صفات ومزايا الدبلوماسي المعاصر
يعتقد بعض الناس أن الدبلوماسي شخص لابد أن يكون أنيق الملبس، لبق الكلام، متحذلق، يتمتع بأمتيازات فريدة لا يستحق معظمها، ويستطرد البعض أن هذه المزايا ليست ضرورية لعمله، فيما يعتقد آخرون أن الدبلوماسيون يتمتعون بأعلى مرتب بين العاطلين عن العمل، وآخرين يتصورون أن الدبلوماسي جاسوس يحمل حقيبة سوداء ويسافر بكثرة بين العواصم…الخ
ودون ريب فإن هذه التصورات عارية عن الصحة، وبعضها ساذج. فواقع الأمر هو على العكس من ذلك. وبادئ ذي بدء فإن مهنة الدبلوماسية من المهن النادرة التي لا يتعلمها المرء على مقاعد الدراسة فقط، مع أهمية وضرورة التحصيل العلمي الأكاديمي، وإنما يحتاج الدبلوماسي أيضاً إلى فترة مران وخبرة غير قصيرة إن أراد أن يكون دبلوماسياً ممتازاً ومهيئاً للاضطلاع بمهماته لا سيما في المراتب المتقدمة من المهنة.
ولا بد من القول بادئ ذي بدء، أن حيزاً من الموهبة والألمعية الفطرية بتقديرنا ضرورية جداً للدبلوماسي المحترف، وتلك صفات لا تخلق بالدراسة والتدريب، فهناك دائماً رجال مهيئون لوظائف ومهن لا يصلحون لغيرها، ولا يصلح سواهم لها. والموهبة والألمعية الفطرية ضروريتان للدبلوماسي إلى جانب الصفات الأخرى.
ولكن دراسة التاريخ لا سيما الجوانب السياسية منه، والإلمام بالقوانين وبصفة خاصة ما يتصل منها بالسياسة والاقتصاد الدولي شروط هامة ينبغي للدبلوماسي أن يتمتع بها. أي أن ما يتعلمه الدبلوماسي على مقاعد الدراسة لا تكفي المجالات الرحبة للمهنة، كما أن الثقافة الواسعة ضرورية اشد الضرورة، بل هي في مقدمة الشروط. فمعرفة الاتجاهات الأساسية في الأدب واشعر والمسرح والفن الحديث والكلاسيكي والموسيقى تدخل في نطاق الضرورات. فليس بإمكان الدبلوماسي أن يعقد صداقات مع زملائه من دبلوماسي البعثات الأخرى، وتلك صداقات تعد معيناً أساسيا في نشاطه ضمن الوسط الدبلوماسي. فالدبلوماسيين في حياتهم بشراً لهم أذواقهم وحساسياتهم، وسعة إطلاع وثقافة الدبلوماسي في هذه المجالات بالإضافة إلى رزانته وحصافته وبعد نظره وروحه الخفيفة وشفافيته تجعله نجماً في المجتمع الدبلوماسي وعضواً لا غنى عنه في الحياة الخاصة للدبلوماسيين، واقصد بالحياة الخاصة اللقاءات الخاصة خارج إطار العمل، وإن كانت مساحة الحياة الخاصة للدبلوماسي ضيقة جداً حتى خارج إطار المهنة والتزاماتها وأصولها.
وإذ نشدد على مسألة كفاءة الموظف الدبلوماسي، لا نقصد من ذلك تعقيد المهمة أمام الدبلوماسيين، بل أن المهام الدبلوماسية لدقتها المتناهية، قد توقع دبلوماسياً لا يقصد الإساءة إلى بلده في المواقف الحرجة. ولسنا بصدد تعداد تلك الحوادث التي نجم عنها أضرار فادحة، أو قادت إلى قرارات خاطئة بسبب قلة كفاءة الدبلوماسي أو استخفافه بالوقت، وقد حدث مرة إهمال خطير أودى إلى فقدان الحقيبة الدبلوماسية لأحدى الدول، ومرة أخرى تصرف يدل على الخفة لموظف تسبب بإتلاف الشيفرة سهواً، وحامل حقيبة أستغرق في النوم أثر ليلة صاخبة فاته على أثرها موعد إقلاع طائرته وهو في بلد أجنبي.
فمثل هذه الممارسات لا يمكن اعتبارها سهو، أو خطأ عابر، ينبغي التأكد بدقة من عدم حدوثها مطلقاً، وينبغي تدريب الكادر الدبلوماسي من الدبلوماسيين والإداريين الأصاغر على عمل خال من الأخطاء، وحدوث مثلها تعد من الأخطاء الجسيمة.
ولعل أهم ما يمكن ذكره في هذا المجال، هو ما حدث في فجر اليوم السابع من كانون الأول/ ديسمبر/1941 داخل السفارة اليابانية في واشنطن، إذ تسبب خطأ غير مقصود(بسبب اختلاف التوقيت) في تسلم رسالة بالشيفرة من طوكيو تطلب من السفير التوجه لمقابلة وزير الخارجية الأمريكية وإبلاغه بالإنذار النهائي ليكون مدخلاً لإعلان الحرب بين البلدين، ثم تصادف أن الموظف في السفارة لا يجيد الضرب على الآلة الكاتبة، فتأخر السفير في تسليم الرسالة 55 دقيقة، لا تقدر بثمن، وكانت أسراب الطيران الياباني في تلك الدقائق الخمس والخمسين قد هاجمت فعلاً القواعد الجوية والبحرية الأمريكية في بيرل هاربر.
وقد تعقد لقاءات خارج العمل بين دبلوماسيين من بلدان شتى، يدور فيها الحديث لساعات عن الاتجاهات الحديثة في المسرح، أو تحليل لمعرض رسم، أو موضوعة تاريخية/ فلسفية، وتخيل عزيزي القارئ متعة المجالسة مع شاعر تشيلي المشهور بابلو نيرودا الذي كان سفيراً لامعاً لبلاده في باريس، أو مع الشاعر العربي عمر أبو ريشة سفير سورية في الهند، وأدباء وكتاب ومثقفين. ودبلوماسي يحمل مثل هذه الصفات يمكن القول أنه قد خطا خطوته الأولى في نجاحه السياسي وخدمة بلاده، وبالعكس فإن دبلوماسياً يعتقد أن بيكاسو كان مؤرخاً سويدياً شهيراً، وأن بابلو نيرودا، هو رسام إيطالي معروف، أو أن بتهوفن كان قائداً عسكرياً بريطانياً، وأبن خلدون هو من اشهر الرسامين، يمكننا تصور مدى صعوبة استجابة زملائه من الوسط الدبلوماسي الاستماع إلى آرائه السياسية التي قد تضم بعضاً من هذه السذاجة.
والدبلوماسيين في حياتهم الخاصة، وأجد من الضروري التنويه هنا، أن ليس للدبلوماسي حياة خاصة بالمعنى المألوف لغير الدبلوماسيين، فالحياة الخارجية للدبلوماسي محكومة بتقاليدها وأصولها، فالدعوات والحفلات هي عمل خارج مكان العمل، إذ يحضر الدبلوماسي حفلة ما بواجب، لكن دون جدول أعمال، قد يفاتح زميلاً دبلوماسياً له بأمر ما، ولكن الحفلة بحد ذاتها، هي مناسبة للالتقاء دون جدول أعمال رسمي، لا يتحدثون في السياسة فقط، بل في موضوعات عامة، ثقافية وفكرية. والقضايا ذات الاهتمام العام، وهنا تلعب ثقافة الدبلوماسي دوراً هاماً كموظف سياسي وكإنسان اجتماعي راق وبالتالي كزميل محاور، وصادفت خلال عملي سفيراً كوبياً كان عازفاً رائعاً للغيتار، يتسابق الدبلوماسيون على صحبته، ودبلوماسياً عراقياً كان يعزف على الجلو والكونتر باص، يعزف أرقى السيمفونيات وموسيقى السولو، كان نجم الحفلات الدبلوماسية ومحط إعجابها.
وكثيرون من الناس وللأسف بعض الدبلوماسيين يعتقدون خطأ، أن الأناقة في الملبس هي مسألة في غاية الضرورة. حسناً ولكن دون مبالغة، وحقيقة الأمر أن الدبلوماسي هو ممثل سياسي وليس ممثلاً سينمائياً. والبساطة في الملبس(مع مراعاة الأصول الرسمية) تدل على ثقة الشخص بنفسه وبعمق ذاته.
كما يعتقد بعض الدبلوماسيين أن دعوة عشاء فاخرة لا بد أن تكون بالدرجة الأولى سخية وباهظة التكاليف، تدل على البذخ والعظمة. وفي الواقع أن هذه الفكرة خاطئة تماماً، ولا تدل إلا على أبسط المعاني. ومن الأنسب للدبلوماسي أن يكون محدثاً لبقاً في موضوعات الثقافة العامة(إلى جانب الاتجاهات الرئيسية لعمله بالطبع)، على أن يعرض خمسة أصناف من الطعام، ومن الأفضل أن تكون مائدة الطعام أنيقة تنم عن ذوق وتحضرَ على أن تكون وفيرة ودسامة الطعام. فوفرة الطعام لا تدل على شيء، فالإسراف هي خصلة غير محمودة في كثير من المجتمعات المتحضرة.
ويقول الدبلوماسي الأمريكي شارل ثاير بهذا الصدد، أنه في الوقت الذي كنا نخاطب فيه بطون المدعوين بدعوات فخمة، كان الدبلوماسيون الفرنسيون بذكائهم وثقافتهم الواسعة يخاطبون عقولهم ويكسبون احترام المدعوين أكثر من القائمين بالدعوة.(1)
ونلاحظ اليوم أيضاً، أن دبلوماسيي البلدان النامية هم أكثر الدبلوماسيين أناقة في الملبس، ويمتطون السيارات الأكثر فخامة، بينما يكتفي زملائهم من دبلوماسيو البلدان الصناعية المتقدمة بملابس عادية وبسيارات أقل فخامة، مع أن رواتبهم أعلى بكثير من رواتب دبلوماسيو البلدان النامية.
وبرأي فإن من الأفضل مئة مرة أن يهتم الدبلوماسي بمعرفة الاتجاهات المعاصرة للمسرح العالمي والفن والأدب، على أن يهتم فوق العادة بملبسه، كما عندي أن دبلوماسياً يقيم لعدة سنوات في عاصمة لا يعرف عدد مسارحها ومتاحفها هو موظف دبلوماسي فاشل، ذلك أن الاهتمامات العامة هي واحدة لا تتجزأ، وليست خاطئة الأمثال التي تقول: ” قل لي كم مسرح في هذا البلد، سأقول لك من أنت، أو قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت “.
والدبلوماسي ذكي، سريع البديهية، يحسن اختيار ألفاضه وكلماته، لكن دون تكلف، كما عليه أن يكون في غاية الحذر من أطلاق التصريحات أو التلميحات حتى في حياته الخاصة (إلا إذا كان ذلك التصريح والتلميح مقصوداً)، وليس للدبلوماسي سوى مساحة ضيقة جداً من أفكاره السياسية الشخصية. فقد تكون للدبلوماسي آراء شخصية حول أحداث سياسية معينة، قد تختلف جزئياً أو كلياً مع موقف بلاده الرسمي، إلا أنه هنا معني بالدرجة الأولى بموقف بلاده الرسمي وليس بموقفه أو رأيه الشخصي، والمواقف الرسمية ليست معدة لإطلاق التصريحات بدون مناسبة ومبرر هنا وهناك، وحيث لا فائدة ترجى من ذلك. وليس أكثر من الدبلوماسي من هو مدعو إلى التقليل من الأحاديث في غير أوانها ومكانها، بل أن الكثير من الأزمات الدولية نجمت أو بدأت من تصريح لا طائل له، صيغ بعبارات غير واضحة وأسيء فهمها.
في العمل الدبلوماسي لا بد من حذف بعض المصطلحات: لم أكن أتصور، نسيت، قيل، فهذه جميعها وغيرها تدل على عدم التأكد واليقين، وهو ما لا يمكن احتماله في بعض المواقف، وحينئذ لا بد أن يكون الدبلوماسي متأكداً مما يقول، وكلمة تقريباً يجب أن تعني 16 أو 17 وليس الفرق بالأضعاف ..! وقد قيل أن الكثير من الكوارث بدأت بقول أحدهم : أفترض ..!
وتحتم على الدبلوماسي مهنته، أن لا يكون سريع الانفعال والغضب. فالإنسان يفعل عادة أو يطلق من العبارات ما يفعله عادة في حالة الهدوء والاتزان، وبذلك فقد يكشف موقفه التفاوضي من مسألة معينة، أو يكشف سقف موقف كان من الأجدر الاحتفاظ به لنفسه، ولكنه بغضبه أتاح للطرف المقابل أن يحقق تقدماً دون مقابل، إذ لا يمكن كسب أي موقف تأسيساً على حالة الغضب والانفعال، وردود الأفعال السريعة وتذكر الحكمة السياسية وأتخذها قاعدة: لا تقم بالخطوة الأولى من حالة الغضب. وينطبق ذات الحال على تناول المشروبات الكحولية، فهو منظر يدعو للرثاء رؤية الدبلوماسي الرزين مخموراً ثملاً، قد أفلت لسانه وتثاقلت قدماه، في منظر يدعو للعطف والشفقة أكثر مما يدعو للاحترام والتقدير.
وليس للدبلوماسي أن ييأس من تحقيق النجاح، أو تقدم حاسم بصدد قضية يتباحث من أجلها. فالصبر وطول الأناة صفة هامة في مباحثات الدبلوماسي، وعليه أن يدرك أن الأشخاص الذين يتباحث معهم هم دبلوماسيين مدربين، أو رجال دولة ليس من السهولة انتزاع المكتسبات منهم دون مجهود كبير. لذلك فإن بعض المؤرخين والعلماء يعرفون الدبلوماسية بأنه ” فن المفاوضة”، وبهذا المعنى فإن الدبلوماسي يضع بعض الوسائل والحجج لاستخدامها في التوصل إلى هدفه النهائي، والذي قد لا يكون من الضرورة طرحه دفعة واحدة.
وتتغير تفاصيل الموقف ومفرداته بعد كل جلسة مفاوضات، أو في خلال الجلسة الواحدة، وعلى الدبلوماسي في هذه الحالة أن يكون صافي الذهن خال من التوترات والتشنجات، وبعيداً عن التعرض لانتكاسات نفسية إذا قوبل بموقف حازم من الطرف المقابل، بل متابعة عرض موقفه بوضوح أكبر ويزيد في إيضاحه، ويستنبط معطيات جديدة تفرزها المحادثات.
وبطبيعة الحال فإن كامل شخصية الدبلوماسي بما لها من سحر وجاذبية ومتانة البناء الخلقي تشع من كلماته ونبرات صوته، ويلعب استيعابه السريع لمغزى الحوارات وأبعادها دوراً حاسماً في المفاوضات.
ولا ينهي الدبلوماسي في حالة الفشل محادثاته بقطع الطريق على احتمالات عودة المحادثات، بل يترك دوماً مجالاً وفرصاً لظروف داخلية أو خارجية على مادة المفاوضات قد تؤثر بهذا القدر أو ذاك، فتعدل من الموقف التفاوضي بما يتيح مجالاً للعودة إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى.
وأجد من المناسب أن أنقل هنا مقطعاً من مذكرات الجنرال ديغول يصف فيها مفاوضاته مع وزير الدبلوماسية السوفيتية خلال الحرب العالمية الثانية، مولوتوف، ففيها خير وصف للدبلوماسي الممتاز، ومن منطلق حيادي : ” وقد وجدت في المسيو مولوتوف في تلك المقابلة وفي كل مقابلة بعدها، الرجل الذي يصلح بدنياً وعقلياً، بل وفي كل شيء تمام الصلاح للمنصب الذي أوكل إليه. وراح في لهجة تحمل طابع الجد كل الجد، وتخلو من الإيماءات والإشارات، وبكياسة مدروسة، وإن تميزت بشيء من الجمود. وفي نظرة عميقة، عمق النفس التي تنطلق منها، يؤكد لي أنه يود أن يتحدث بصراحة، وأن يستمع إلى كل ما أقوله، ولم يسمح بأن يفوته شيء، حتى ولو أراد تلقائياً أن يفوته، ولم يكن بوسع شيء أن يحركه أو أن يحمله على الضحك أو الهياج. ويحس المرء وهو يتحدث إليه أنه واسع الإطلاع على جميع الحقائق المتعلقة بأي قضية تثار، وأنه يسجل في قرارة نفسه وبمنتهى الدقة الخالية من كل خطأ، العناصر الجديدة التي تضيفها المناقشات إلى الحقائق التي تلك التي يعرفها، وأن يصوغ الموقف الذي يود وقوفه بمنتهى الدقة وأنه لا يود الخروج عما سبق أن أعد أو تقرر في مكان آخر “. (2)
وجدير بالملاحظة، مع تقديرنا أن مفاوضاً وسياسياً ورجل دولة مثل الرئيس ديغول، المعروف بكونه مفاوضاً صعب المراس، ومن العسير حمله على التراجع، ملاحظة إعجابه الشديد بكفاءة الدبلوماسي الممتاز، وفي ذلك دليل على أن سحر شخصية الدبلوماسي تلعب دورها المؤثر حتى في المفاوضات الحاسمة.
وللدبلوماسي أن يكون مرحاً، وفي أن يعبر عن مرحه، فذلك يعبر بشكل من الأشكال عن رضاه بسير العمل أو العلاقات. فالدبلوماسي لن يحقق وجوداً ممتعاً إذا كان معبساً، لكن مرحه ينبغي أن لا يعني الاستخفاف في مناسبات تستدعي أبداء الاهتمام الجدي، أو أن يؤدي مرحه أو بالعكس غطرسته واستعلائه، إيذاء مشاعر الآخرين، فعلى الدبلوماسي أن يدرك أن مرحه أو رزانته وجديته لها معناها السياسي، لا سيما في ساعات العمل واللقاءات الرسمية.
وتتطلب بعض المواقف درجات عالية من الاهتمام والجدية، بل وشجاعة فائقة من الدبلوماسي في استخدامه لصلاحياته الممنوحة له من قبل حكومة بلاده، ولكن عليه أن يدرك أبعاد مسؤولياته بدقة، وهو إنما يفعل ذلك لمصلحة شعبه ووطنه، وأن يضع ذلك نصب عينيه دونما لحظة واحدة من الإغفال، وقد يكلف أحياناً بمهمات خطيرة تضعه في موقف صعب ومحرج أمام دبلوماسية الدولة المضيفة، وقد يتضمن هذا الإحراج ردود فعل قاسية، وفي مثل هذه الحالات، يتحول الدبلوماسي إلى شخصية معنوية بالكامل، وليس له موقف شخصي أو أخلاقيات أو كرامة شخصية، فقد يطلب إلى دبلوماسي أن يشجب وبعبارات قوية موقف الدولة المضيفة من قضية معينة، أو يرفض إجراءاً معيناً، وصولاً إلى تقديم إنذار أو تهديد بقطع العلاقات أو تعليقها، وهذه مهمات محرجة لا تنطوي على مشاعر الود والصداقة التي يحرص الدبلوماسيون (وهو أمر وتقليدي وشائع) على تعميقها بين بلاده والدولة المضيفة، بيد الإخلاص والأمانة في أداء الواجب يستدعي أن ينفذ الدبلوماسي هذه المهمة وتعليمات حكومته بحذافيرها وبطاعة الجندي في القوات المسلحة.
وقد يكون ليس من الخطأ الاعتبار، أن الدبلوماسي هو في واقع الأمر جندي، ولكنه يرتدي الملابس المدنية، ويمارس تكتيكات تعلمها وتدرب عليها، تفضي في نهاية الأمر إلى أن يكسب لمصلحة بلاده، وهي الأهم والأسمى. ومن أهم ما ينبغي على الدبلوماسي الابتعاد عنه، هو أبداء الحماس أو العاطفة أو بالعكس، الكراهية الشديدة، فتلك هي أحكام هوى لا تضم إلا جزءاً ضئيلاً من الأحكام والقرارات المبنية على حسابات عقلية ومنطقية دقيقة.
وعلى الدبلوماسي مصارحة بلاده بالحقائق دون تشويه أو تزويق، فأحكام الهوى آفة خطيرة تصيب كثير من الدبلوماسيين فيضمن تقاريره وآرائه ما يعتقد أنه يسعد المركز وصناع القرار في قيادة بلاده السياسية، وفي واقع الحال فإنه يزودها بمعطيات خاطئة أو مبالغ بها غير دقيقة، ستؤدي لاحقاً إلى قرارات خاطئة، أو ضعيفة، وبالتالي فإنه يساهم في خلق أزمة قد يغدو من الصعب حتى لذلك الدبلوماسي تصليحها، وهناك حكمة قديمة في العمل السياسي: إذا أشتبه عليك أمران، فأنظر أقريهما إلى هواك فأجتنبه.
وأخيراً، فإننا إذ عرضنا أن على الدبلوماسي أن يكون لطيفاً ودوداً، غاية في التهذيب، فإن المزايا والصفات إنما هي لمصلحة العمل. ويراعي الدبلوماسي أيضاً في اختيار مسكنه وأثاثه، الانطباعات المحتملة التي سيكونها زملاؤه الدبلوماسيون، ترى هل يجعل نمط تأثيث المكتب والسكن وفق الأنماط الثقافية لبلاده ومجتمعه، أم وفق أحدث الطرز في ثقافة الأثاث، وبكلمة أخرى فإن مساحة الحياة الشخصية البحتة للدبلوماسي ضيقة، بل وضيقة جداً في بعض البلدان بحكم الظروف الاجتماعية السائدة التي تجعل من لقاءات واجتماعات الدبلوماسيين أمراً يومياً أو شبه يومي.
ولا يفوتنا أن نذكر شيئاً عن زوجة الدبلوماسي فلها دوراً غير بسيط في إطار علاقات الدبلوماسي الاجتماعية، فلدماثة خلقها وحسن تصرفها ولطفها واللغات التي تحسنها وثقافتها العامة وحسن تصرفها ما يزيد من فرص نجاح الدبلوماسي من خلال توسيع دائرة علاقاته وكسب الأصدقاء. أو بالعكس فإن أخطاء بسيطة وتافهة غير مقصودة قد تسبب كارثة على مستقبل الدبلوماسي. فقد علمت مرة أن زوجة دبلوماسي من الدرجات الصغرى كان معتمداً في أحدى البلدان غير الصديقة لبلده، اعتقدت أنه ليس من المسيء بيع القناني الفارغة لمشتري قناني متجول، فقامت بذلك، وتصادف وجود صحفي ومصور التقطا صوراً لزوجة الدبلوماسي وهي تبيع القناني الفارغة، ونشرت الصور في الصحف مع تعليقات سخيفة غير مستحبة، نقل على أثرها الدبلوماسي إلى بلده.
هوامش
(1) ثاير، شارل : الدبلوماسي، ص279، بيروت 1960
(2) ديغول، شارل : مذكرات الجنرال شارل ديغول عن الحرب العالمية الثانية، ص315ـ316، بيروت