن أن يتمتع بها ويمارسها…
ثانياً – إن المجتمع العراقي لم يحظَ بقيادة سياسية فكرية أي مرجعية، تسعى لتوعيته، فظل مُستلباً تحت إدارة سلطوية سواءً كانت دينية أو دنيوية، وهنا تكمن حسب الجادرجي أهمية تكوين مرجعية فكرية سياسية معاصرة.
إن هواجس وتحديات الفكر الليبرالي التي جسدتها بشكل خاص تنظيرات الجادرجي الأب وحسين جميل وفيما بعد إرهاصات الجادرجي الابن والحنين النستالوجي للمدرسة الليبرالية العراقية، ومن ثم هيمنة الفكر الشمولي وتطبيقاته المختلفة، هي التي تجعل الجميع اليوم أمام سؤال كبير: ما هو السبيل إلى استعادة العراق نموه الطبيعي بعد سنوات عجاف من العسف والاستبداد وأخيراً وقوعه تحت الاحتلال وصعود تيارات دينية طائفية ومذهبية وفي ظل انقسام وتشظي وعنف منفلت من عقاله ولهاث وراء المصالح الأنانية الضيقة!؟
ربما يساهم الجواب الصحيح على هذا السؤال البسيط والمعقّد في آن، في فتح الطريق مجدداً أمام تطور ديمقراطي وتراكم طويل الأمد لإستعادة الحياة المدنية السلمية الطبيعية بعد إرادوية قهرية أعادت المجتمع إلى الوراء رغم كل الادعاءات والتبجحات بالتغيير والتثوير لفرض نوع من التطور وفقاً لرغبات واتجاهات القوى الآيديولوجية عبر إنقلابات وتصورات مسبقة، دون استكمال دورة التطور التدريجي المدني السلمي .
ولعل الإصغاء إلى إرادة الحياة وسماع إيقاعها ونسقها الصاعد كفيل بإعطاء الفرصة للبشر في إعادة تنظيم حياتهم على أساس احترام الإنسان وحقوقه الأساسية وخصوصياته وفي ذلك إحدى دروس التجربة التأريخية للمدرسة الليبرالية بل ولجميع المدارس الفكرية والفلسفية مهما تباينت المنطلقات فالإنسان هو مقياس كل شيء على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس .