تشيخوف وجايكوفسكي
أ.د. ضياء نافع
تشيخوف أصغر عمرا من جايكوفسكي بعشرين سنة , وليس ذلك الفرق بقليل , ولكنهما التقيا مع ذلك , اذ ان الفن هو الذي جمعهما معا , وقصة تشيخوف الاديب وعلاقته مع جايكوفسكي الموسيقار تستحق التوقف عندها بلا شك , اذ انها ليست عفوية ابدا , بل ابتدأت عندما اطلع جايكوفسكي على قصة قصيرة منشورة لتشيخوف في بداية مسيرته الابداعية واعجب جدا بها , وكتب الى احد معارفه يقول , ان هذا الكاتب الجديد سيكون ( قوة ادبية هائلة ) , و كتب جايكوفسكي ايضا الى تلك المجلة رسالة تحدث فيها عن اعجابه بالقصة وكاتبها , ولكن المجلة لم توصل مع الاسف رسالة جايكوفسكي تلك الى تشيخوف في حينها . وتمرّ الايام , وكان تشيخوف في بطرسبورغ , ودعاه شقيق جايكوفسكي الى بيته , وقد مرّ الموسيقار جايكوفسكي الى بيت أخيه في هذه الاثناء , وتمّ تعارفهما , فقال جايكوفسكي لتشيخوف انه معجب بقصصه ومتابع لنشاطه الادبي منذ فترة , وقد حدث هذا اللقاء عام 1887( عندما كان عمر تشيخوف 27 سنة ) . كان جايكوفسكي آنذاك في أوج مجده وشهرته في روسيا , أما تشيخوف , فكان لا يزال في بداية طريقه الابداعي , وكان قد أصدر مجموعته القصصية الاولى ليس الا , ولم يكن معروفا عندها في الاوساط الادبية الروسية بما فيه الكفاية . اندهش تشيخوف من موقف جايكوفسكي هذا , وقرر ( بينه وبين نفسه ) ان يهدي المجموعة القصصية الثانية ( التي كان يعدّها آنذاك) الى جايكوفسكي , للتعبير – اولا – عن امتنانه له طبعا على هذا الموقف الايجابي تجاه نتاجاته , وثانيا , للتعبير ايضا عن اعجابه بالدور الكبير , الذي كان يؤدّيه جايكوفسكي في عالم التأليف الموسيقي الرائع ( والذي كان تشيخوف يعشقه من كل قلبه ) , ولكن تشيخوف لم يذكر له ذلك اثناء اللقاء معه , وانما كتب بعد عودته الى موسكو رسالة خاصة الى جايكوفسكي يرجوه فيها الموافقة على ذلك ( اي اهداء مجموعته القصصية الثانية لجايكوفسكي ) , وكان ينتظر الجواب على رسالته تلك طبعا على أحرّ من الجمر كما يقول تعبيرنا العربي الطريف , ولكنه فوجئ ان جايكوفسكي قرر المجئ شخصيا الى بيت تشيخوف بموسكو ليخبره بموافقته على اقتراحه هذا , وكانت هذه الزيارة طبعا حدثا كبيرا لتشيخوف وعائلته , اذ ان جايكوفسكي كان شخصية بارزة وشهيرة جدا في المجتمع الروسي آنذاك ( وحسب كلمات تشيخوف نفسه والتي كتبها في احدى رسائله وقال فيها , ان جايكوفسكي في الفن الروسي يشغل المكان الثاني بعد تولستوي , الذي يشغل المكانة الاولى منذ زمن طويل ) , وقد جلس جايكوفسكي طويلا في بيت تشيخوف في تلك الزيارة , وشرب الشاي معه ومع عائلته طبعا , و كتب شقيق تشيخوف عن هذه الزيارة بعدئذ – تفصيلا – في ذكرياته عن تلك الزيارة, و تحدّث عن الانطباع الرائع الذي تركته بساطة جايكوفسكي على كل فرد من افراد عائلة تشيخوف .
تعمقت العلاقة بين تشيخوف وجايكوفسكي , واهدى الموسيقار له صورته ( كما كان سائدا آنذاك بين الاصدقاء ) تعبيرا عن هذه الصداقة وكتب عليها اهداء الى تشيخوف (من قارئ معجب متحمّس ), وطلب من تشيخوف كتابا وصورة له , وارسل تشيخوف طبعا صورته و الكتاب وكتب له قائلا – (ارسل لكم الصورة والكتاب , ولوكنت أقدر لارسلت لكم الشمس …) , وكتبت شقيقة تشيخوف بمذكراتها عن ذلك وقالت, ان تشيخوف كان سعيدا جدا في ذلك اليوم . أما جايكوفسكي , فقد كان فخورا جدا بكتاب تشيخوف هذا , الذي اهداه له تشيخوف في صفحته الاولى, وبقي معتزّا به طوال حياته.
الرسائل المتبادلة بين تشيخوف و جايكوفسسكي قليلة نسبيا , الا انها مع ذلك تعدّ الان واحدة من الوثائق المهمة لدراسة ابداع تشيخوف في تلك المرحلة من مسيرته , اذ انها تعكس صفات وخصائص واسلوب وافكار هذا الاديب , الذي تنبأ له جايكوفسكي في بداية الثمانينات , عندما كان تشيخوف طالبا في الكلية الطبية بجامعة موسكو وينشر قصصا قصيرة و مرحة وساخرة كي يكسب بعض النقود التي تساعده على العيش , تنبأ له بمستقبل ادبي باهر , وكم كان جايكوفسكي محقا ( ودقيقا ايضا) في كلماته تلك , وكم كانت تلك النبوءة صحيحة , لان عيون الفنان الثاقبة ( وخصوصا عند موسيقار بمستوى جايكوفسكي) لا تخطأ ابدا في هذا المجال