التوظيف الدرامي للأنا
في قصيدة ( حدود )
للشاعر عبد الحميد الصائح
د. سعد الجبوري
تتطلب المقاربة النقدية لقصيدة النثر عموما فطنةً لغوية تتخطى المسارات السياقية المألوفة في قراءتنا المعتادة للشعر ، حيث تدلنا الايقاعات التقليدية المتعارف عليها كثيرا في انتاج تلك المقاربة، فيتضح المعنى او ماخلف المعنى في ظل ذلك الاستدلال ، لكن قصيدة النثر واعني هنا النماذج المنتجة المؤثرة جماليا وفكريا منها ، تتطلب مشكاة خاصة للتنقيب داخل اللغة ، وحِيَلِها المستخدمة ان صح التعبير ، ليخوض الناقد في أنماط ابنية لغوية متداخلة ، طالما نجد المعنى المغيب علنا صريحا في ثنايا التشبيه والاستعارات واللقطة الموجزة ، وهي ادوات عليك ان تحصيها وتتعرف عليها وتستمتع بانشائها لتصل الى دلالات وابنية صادمة احيانا ومحفزة . لذلك اقول مع مجمل المقترحات والقراءات لايمكن قراءة نص نثري الا اذا كنت جزءا منه ومنشغلا ذات انشغال الشاعر بانتاجه ، والا فان قراءتك او اطلاعك عن بعد على هذا النمط من الكتابات دون ادوات من جنسها تدخلك في متاهات وضجر احيانا والعكس يجعلك متفاعلا فكريا بمتعة وعمق ، الحالة الاخيرة تدعونا إلى إعادة قراءة واعية بمقاربة تدبرية للنص تكشف مبانيه اللغوية الصادمة . انها لغة تبدو اليفة لكنها معبأة بالانفجار والتشظي ، تسعى دوما إلى الافلات من معايير الفهم الجمعي السائد والإصرار على استفزازه من خلال الحفر في سياقات اللغة لتحرير الدلالة وجعلها عائمة في فضاء التأويل.
لقد أدرك الشاعر الحداثي عموما أن اللغة طاقة فكرية عميقة وخصبة تلبي طموحاته في صياغة قلقه الفكري ، ومعاناته المضطربة الناقمة على أنماط التقنين الثقافي المتحكم في السلوك الإنساني ،ليجعل من اللغة فضاءات متحررة لا محدودة لايصال فكرته ،فالنص الشعري هنا ليس ترفا ثقافيا او غنائيا ، إنما هو تجليات فكرية بسياقات لغوية لها غنائيتها الخاصة في عالم التجريد الذي تبدو عليه ، ومن هنا يصبح تقويم النص رهنا بثقافة قارئه الذي ينبغي أن يستنبط قراءة جديدة منه ، تختلف عن القراءات التقليدية المتداولة ، وربما حدث ذلك في مراحل عديدة من تاريخ القصيدة العربية واستذكر هنا الشعر العربي الذي ظل مهتما بالغنائية وسهولة وصول المعنى ومرادفاته ، وعندما يكون المعنى مغلقا بعض الشئ يُذَمُ ويوصف بالتعقيد والغموض ،حتى جاءت تجربة ابو تمام الرائدة بإدخال الفكر في الشعر من خلال الاستغراق في الاستعاراتوالكنايات غير المألوفة وكذلك التقديم والتأخير والايجاز والإطناب . وقد تهيا لهذا الشعرالجديد عالِمٌ كبيرٌ ميّز بين المعنى ومعنى المعنى أو ما وراء المعنى ونبه الى الطاقات الامحدودة للغة انه الجرجاني ت ٤٧١ هج .
اسوق هذه المقدمة مع قراءات عديدة لم اكن اتفاعل معها بحكم تخصصي في الادب العربي القديم وتمنّعي طويلا في الاستجابة الى النثر بوصفه شعرا منهجيا ،لكني كباحث دأبت على فك هذا الالتباس طويلا للتعامل مع منجر قصيدة النثر وجيل الحداثة الشعري خلال نصف القرن الماضي ، اعني التجربة كاملة، واعني هنا تجربة الشاعر العراقي عبد الحميد الصائح الذي تابعت له من ثمانينات القرن الماضي تجربته التي تكاد تكون خاصة جدا بين اقرانه ، من خلال قراءتي مجاميعة (المكوث هناك) و(نحت الدم و(عذر الغائب) و(وقائع مؤجلة) و(الارض اعلاه) وقصائد متفرقة اخرى ، وانشطة شتى للصائح عليك ملاحقته في كل حين للوقوف عليها. لاادعي اني اقرا التجربة هنا كاملة فلربما اوفق الى ذلك لقراءة شعر المرحلة عموما والصائح في سياقها ، لكن واحدة من قصائده التي نشرها اخيرا استوقفتني فيها مهارة الصائح في الايجاز والتورية بشكل اثارني شخصيا ربما بتأثير تجربة عمل مشترك مع الشاعر يوما شعرتُ اني جزء منها ، انها قصيدة أو نص – الحدود .
طالما عرفتُ بان الصائح لايلقي الكلمات على عواهنها ، حيث تاتي المفردة طاقة معبأة باكثر من دلاله ، لذلك لم اخدع كما أدّعي بان ( الحدود ) هي (الحدود ) جغرافيا او قانونا او شرعا او اية قيود اخرى ؟ وحين يستعير الشاعر عبر ثلاثة مقاطع ، علاقته بالبلاد لنتوهم ان الحدود جغرافيا تطالعنا حصيلة لدلالات اخرى شتى .حصيلة أفقية تشي بحجم الألم المرعب في مقطعي النص الاول والثاني وأخرى عمودية ترتقى بدلالتها الايمائية نحو الحسم في المقطع الاخير.
فحالما نقرأ ( انت بلاد واسعة ) وأنا حدودك ) يبدا الصائح اللعبة من (أنا حدودك ) حيث يمكن أن نرصد ثلاثة صور درامية تتحرك بعمق في هذا المقطع . اذ يتقابل مشهدان حربيان في الصورة الأولى تمثلت في (آثار الحروب على الجسد) و(ذكريات المحاربين على الصخور) حيث حفرت هذه الآثار في الجسد والصخور تاريخ مأساة مريرة جرت على أرض البلاد (انتِ) الذي استباحته حروب متكررة لا يمكن لمخلفاتها المدمرة أن تختفي ، وهي أيضا فتكت بالحدود (انا) التي تماهت مع ذات الشاعر الذي صارع أجواء الحرب فتجلت آثارها الواضحة على روحه المتعبة . في إيحاء درامي يغريك بانتظار حدث او شيء ما يخرج من افاق خيال الشاعر :
أنْتِ بِلَادٌ وَاسِعَةٌ
وأنا حُدودُكْ،
عَلَى جَسَدِي آثارُ الْحُروبْ
وَعَلَى صُخُورِي ذِكْرَيَاتُ الْمُحَارِبِينْ
وأساطيرُ وَمَوَاكِبُ لِآلِهَةٍ غَرْقى فِي مِيَاهِي،
فالشاعر امسك النص والذاتية فيه بشكل سحري من – انا حدودك – وعلى جسدي … اثار الحروب .. فالجسد الشاعر وهو مرحلي ، والحروب والذكريات والبلاد ازلي ، فكيف حدث هذا التداخل .. انه الشعر هنا ، وانسَ كل اشتراطات اخرى .حيث يعيدك الصائح ثانية بمهارة من الكوني البعيد الحكائي الى اليومي في تداخل مثير، اللغة ميسرة هنا والمعنى لعوب ، النوم واليقظة والزهور والحصاد مقابل الإحباط والفزع.
أتطلعُ اليكِ ..
حِينَ تَفْتَرِسُكِ الذِّئَابُ أتَصلّب كَالْقَدَرْ
وحِينَ تَحْتَفِلِينَ بِالْحِصَادْ؛
وَتَنْثريْنَ الزُّهورْ،أَنَامُ وأستريحْ.
وَلأنّكِ لاتحتفلينَ بِالْحصَادْ،
ولاتنثرين الزُّهورَ كَثِيرَا،
أنامُ قَلِيلاً.
في المقطع الثاني ، اختارت لغة النص وصف البلاد ب (القديمة) في ايحاء يتمثل بالامتداد التاريخي لبلاد ليس لوجودها ابتداء ، لكنها بدت محطمة قديمة ضحية حروب مدمرة ، فقد استحضرت لغة النص الدرامية هنا حصيلة الحروب الكارثية في مشاهد مرعبة لاشباح مخيفة تمثلت في أسلحة قديمة وأخرى جديدة كانت ضحية تاريخ معارك مدمرة . كما تمثلت هذه الحصيلة الدموية المؤسفة في ازدهار أسوار القبور وماوراءها من قصص الحرب المفجعة . ولعل في وصف القبور بالسعيدة مرة وبالحزينة مرة أخرى اشارة إلى تفاوت نسبة الرضا والقهر عند ساكنيها بعد أن انطوت معهم تفاصيل تأريخ من الصراع المغيّب.
اُنْتِ بِلَادٌ قَدِيمَةٌ
وأنا حُدودُكْ
أشْباحٌ لأسلحةٍ قَدِيمَةٍ وأسلحةٍ جَديدَةْ،
أسوارٌ صَامِتَةٌ مِنْ قُبُورِ سَعِيدَةِ وَقُبُورِ حَزِينَةِ،
ياما سَحَقَتْ طرُقِي خُيُولُ الْغُزَاةْ،
وَدَاسَتْ عَلَى أضْلُعِي مَوْجَاتُ الْمُهَاجِرِينْ،
لكن روح القصيدة وشعريتها تتجلى في اخر جملة في هذا المقطع الصاخب :
وَحِينَ قَرَّرْتِ أنتِ –أنتِ، ذاتكِ- الهربَ يوماً !!...
بَقَّيْتُ وَهْمَاً.
المقطع الثالث جعل الشاعر رؤيا البلاد مختلفة تماما ، غابت عبارة ( انا حدودك) وتحول معنى الحدود الى دلالة مختلفة تماما ، هنا ليست البلاد البلاد بل البلاد التي لاترى ، البلاد التي علقت في الذاكرة والتراث وعاطفة اجيالها المتلاحقة ليتابع التفاعل الدرامي المتصاعد لصورة البلاد التي تصبح في خيال الشاعر عالما لا مرئيا في ايحاء كنائي للدمار الذي عانته ، حكايات سردية وروايات قصصية ملات المدونات التي مسختها مدونات السلطة فزيّنت المآسي الدموية ، في حين ذهب الآخرون إلى جلد المجتمع لاهوتيا كعادة رجال المعابد في طعونهم المجحفة بتطويع (المحرمات)الجاهزة .وبفعل هذا الجلد الكتابي والقولي غير المنصف الذي لم يلتفت إلى الواقع المأزوم لأبناء البلاد ،دفع الكثير منهم إلى الذي لايعرّف إلا من خلال ما رسمته الخرائط في مشهد رحلة مجهولة لا تأثير لهم في رسم طريقها ، ولا اثر يلوح لهم فيما يقصدون ، تراءى للشاعر في مشهد غيوم كاذبة، وهزيمة نفسية مثّلتها صورة الإعلام المنكّسة. والحرية المحاصرة بترنيمات وطنية تمجّد الذات الجمعي امام الانصراف للتفكير بعدم ضياع الحدود ، في ثنائية صريحة تحقق أحلام الشاعر التي مزّقتها طواحينالحروب في بلاده التي لا تعرف (الحرية) وتجهل ثمنها الغالي المقدس (الموت).
أنْتِ بِلَادٌ لاتُرى
نَقَلَتْ أرْضَهَا وحَكاياها الى الْكُتُبْ
تَقاتَلَ المؤرّخونَ على استِمالتِها
جَلدوها على أبوابِ المَعابِدْ
وأجلَسوا محاربيها على سِيوفِهِمْ
ليتطايرَ أبناءؤُها بَيْنَ الْخَرَائِطْ
غَيُومَاً كاذبةً،
وأعْلاماً منكّسةً
وأناشيدَ مَمنوعةً
حُدودُها
الموتُ أو الحريّة .
: لقد خلصت لغة القصيدة ذات الصبغة الدرامية إلى تمجيد الحرية التي تلعن الأحادية في احتكار توجيه مصائر الدول نحو كوارث الحروب ، وتعلي من شأن إنسانية البشر . لذلك لا يتردد الشاعر في حسم المعادل الموضوعي للحرية المتمثل بالموت ،
وأناشيدَ مَمنوعةً
حُدودُها
الموتُ أو الحريّة .
لتنقلب دلالة الحدود وهو ما يجب الانتباه له هنا كما اسلفنا في قراءتنا هذه ، حيث تكون المفردة معبأة بالدلالات يديرها الشاعر بمهارة وتنويع تبدو تجريدية في باديء الامر حتى تقع على عوالمها ومآلاتها التي تشكل في النهاية منجزا حاسما هو القصيدة . القصيدة او النص ليس هنا في تقديري جوهر الموضوع ، فالشاعر الحداثي او قصيدة النثر الحقيقية الموحية التي تتطلب قارئا صبورا ومساهما في القراءة ، سيخرج من رحلة طويلة مليئة بالفكر والايقاعات المتداخلة التي تمنحها ايانا سياقات لغته من خلال مستويات التأويل التي نكون نحن والشاعر في نهايتها عند منطقة واحدة معا.