كنتُ قد هيأت نفسي لقراءة رواية (الخبز الحافي) السيرة الذاتية للروائي المغربي “محمد شكري” متيقنة من أنها ستثلم قلبي وسأبدو بعد نصف ساعة من قرائتها كأنني مصابة بحساسية الفصول من كثرة صب الدمع وهذا ما أكده الانفتاح الأول للمتن الحكائي للرواية (أبكي موت خالي والأطفال من حولي . . يبكي بعضهم معي , لم أعد أبكي فقط عندما يضربني أحد أو حين أفقد شيئا , أرى الناس أيضا يبكون المجاعة في الريف . . القحط والحرب) هذا الروائي الذي سكن مغارب الأرض يشبه الى حد بعيد توأمه الروائي السوري (حنا مينة) الذي اختار مشارق الأرض سكناه في تماثل عجيب بين حياة عاشاها المسكينان . حنا مينة المولود في اللاذقية عام ١٩٢٤ لعائلة فقيرة والذي عاش طفولته في حي (المستنقع) في إحدى قرى لواء اسكندرون بعد ضم اللواء لتركيا عام ١٩٣٩، عاد مع عائلته إلى اللاذقية حيث عمل حلاقاً, وأخوات اضطررن للخدمة في البيوت ليتعلم هو , لا يُنسى ابداً وصفه لأخر ليلة قضتها أخته الصغيرة لتلحق بعملها اليوم التالي حيث يقول (هذه أخر ليلة تقضيها أختي عندنا دون ان ترفسها قدم لتوقظها كل صباح). بعدها احترف العمل في الميناء كحمّال ثم عمل في البحر كبحّار على المراكب وتنقل في مهن كثيرة، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى أكبر روائي سوري حيث كانت حياته أسطورة ملهية, الرجل الذي عاش المأساة أكثر مما عاشها أي أديب سوري. أما الأخر الروائي المغربي محمد شكري فقد ولد في سنة ١٩٣٥ م، في آيت شيكر في إقليم الناظور شمال المغرب. و عاش طفولة صعبة وقاسية في قريته الواقعة في سلسلة جبال الريف، ثم في مدينة طنجة التي نزح إليها مع أسرته الفقيرة سنة ١٩٤٢م وصل شكري إلى مدينة طنجة ولم يكن يتكلم بعد العربية لأن لغته الأم كانت هي اللغة الأمازيغية، وعملَ كصبي مقهى وهو دون العاشرة، ثم عمِلَ حمّالاً، فبائع جرائد وماسح أحذية ثم اشتغل بعد ذلك بائعًا للسجائر المهربة. وانتقلت أسرته إلى مدينة تطوان لكن هذا الشاب الأمازيغي سرعان ما عاد لوحده إلى طنجة. لم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا وهو ابن العشرين , ففي سنة ١٩٥٥ م قرر الرحيل بعيداً عن العالم السفلي وواقع التسكع والتهريب والسجون الذي كان غارقاً فيه ودخل المدرسة في مدينة العرائش ثم تخرج بعد ذلك ليشتغل في سلك التعليم ويبدأ في الكتابة ليصبح روائياً متفرداً و أكثر الأدباء العرب ترجمة لأعماله كانت ولا تزال كتبه تهرّب في دول عربية مثل الأفيون وتباع كالخبز في دول أخرى. من الامية أتى الأثنان ليتربعا على عرش الرواية الواقعية أوجه التشابه في سيرة حياتهما كثيرة تتمحور في أجواء و جغرافية النشأة بين ذاك الأب السكير المعطوب حسب قول شكري والذي فاجأ العالم بمشاعر الكراهية تجاه والده حيث يقول عنه (في الخيال , لا أذكر كم مرة قتلته . . لم يبق لي إلا ان أقتله في الواقع) وهي مشاعر حتمية يستحقها الأب للسلبية المفرطة الغاطس فيها . . حتى أنها أدت الى عزوف شكري عن الزواج وإنجاب الأولاد لأنه كان يخشى أن يمارس على من يولد له نفس التسلط والقهر اللذين مورسا عليه حيث يقول (لهذا أنا أخشى أن يكون لي مولود . . فأنا لا أثق في نفسي ) . والأمر عند حنا مينة أرحم بكثير فهو يكره عطالة الأب وسكره وتقلبه بأعمال خاسرة تضطره بيع محتويات داره الهزيل لتعويض خساراته اللامنتهية واستيلائه على أجرة بناته الخادمات ولكن هذا لم يمنعه من التأثر لمشهد ضرب أبيه من قبل المارة حيث يقول حنا مينة (ليس هناك أقسى من مشهد يُضرب فيه الأب أمام انظار أولاده) . بينما شكري لم يهزه هذا المشهد بتاتاً, والشبه الأخر بينهما هو تلك الأم المغلوبة على أمرها والتي لا تجيد سوى ترقيع الحياة المهلهلة التي وجدوا أنفسهم فيها والتي لا تفلح الا في الولادة للمقابر وأذلال الكرامة لكسب قوت أطفالها وهناك الشبه الماموثي الأكبر بينهما من حيث الحضور والتأثير ألا هو ذاك الفقر المدقع الذي يصيب القارئ بالغثيان, في روايات “مينة” يحكي عن الفقر بسرد بطيء يكاد يكون مذكرات يومية تجعل الخبز عزيزاُ ومقدساً عند القارئ, حتى ليفكر ألف مرة قبل أن يرمي بقايا طبق طعامه لمعاينته لحياة ناس كل هم عيشها هو كسرة خبز لطفل جائع . شكري ايضاً يجعلنا نلهث وراءه في رحلة الشقاء للبحث عن الخبز , يتفوق شكري على توأمه مينة في جرأة الاعترافات التي يذكرها في (الخبز الحافي) سيرة حياته الذاتية حيث تضم مشاهد جنسية صريحة وكأنه يضع القارئ على بعد أصبعين من لقاءات الجسد المحمومة لمخيال مراهق او لتجاربه الأولى المتعثرة في (البورديل) بيوت الدعارة. في (بقايا صور) سيرة حياة حنا مينة تلمس الأسهاب في وصف العذابات أكثر من الأباحية التي يأتي على ذكرها بتكنيك أقل صراحة من الروائي المغربي محمد شكري , لكنه لم يلجم قلمه عن الوصف في روايته الشهيرة ( الياطر ). حنا مينة كان دائماً البحر مصدر إلهامه، معظم أعماله مبللة بمياه موجه الصاخب، كان بحّاراً, و البحّار لا يصطاد من المقلاة ! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة, كان أكبر، أكبر بكثير، وهنا نتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء. الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب لذا كتب مينة عنه ثلاثية البحر (حكاية بحار- الدقل- المرفأ البعيد) والشراع والعاصفة وأنتهى نهاية رجل شجاع. أما شكري فقد تأرجح بين الخبز و معضلة أيجاده و مسألة السكن المتعثرة حيث قضى صباه بين النوم في المقاهي او غرف البغايا وما جره ذلك الى معرفة درازن منهم والهم الأخر هو المغامرة بين مهربي البضائع والشرطة والبحر وسيطهما. يجتمع الأثنان على موهبة حبكة السرد الروائي السلس, لا تمارين ذهنية لقارئ النص يجلدونه بها فيعاف القراءة , ولا مفردات غريبة قاطعة لسيل السرد , لا تحذلق يضّخم (الأنا) ويقضي على العفوية . . بل هو نتاج كُتب كأنه في جلسة واحدة لتموسق النغم وضربات القلم وسرعة تدفق الأحداث . . كأنهم ارادوا أن يثبتوا المغربي محمد شكري (الملقب بالشحرور الأبيض) والسوري حنا مينة (الملقب بأديب الحقيقة) بأن معجزة النص الواقعي تكمن فقط في صدق واقعيته. كما يمتاز الأثنان, مينة وشكري بامتلاكهما ذاكرة كبريتية تشتعل بالتفاصيل التي تبني للقارئ جواً ثلاثي الأبعاد ليعيش فيه لحظة قرائته النص ويمتد سحره بل لعنته حتى بعد غلق الكتاب لتتناوب على المخيلة أجواء الرواية وشخوصها. كثيرون يلومون شكري لكونه دلق كل حكايا العالم السفلي على رؤوس قارئيه ولم يفكر في ما هو ممنوع او مخدّش للحياء, شكري لم يتاح له في أولى سنين حياته غير التشرد ولم يجد سوى ذاك الشيء الذي يحب ان يسميه حين يتكلم عن الجنس, عاش دون سقف عائلي يحميه بل وجد أباً كان يقسو عليه ظناً منه أنه أبن زنا وليس من صلبه حيث يقول له والده (لست أبني, لست تشبهني كأنك ابن زنا . . أبن أمك, أنت تشبه أمك، أولاد . . . يشبهون أمهاتهم). كما كان شاهد على واقعة قتل الأب لأخاه المريض الذي كان يسعل طوال حياته, أنقض عليه مطبقاً على أنفاسه ليتركه جثة تطفو على فمه بقعة دم رافقته للقبر, وكيف قذفته دروب التسكع صبياً غضاً, نام في الأسطبلات وبالت عليه الفرس وكان لا يأمن النوم الا وهو جالساَ خوفاً من الأغتصاب, ومشهد الجوع والحرمان يتجسد ببشاعة حين يلقي نفسه في البحر خلف قطعة خبز رماها احدهم مقهقهاً وهو يراه يلتقطها وهو تطفو من بين بقايا أوساخ وغائط , ولم يجد غير مهربون وقوادون وبغايا يفتحون له باب يضمن له لقمة عيش وعلبة كيف, لم تتح له الدنيا شيء سوى الضياع لهذا كتب عن ضياعه بصدق, وحين كتب لامه الناس. بقلم الكاتبة إيمان البستاني |