القشطيني وبدر شاكر السياب
أكتب هذه المقالة والألم ما زال ينتابني ويحزّ في نفسي، وأصبح في نفسي واحد من الملامات التي أحملها ضد الحركة اليسارية في العراق مع الأسف. وقد آن لي أن أفرغ شيئاً مما عندي في جعبتي. عدت إلى لندن والتحقت بالقسم العربي من الإذاعة البريطانية في أوائل الستينات. اتصل بي الزميل فؤاد الجميعي، المخرج المصري فيها. قال لي: هنا في لندن شاعر كبير من شعرائكم في العراق، لا بد من أنك سمعت به، بدر شاكر السياب. نريدك أن تزوره وتسجل أحاديث معه، وسندفع عنها، فهو مريض ومحتاج. كان ذلك في المرحلة التي غضب الشيوعيون واليساريون فيها على السياب واتهموه بالخيانة. وكنت قد وقعت في تأثيرهم فاعتذرت عن عدم إجابة الطلب. قلت للزميل فؤاد: هذا الشاعر مغضوب عليه وخائن ولا أريد أن أقوم بمقابلات معه. أجابني فؤاد قائلاً: أنتم يا العراقيين مشكلتكم مشكلة. قلت له: اذهب أنت وقم بالمقابلات معه كما ترغب. وهو ما جرى وسجّل قصائد عدة من قراءات بدر.
عاد فؤاد بعد بضعة أيام وألحّ عليّ أن أذهب وأزور السياب. قال لي: هذا الشاعر؛ شاعركم الكبير، مريض وفي حالة سيئة جداً ووضع مؤسف. يعيش في غرفة صغيرة وحقيرة وقليلة التدفئة. كان يرتجف برداً. إنه يحتاج لمساعدة وعطف. اذهب يا خالد وزره. هززت كتفي غير عابئ بنصحه. لم أشأ أن أتحدى جمعية الطلبة العراقيين التي كانت خاضعة للشيوعيين، وبالتالي غاضبة على السياب.
مرت أسابيع قليلة وازداد مرضه ولم يستطع الأطباء شفاءه. عاد إلى العراق وتوفي بعد قليل. شعرت بالأسى والأسف. هكذا شأننا، نأسف على المرء بعد موته. وبمرور الأيام كدت أعضّ على أصابعي لسلوكي الفظّ والحقير. وأكثر من ذلك أنني فوّتُّ على نفسي فرصة الالتقاء بذلك الشاعر الذي أحدث الحدث وقلب الأمور في دنيا الشعر وقاد ثورة الشعر العربي المعاصر. لقد حرمت نفسي تلك الفرصة التاريخية. ناهيك بمساعدة ذلك الشاعر الفذّ. يعني على الأقل أن أشتري له مدفئة كهربائية صغيرة يتدفأ بها ويتخلص بها من قسوة الشتاء الإنجليزي اللعين. لم أفعل أي شيء من ذلك.
مرت أيام وأصبحت استشارياً للمركز الثقافي العراقي في لندن. تذكرت السياب ففتحت مكالمة تليفونية مع الزميل فؤاد الجميعي… «فؤاد حبيبي، تتذكر المقابلات التي أجريتها قبل سنوات مع ذلك الشاعر العراقي، بدر شاكر السياب؟». أجابني فقال: «طبعاً أتذكرها. كيف أنساها؟! سمعت أن الرجل مات». قلت له: «هل تحتفظ بالتساجيل التي عملتها معه؟». قال: «نعم كلها». قلت له: «احتفظ بها حتى أتصل بك ثانية».
فتحت الموضوع مع ناجي الحديثي عندما كان مديراً للمركز الثقافي العراقي في لندن. اقترحت عليه أن نشتري من الجميعي هذه التساجيل، ونعمل منها أسطوانة تتضمن قصائد السياب بصوته، عن حياته ومرضه وحنينه إلى زوجته والقرية التي نشأ فيها في البصرة، جيكور، بالإضافة لقصائده المختارة. وهو ما جرى وتم. وأرجو أن تكون هذه الأسطوانة موجودة الآن ولم ينهبها الحرامية، اعتقاداً منهم أنها أسطوانة لبعض الأغاني. وياما ضيع الحجاج في درب مكة!