مظفر النواب بين المنافي والسجون.. شاعر الوطن المفقود والمرأة الغائبة

مظفر النواب بين المنافي والسجون.. شاعر الوطن المفقود والمرأة الغائبة

فاطمة قباني

بين السجون والمنافي، صقل مظفر عبدالمجيد النواب مواهبه الأدبية واطلاعه الإنساني والثقافي ليترك المكتبة العراقية والعربية غنية بمؤلفات ودوواين شعرية امتزجت قصائدها بالتراث الشعبي العراقي، فمن هو مظفر النواب، وهل شهرته بسبب نشاطه السياسي أم قصته الدرامية أم موهبته الشعرية!

ولد النواب لأسرة ارستقراطية عام 1934 في مدينة بغداد، وبدت عليه الموهبة الشعرية في وقت مبكر من عمره، واختبر مدرس المرحلة الإبتدائية قدرة النواب على  نظم الشعر وسلامته العروضية في الصف الثالث الإبتدائي، وحين وصل إلى المرحلة الإعدادية، أصبح ينشر ما تجود به قريحته في المجلات الحائطية التي تحرر في المدرسة والمنزل كنشاط ثقافي من قبل طلاب المدرسة.

و منذُ كان طالباً في المتوسطة كان التمرد رفيقاً له ، حيث وصل به الامر الى الهروب من المدرسة للمشاركة في المظاهرات ، وكان لوقوع بيته في الكرخ التي اصبحت مكاناً لانطلاق المظاهرات حيث كانت اول مشاركة له في وثبة كانون 1948 ضد معاهدة بورتسموث …

التحق مظفر بمسار السياسة الذي قاده مباشرة إلى السجن، مرة تلو مرة، إلى درجة أصبحت لدى النواب خبرة وقدرة على الهروب، ونفذ عدة محاولات هروب منها الناجحة ومنها الفاشلة، ولكنها كلها كانت مثيرة،   آخرها الهروب عبر  نفق سري من سجن الحلة جنوبي بغداد، وبعد الهروب  ترك النفق مفتوحا ليساعد في تهريب سجناء آخرين.

البراءة والإعدام في السجن، استوحى النواب أفكارا وتفاصيل دقيقة انعكست في نتاجه الأدبي، مسرحية أبو سيكو، المبنية على شخص قابله في السجن  يتكلم وهو مغمض العينين تحت تأثير المواد المخدرة، وتجري أحداث المسرحية في بغداد القديمة وأبطالها يمثلون حياة الناس البسطاء.

هذه قصيدة احكمت على مظفر بالاعدام ولكن بعد تتدخل المساعي الحميدة تم تخفيف الحكم وتحويلة الى سجن مؤبد وهذه القصيدة ساعدت مئات من سجناء شيوعين بعدم اعلان البراءة عن الحزب الشوعي،

وفي السجن أيضا، كانت قصيدة البراءة بمثابة قانون فوق القانون، إذ انتشرت القصيدة بسرعة وذاع صيتها، فقد كانت قصيدة عامية كتبها من جزئين، الاول عن لسان الام وجزء الثاني عن لسان الاخت التي تتبرأ من اخيها.

قصيدة البراءة

تدري يابني بكل براءة كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه

وخلي ايدك على شيبي واحلف بطاهر حليبي

كطرة كطرة وبنظر عيني العميته

قلي مايتدار رجمي وانت امي وذاك حزبي

وعز ابوي المالواني ومالويته

قلي مااهدم حزب بيدي بنيته

حياة حافلة بالأحداث المصنفة في خانة الكوميديا السوداء،

تلك هي حياة الهارب من  تنفيذ حكم السجن المؤبد ، امضاها  متخفيا عن الأنظار بين الفلاحين والبسطاء في بغداد والاهوار..

ولكن انقلبت الاية فجأة مع صدور عفو عن المعارضين عام 1969، وعاد مظفر لوظيفته الحكومية في التعليم، وبدأت الحياة تلين له وتنفتح ابواب الدنيا بأسرها أمامه فيتنقل بين عدة عواصم عربية واوروبية..

ولكن سرعان ما عادت مشاكسات مظفر وقصائده لتوقع به في المشكلات، فبعد ان حاز على رضى نسبي من الانظمة القمعية

جاءت قصيدة القدس عروس عروبتكم لتسبب بداية مرحلة جديدة من حياته، فأصبح ممنوعا في معظم ارجاء الوطن العربي

وانتشرت انتشارا جماهيريا واسعا، بالرغم من محتواها الذي وردت فيه ألفاظ تخدش الحياء، الا انها انتشرت للجرأة في مهاجمة وانتقاد الانظمة العربية بعد نكسة فلسطين.

كان الغضب سيد الموقف الثقافي على الساحة العربية بعد نكسة فلسطين، ولكن سرعان ما خيم الحزن على كل شي حولنا، بدءا من الأدب والقصائد وانتهاء بالحياة اليومية البسيطة، وذلك احد اسباب انتشار قصائد مظفر والتصاقها بالتراث الثقافي العراقي والعربي، فقد انتشرت عدة اغاني بأصوات كبار مطربي العراق كانت كلماتها في الأصل قصائد شعبية من ديوان النواب.

كأغنية الريل وحمد غنى هذه القصيدة (الفنان الياس خضر وألحان الراحل طالب القرغولي )

كتبت القصيدة عام 1956 وأكملها عام 1958

فتعود قصة القصيدة مبنيّة على قصة واقعية، ملخصها أن مظفراً إلتقى إمرأة شابة من جنوب العراق  في عربة الدرجة الثالثة من قطار البصرة – بغداد. و لمّا إستفسرَ عن سبب بكائها حين مرورهم أحدى القُرى، قرية أم شامات، حَكَتْ له قصة حبِّها التي لم ترَ النور وأنتهت بهروب البنت الشابة من بيت أهلها.  بعد  ان تتطورت العلاقة بينهما ورفقا للتقاليد و الاعراف العشائرية قرر اهلها قتلها .

مظفر  بالرغم من شهرته الواسعة كانت حياة بسيطة وفق ما يخبرنا به صديقه الأديب كاظم غيلان

عن حزن الموجود لدى النواب

ليس الحزن أن نحزن.. انما الحزن  أن لانحزن) هذا ما قاله مظفر في مقدمة وضعها لواحدة من أبرز قصائده العامية واسمها ( حجام البريس ) .

مظفر يكتب ما يراه ويحسه حتما كأي إنسان، فكيف به شاعرا كبيرا ؟ من المؤكد أو البديهي أن يتسع الحزن في داخله ويأخذ مديات واسعة لاسيما وأن الاحزان والانكسارات قد عصفت بحياته منذ وقت مبكر إذ اخذت منه همومه وانشغالاته السياسية الكثير.

قد يظن القارئ للسيرة ان بطلها بعيد عن الحب كرس نفسه وشعره للوطن والسياسة، ولكن للحب نصيب الأسد من قلب النواب وشعره أيضا.. بداية من صاحبة السيارة الزغيرة التي التقاها في شارع مزدحم وتمنى لو كان منديلا ليمسح قطرات العرق من على وجهها – كما يحكي بنفسه – مرورا بكثيرات غيرها دون أن ينجح في الزواج بواحدة منهم.. وهو الذي يصرح بأنه ليس نادما على عدم زواجه ناسبا ذلك الي الضرورات الشعرية، فهو يرى ان الشاعر يحتاج إلى فراغ هائل وليس الي صخب..

رأي يخالفه فيه كثير من الشعراء المتزوجين والشاعرات.

حق الاب

وبالرغم من عدم زواجه، فقد حظي النواب بولد يؤدي حق الاب على أولاده، ولكنه ليس ابنه، انه من معجبيه، وهو شاب سوري في أواخر العشرينات من عمره، تطورت علاقة الإعجاب بالشاعر الكبير إلى صداقة انتهت بالمشاركة في السكن والاهتمام باحتياجاته.

مواقف كثيرة جمعتنا ولا مجال لسردها كلها فلربما لاتتسع المساحة لها ، لكن أتذكر ربما بعضها خاصة تلك التي تتعلق بالشعر  ففي إحدى زياراتي المعتاد عليها لدمشق ايام كان مقيما بها

ولحسن المصادفة كان الصديق الشاعر العراقي كامل الركابي قادما لها من السويد حيث منفاه فدعانا الأستاذ مظفر لسهرة في شقته بأحدى احياء دمشق إلا أنه طلب مني أن تكون معنا اخر كتاباتنا الشعرية أو جديدنا في الشعر ، كانت سهرة ممتعة وللأمانة كان معنا الشاعر رياض النعماني الذي يقيم هناك والذي رافقه لسنوات طويلة ، قرأنا انا والركابي جديدنا الشعري وحين انتهينا كان بنا حماس لأن نعرف رأي النواب بالقصائد إلا أنه راح يحدثنا عن علاقة اللون بالشعر وكانت أشبه بمحاضرة قيمة جدا لما فيها من وعي شعري عال ربما استمده أو خبره من تجربته كفنان تشكيلي اذا ما عرفنا بأن الاستاذ  مظفر هو أحد أركان جماعة الانطباعيين وهي من الجماعات التشكيلية العراقية أسسها الفنان التشكيلي الرائد الراحل حافظ الدروبي والذي يطلق عليه النواب كلمة معلمي للان.وعذرا إذ لم تسعفني الذاكرة باستدعاء وقائع كثيرة لاسيما تلك التي عشتها معه عن قرب أثناء مرافقتي له في زيارته لبغداد مايس 2011.

هذا مااخبرنا به الشاعر كاظم غيلان هو يتحدث عن موقف جمعه بالنواب