المعقول واللامعقول يتحقق معاً وعلى مسرح واحد
المعقول واللامعقول يتحقق معاً وعلى مسرح واحد
ضرغام الدباغ
كيف تفكك آلة ضخمة معقدة، بسهولة شديدة …
إذا علمت أن سيارة الفرنسية سيتروين (Citroen) تتألف من 33 ألف قطعة، كبيرة وصغيرة، بالطبع يمكن تفكيكها، كما تم تركيبها ..! ولكن بالتأكيد يلزمنا وقت طويل على الأقل ساعات .. ولكن هناك طرق يمكن أن تفككها بدقيقة، أو بثوان حتى .. كيف ..؟ سنخبركم …!
كتب أصدقاء لي، وآخرون اتصلوا هاتفياً، وذكروني بمقالات وخواطر كنت قد كتبتها، والحق أني قد كتبت مجموعة من الخواطر والمقالات، نقلاً عن مسموعات وقراءات، ومن تلك أني شاهدت مرة في بيروت (مطلع السبعينات)، مسرحية رائعة أسمها ” ناطورة المفاتيح ” والمسرحية تدور عن ضيعة “قرية” يحكمها “مختار” أو سمه ما شئت ….! طاغية لا يفهم ولا يريد من يفهمه، صحا ذات صباح، فوجد أن أهل القرية “الضيعة ” قد فروا جميعاً وأودعوا مفاتيحهم عند “سيدة” ، أبت أن تغادر معهم، وفضلت البقاء فاستحلفوها أن تحافظ على مفاتيحهم ما أمكنها ذلك، والمختار الطاغية نادى على حراسه فلم يجد أحداً، فقد فر الجميع بأعذار مختلفة، والنتيجة هي أنه أصبح مختاراً بلا رعية …!! مالعمل …؟
ها نحن نقول مالعمل مرة أخرى وأخرى …. وأخرى .. اعتقد أننا سنبقى نقولها ألف مرة أخرى ..
وكتبت مرة، ما هي العبرة في أن تعطي مسدسك لشخص وتستحلفه أن لا يأسرك …!
ثم أني أردت أن أواسي صديق لي، فقلت له .. هذه أمور تحصل في التاريخ .. تذكر قصة حصان طروادة وكيف أدخلوه الطرواديون بأنفسهم داخل قلعتهم الحصينة المنيعة، بالاحتيال وما تنطوي عليه من معاني عميقة وعبر … (*) بمعني … هذه أمور تحدث .. كسرقة المفتاح، أو تواطؤ مع حارس البوابة، وإذا أحسنا الظن، أحدهم نسى ولم يقفل باب القلعة جيداً، والنتيجة هو دخول الأرضة ..!
ثم لا أحد ينسى مصطلح ” الرتل الخامس ” وهو مصطلح شاع بعد الحرب الأهلية الأسبانية، كان الفاشست يملكون أربعة أرتال في المعركة، ولكن قائد الفاشست قال ” عندي خمسة أرتال ” ولما سأله الصحفيين عن الرتل الخامس أجاب ” إنه موجود في صفوف الخصم يرتدي ثيابا مدنية “.
ــ تفكيك ماكنة عملاقة
كيف يفككون ماكنة ضخمة عملاقة، وماذا يفعلون بالقطع الكبيرة .. والصغيرة. ..؟
الاحتمال الأول وهو الأفضل: إذا كان التفكيك بقصد التنظيف والتعمير وإعادة التركيبRestoration) ) فهي عملية محمودة النتائج والعواقب. ولكن بشرط أن تتم بأيدي خبيرة.
الاحتمال الثاني وهو الاسوء : إذا كان التفكيك يجري بأيدي من لا يفقه في الأمر، فسينتهي إلى تخريب متعمد مع سبق الإصرار والترصد، وهو كأنك تسلم إحدى عينيك لنجار ليقوم بعملية ترقيع للقرنية مثلاً ..!
المثل لا يبدو مبالغاً به، وإذا علمنا أن هناك من المكائن التي تتألف من ألاف القطع من البراغي فصاعداً، وسيارة مثل ستروين الفرنسية تتألف أكثر من 30 ألف قطعة، يبدو تفكيكها سهلاً بنسبة ما، إلا أن إعادة التركيب يحتاج قطعاً إلى خبراء، وإلا فأنك ستركب الدراجة الهوائية في نهاية المحاولة بأفضل الأحوال ..!
لا تقبل أن يتحايل عليك محتال فيفكك لك ماكنتك الممتازة ويجعل منها خردة بعد أن كانت تزهو للناظرين ..! أحذر ..! فهذه الماكنة التي ورثتها أنت رائعة ولكنها كأي مكنة بحاجة إلى ترميم وتجديد وضبط حركتها.، ولكن أحذر محاولات من يريد لمكنتك أن تصبح خردة لا قيمة لها.
ومن المحتالين من هو أكثر بدائية، ويفتقر حتى للياقات والتهذيب الاجتماعي، فيحتال بطرق خسيسة، ولا تستبعد البتة، أن يكون هناك من أرسله ليخرب لك ماكنتك أو تحفتك الفنية الرائعة .. بطريقة خبيثة، وهي غالباً تأتيك من أشخاص تعمدوا أن يسخرونهم بواجب التخريب … من قبل مقاول كبير بالطبع لقاء أجر، فيأتي بمن يقبل العمل الوضيع بدراهم معدودة، فيضع مثلاً حفنة من الأرضة (النمل الأبيض) كافية لأن تجعل غرفة كاملة من أرقى أنواع الأخشاب تتحول إلى تراب، أو يخلط فنجان من مادة (…..) مع بنزين المحرك، فيصبح المحرك قطعة صماء، أو قطرة واحدة من السم الزعاف يكفي لقتل نخبة من الأفذاذ …! .. أما إذا قلنا بوضع 2 كيلو كم المتفجرات الممتازة تحت سيارة، ستصبح خردة يصعب جمعها.
سأنبئك بخبر مؤسف …. بيتك استولى عليه حفنة من هؤلاء السفلة، ستسأل كيف دخلوا البيت وأنا عندي نظام دقيق جداً .. بل بالغ الدقة، لا نمنح فيه المفتاح إلا لمن بلغ من العمر والعقل أشده، ولنا معه خبرة طويلة وتجارب، آنذاك نأمن تسليمه المفتاح. سنقول له، تأكد ممن أعطيتهم المفتاح، وراجع ذاكرتك وأوراقك … ها …. ستكشف أنك أعطيت المفتاح لواحد لا يمتلك صفات يستحق بها مفتاح باب البيت الرئيسي …. أطرق صاحبنا وفكر للحظة، وأدرك عظم غلطته …
مالعمل …؟
ــ تفكيك إنسان أو … ربما دول
قرأت في أواسط الثمانينات، مسرحية بعنوان ” الرجل هو رجل ” (Mann ist Mann) لبرتولد بريشت. وأنا لا أخفي إعجابي بهذا الشاعر والكاتب المسرحي الألماني الذي قمت بترجمة الكثير من قصائده إلى العربية، وإعجابي هو بسبب واقعيته وانحيازه التام لقضايا المظلومين وبوصفه ينتمي ثقافياً وفنياً لمدرسة أحترمها وهي ” الثقافة والفن للحياة ” أي أن الثقافة ليست للتسلية وقضاء الوقت، بل أولاً ينبغي أن تعبأ في خدمة قضية مهمة تستحق من الرأي العام الوقوف لجانبها. ويكتب بريشت في مقدمة مسرحيته (الرجل هو رجل) أنه سوف لن يخدع الجمهور، وسيفضي بما يريد عرضه مقدماً بلا لف ولا دوران، وهو أنه يعتقد أن الإنسان قابل للتفكيك والتركيب كأي ماكنة، أو قل كأي قطعة سلاح ..! إنها نظرية مذهلة حقاً، ولكن هل يمكن تحقيقها حقاً في الواقع المادي …؟
أم ترى هل هذا ضرب من أعمال الأدب اللامعقول ..؟
كلا وألف كلا … بل عندما يقرأ الإنسان ويتعلم ويصبح أكثر وعياً، يصبح عصياً على التفكيك والتركيب .. لن يحميك سلاح ولا حتى قنبلة ذرية، بل الثقافة فقط .. وإليك الدليل الساطع، فوق ما لديك من أدلة … وعندما تشاهد غالبية من ينقادون للتضليل وغسل الدماغ والتفكيك وإعادة التركيب، هم من الأميين أو أشباه الأميين. وبريشت في مسرحيته الرائعة يثبت أن الإنسان يمكن تفكيكه وتركيبه .. ولكن أي إنسان ..! تلكم هي مسألة جوهرية .
فالكثير منا يعتقد.. لماذا يقدم (س) من الناس على القيام بأعمال ولا معنى لها ..؟ هل بحكم العادة .. ربما ..! أم ترى بحكم تلقين طويل الأمد، جرى دمجه بمفردات الحياة اليومية ( اللباس والطعام والجلوس والحديث وحتى بإطار العلاقات الجنسية )، فيكون الداخل فيه كالداخل في دوامة في وسط النهر يصعب جداً عليه الخروج منها، إلا إذا كان سباحاً قوياً، له ذراعان قويتان .. أو عقل متفتح يأبى أن يكون أسيراً … أو أن يقبل المثول لتجربة التنويم المغناطيسي أو كما يقال ” التعريض لغسيل دماغ شامل “. ومعظم القضايا الجوهرية خارج إمكانية إعادة النظر أو التفكير بها، فقد أضحت من المسلمات حتى لو كانت خطأ .. وفي العصر الحديث يتحول إلى إنسان آلي ” روبوت ” مبرمج، ليس بالضرورة أن يعي أو يقتنع بما يفعله، ولكنه سيفعل وفق البرنامج … هذا مدهش جداً ولكن ليس بدرجة غريبة، فهذا اليوم علم وثقافة وبريشت كان سباقاً إذ كتب عنها عام 1927 ..! ولهذا تعادي القوى الرجعية الثقافة ..!
نعود لمسرحية ” رجل برجل ” لبرتولد بريشت المذهلة التي كتبها عام 1927 (حاولت إيجادها على الأنترنيت باللغة العربية لإهداءها لأصدقائي، وللأسف لم أوفق) والتي أعتقد أنها تنتمي لتلك الأعمال التي يجب قراءتها بعمق وانتباه، والتي هي ضرب من فن التوغل في عمق الإنسان، وضرب من الهندسة الإنسانية حيث يعمد بريشت إلى تفكيكه وتركيبة كما يفعل ميكانيكي ماهر مع ماكنة مؤلفة من براغي وقطع، وبتقديره (بريشت) أن هذه العملية التي يصنع فيها إنسان جديد في جلد جديد تحتاج (ثقافياً) إلى ثلاثة مهندسين عاطفيين ليصنع إنساناً جديداً، وليس بالضرورة أن يكون الإنسان المثالي..! وما يجري تلقينه هو في الواقع ليس سوى ممارسة ” الكذب الجمعي، وتأسيس عصبة سيئة، وقوة تمتلك القدرة على الإغواء والخداع “. وغاية هذا التفكيك والتركيب، هو خلق إنسان: يفكر كما نريد، ويعتقد بما نريده له أن يعتقد، وأن يصدق ما نقوله نحن له لا ما تراه عيناه، وكل هذا يجعل منه بعد الاستيلاء على شريحة عقله ليتحول إلى ماكنة تسير، وقد تقتل وتدمر، وتصرخ وتقفز وتركض ..!
كيف يطرح بريشت هذه القضية : ما لذي يحدد هوية الإنسان ..؟ الولادة أم التربية ..؟ وإذا جرد الإنسان من أسمه فهل يصبح شخصاً آخر..؟ وهذه قضيه اجتماعية / نفسية ناقشها عدد من المفكرين والفلاسفة بصيغ متعددة، وهناك كثير من الأنظمة تحاول أن تجرد الإنسان من شخصيته ليصبح عنصراً في خدمة ” المجتمع “. وهذه عملية تدور منذ مطلع القرن الماضي بطريقة منهجية مدروسة، وربما قبل ذلك بطريقة عشوائية اعتماداً على التجربة والتعييث ..
ويبدو تصور هذا الأمر للوهلة الأولى مستحيلاً، إلا أن القارئ أو المشاهد سيقتنع كلياً بعد مقاومة يبديها، لأنه بالنتيجة سيتخلى عن بعض ما علق بثيابه أو بروحه مما حاولت جهات كثيرة أن تلصقها به، الآن يبدو له أنه أمام أجهزة معقدة وأنها قد نالت شيئاً منه، ولكن الإنسان يمتلك قدرات مذهلة للمقاومة ولا يريد أن ينسف قناعاته بنفسه، ولكن حين يصل الإنسان طوعاً إلى قناعة ما، يتحول إلى قوة مادية لا تقهر، والفكر الحر هو ما يخيف الطغاة وقوى الظلام، والخرافات. وأنت في قاعة فسيحة إذا كنت شجاعاً تسلق النوافذ العالية وافتحها ليدخل النور والهواء النقي، فستجد الكثير من الحقائق مما كانت مغطاة وألواناً أخرى كنت مغشوشاً بها، لاحظ كم هو حكيم المثل ” لا تشتري قماشاً في الليل “. وإذا أخضعت كل آراءك وقناعاتك لمحاكمات عقلية، فإنك ستضطر لإلغاء بعضها، أو أن تجري عليها تعديلات مهمة.
لم تغادر فكرة مسرحية بريشت فكري، وبدت لي أنها فكرة مرعبة أن يفكك الإنسان ويعاد تركيبه مجدداً بجلد جديد، و (فكر جديد)، وقبل أن ينصرم القرن العشرين كان العلماء قد توصلوا إلى الاستنساخ، الحيواني (أولاً)، وبالطبع يعني ذلك ضمناً، قدرة الإنسان على استنساخ الإنسان أيضاً. ولكن من غير المعروف ما إذا كان المستنسخ(البشري أو الحيواني) سيحمل نفس الصفات من ذات الخزعة التي جرى الاستنساخ منها، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمر سيقود إلى كوارث يصعب تحديد أبعادها.
ولكن في تأمل الموضوع (تفكيك الإنسان وإعادة تركيبه) سنصل إلى نتائج غريبة، وبعض منها جاءت في كتب علماء النفس، وفي موضوعات الحرب النفسية، وقد تسنى لي مشاهدة فلم قصير (مرفق طياً في الأنترنيت/ الفيسبوك) باللغة الروسية أصلاً، وأعتقد أن مثل هذه الدراسات والبحوث كانت موجودة منذ عهد الاتحاد السوفيتي، وقد تعرفت على معهد في الاتحاد السوفيتي يعني بدراسات الباراسايكولوجي (التخاطر من بعد) (Parasaychologie)، ومن المؤكد أنها موجودة ومزدهرة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، (الولايات المتحدة خاصة) وفي التمعن بهذه الدراسات والأبحاث نستطيع أن نتعرف على حجم ما يواجه بلادنا وأمتنا. والوعي بالشيئ خير من الجهل به .
نحن نتعرض لحملة واسعة النطاق، وخصومنا يستخدمون كافة الوسائل، وإذا غير قادرين على مجاراتهم بأسلحتهم، فلنلتزم أقصى اليقظة، ولننتبه للحملة النفسية، وهناك من يردد ما يبثه العدو بحسن نية، أو من باب التهويل والمبالغة، ولكن هناك من يفعل ذلك متعمداً وهو يمثل الطابور الخامس الموالي للعدو، بصرف النظر عن آليات قيامه بهذا التخريب.
مالعمل …!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تروي الأسطورة أن حصار الإغريق لطروادة دام عشر سنوات، دون تقدم، فابتدع الإغريق حيلة يتمكنون بها من اقتحام أسوار المدينة، فقاموا ببناء حصاناً خشبياً ضخماً أجوفا استغرق بناؤه ثلاثة أيام. أختبأ في جوفه المقاتلون، أما بقية الجيش الإغريقي فتظاهر بالانسحاب، في حين اختبئوا خلف منحدر، وأعتبر الطرواديون الحصان الخشبي على أنه عرض سلام وقام جاسوس إغريقي، بإقناع الطرواديين بأن الحصان هو بمثابة هدية، بالرغم من تحذيرات بعض العقلاء من أن هذه خدعة، ولكن في النهاية سحبوا الحصان إلى داخل المدينة.
احتفل الطرواديون برفع الحصار وابتهجوا، وعندما خرج الإغريق من الحصان داخل المدينة في الليل، كان سكان طروادة في نشوة وسكر، ففتح المحاربون الإغريق بوابات المدينة للسماح لبقية الجيش بدخولها، فنهبت المدينة بلا رحمة، وقتل كل الرجال، وأخذ كل النساء والأطفال كعبيد.