غاندي و تولستوي
إلى الصحفي العراقي المبدع الاستاذ “خالد القشطيني” , الذي قرأت له بتاريخ 30 / 12 / 2014 مقالة رشيقة جدا في صحيفة الشرق الاوسط ترتبط بهذا الموضوع بالذات عنوانها ( من كارل ماركس الى ليو تولستوي )
لا زال هذا الموضوع الكبير والمهم فعلا مطروحا وبقوة وحيوية امام القراء العرب لحد الان حول الكاتب الروسي الكبير “ليف نيقولايفتش تولستوي” ( 1828 – 1910 ) , ونحن في اواسط العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين , وأذكر ان أحد الزملاء العرب من الوفد الفلاني قد تناقش مع زميل عربي آخر من الوفد الفستاني ( في الباص الذي نقلنا من موسكو الى ياسنايا بوليانا اثناء انعقاد اجتماع المكتب الدائم لاتحاد ادباء آسيا و افريقيا في سبتمبر / ايلول 2014 لزيارة بيت تولستوي ) حول موقف هذا الكاتب الروسي من الدين الاسلامي ( وهو موضوع كان ولايزال يثار حوله نقاش طويل وعريض في اوساطنا العربية والاسلامية ( حصرا فقط لا غير ) وخصوصا في السنين الاخيرة منذ ان بدأت ( الفتاوي . . ! ) تدق بابنا ,عندما بانت ( ثم بدأت الان تتلامع ) رؤوس الحراب , ولما وصل هذا النقاش الى نقطة متأزمة ومتشنجة ومتناقضة كليا ولا رجعة فيهبين الجانبين , اقترح احدهما ان يستمع الى رأي الشخصيٌ حول ذلك الموضوعفي محاولة لانهاء هذا النقاش الفلسفي والمتشابك باعتباري طرفا ثالثا ومتخصصا عربيا في الادب الروسي وتاريخه و ( محايدا في هذا النقاش ) .
اذ اني كنت طوال الوقت صامتا ومبتسما وأصغي بكل انتباه الى أقوالهما ونقاشاتهما الحادة و المتناقضة جدا حول ذلك , وعندما حاولا كلاهما الاستماع الى وجهة نظري قلت لهما فقط ( في محاولة لتهدئة الخواطر المتأججة والملتهبة جدا والمتطرفة كما هي العادة في نقاشاتنا العربية ) , ان تولستوي هو فيلسوف روسي ويعد واحدا من ابرز الشخصيات المؤثرة في تاريخ هذه الفلسفة , وان العالم يعرف ان من تلاميذه الروحيين ان صحت التسمية هو غاندي , وسألتهما هل هما متفقان حول ذلك , فأجابا كلاهما نعم , هذا صحيح , فقلت لهما وانا أبتسم , اذا كنتما متفقين بشأن ذلك ,فان موضوع نقاشكما محسوم عندها , اذ من الواضح للجميع تماما من هو غاندي , وبالتالي سيكون واضحا ايضا من هو استاذه الروحي تولستوي , ولا نريد في مقالتنا هذه الاستطراد في طبيعة ذلك النقاش الذي جرى بينهما حول موقف تولستوي من الاسلام , لان ذلك موضوع آخر في مسيرة تولستوي ومكانته في تاريخ الافكار , اذ اننا نعتقد ان القارئ العربي لا يعرف الكثير حول ذلك الموضوع , ومع ذلك , وعلى الرغم من ذلك , فان بعضهم قرر اعتبار تولستوي يقفمع هذا الجانب او ذاك دون الأخذ بنظر الاعتبار الوقائع المحددة في حياة ومسيرة هذا الاديب والفيلسوف الروسي الكبير.
نعود الى المهاتما غاندي ( 1869 – 1948 ) ونتوقف عند علاقتة الفكرية مع تولستوي , لقد تناولت كل الدراسات والبحوث الروسية ومنذ زمن بعيد هذا الموضوع وبتفصيل كبير , وعرضت حتى نصوص المراسلات المتبادلة بينهما باللغتين الانكليزية والروسية , والتي تشير الى ان الرسالة الاولى كتبها غاندي نفسه الى تولستوي بتاريخ الاول من اكتوبر / تشرين الاول عام 1909 ووقعها بــ ( خادمكم المطيع ) , واجابه تولستوي بتاريخ 7 اكتوبر / تشرين الاول من نفس العام , ثم كتب له غاندي بتاريخ 4 ابريل / نيسان عام 1910 وبنفس التوقيع المذكور , واجابه تولستوي بتاريخ 25 مايس / ايار عام 1910 طبعا , وكتب غاندي آخر رسالة الى تولستوي بتاريخ 15 آب / اغسطس من نفس العام واجابه تولستوي بتاريخ 7 ايلول / سبتمبر , وهي آخر رسالة له الى غاندي , اذ انه توفي بعد شهرين فقط من تاريخ تلك الرسالة .
وحتى المصادر العربية تحدثت بشكل او بآخر حول هذا التناغم الفكري بينهما , ولكن بطريقة عرضية وبدون تعمق , وقد راجعت معظم تلك المصادر ووجدت انها تقر وتعترف بتأثير افكار تولستوي على غاندي منذ ان أطلع على كتابه الشهير ( مملكة الرب في اعماقكم ) والتي جاءت بمختلف الاجتهادات في الترجمات العربية مثل ( الخلاص في انفسكم / الله في اعماقكم / . . الخ ) , وان غاندي وجد في تعاليم تولستوي سندا معنويا قويا وحاسما له حول المبدأ الذي آمن واقتنع به وهو مبدأ ( المواجهة السلمية ) او ( عدم العنف ) او ( اللاعنف ) او ( المقاومة السلمية ) او ( اللامقاومة ) او ( العصيان المدني) الى آخر هذه التسميات كما جاءت في مختلف تلك المصادر , وان غاندي استخدم هذا المبدأ في كفاحه العظيم من اجل تحرير الهند من الاستعمار البريطاني , ونجح في ذلك نجاحا باهرا كما هو معروف على الرغم من نهايته التراجيدية , ونجد في نص الرسالة الاخيرة التي كتبها تولستوي نفسه الى غاندي بتاريخ 7 ايلول / سبتمبر عام 1910 كما أشرنا أعلاه الكلمات الآتية :
( المحبة . . هي شريعة الحياة الوحيدة والعليا . . وهذه الشريعة اعلنها حكماء الكون جميعا . . واعتقد ان أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح . . وكل انسان عاقل يعرف ان ممارسة العنف لا تتوافق مع المحبة بوصفها قاعدة الحياة الاساسية )
ومن الطريف الاشارة هنا الى الرأي الذي كتبه المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد ( 1889 – 1964 ) حول ذلك في موسوعته الاسلامية ( المجلد الثاني ) , اذ انه اكٌد على هذه الحقائق والوقائع في حياة غاندي و كتب ما يأتي :
( وقيل ان غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليون تولستوي , وقيل بل هو احرى ان يعرفها من آداب البرهيميين والبوذيين التي تحرم ايذاء الحيوان فضلا عن الانسان , قبل ان يشرٌع ليون تولستوي مذهبه الجديد )
وهذه ملاحظة صحيحة ودقيقة , اذ ان افكار تولستوي فعلا كانت بالنسبة لغاندي سندا آخر كما اشرنا اعلاه , وهو سند قوي وحاسم طبعا قبل الشروع بتنفيذ افكاره والانطلاق بها في مسيرة التطبيق العملي والحياتي .
ان الخلاصة في هذا الموضوع تكمن في ان تولستوي قد أخذ من كل النظريات التي اطلع عليها ومن كل الاديان التي درسها بعمق نقاطا محددة واستخلص استنتاجات معينة , وان افكاره بشأن ( اللاعنف ) قد استمدها من المسيحية قبل كل شيء كما يشير هو في رسالته الى غاندي , اي ان فلسفة تولستوي هي مزيج حيوي متناسق من كل النظريات و الاديان ولا يمكن بالتالي اخضاع فلسفتة وافكاره تلك الى دين واحد , و الخلاصة الاخرى في هذا الموضوع تكمن في ان غاندي قد وصل الى فكرة ( اللاعنف ) من اطلاعه على التراث الهندي العميق اولا , وانه وجد التناغم والانسجام مع افكار تولستوي في هذا المجال .
بقلم الكاتب
أ.د. ضياء نافع