ميخايل بولغاكوف و الأدب الرصين (1891 – 1940)
ولد ميخايل افاناسيفيتشبولغاكوف في كييف في 3 مايس 1891 , كان أبوه مدرساً في الأكاديمية الدينية في كييف، وحصل في أخر أيام حياته على لقب بروفسور أما أمه فكانت مدرسة في ثانوية , ميخائيل أول طفل يولد لهما ثم ولد بعده اربع بنات وولدان , إن الجو الثقافي للأسرة والعلاقات الحميمة بين إفرادها أثرا على تكوين شخصية ميخائيل , وقد عرض هذا الجو بالتفصيل في روايته “الحرس الأبيض”.
يذكر معارف الكاتب أثناء طفولته انه كان تلميذاً مشاكساً ولم يتميز بحس أدبي وكانت دراسته متعثرة , بعد ان أنهى دراسته الثانوية دخل كلية الطب في جامعة كييف, ظهرت أولى محاولاته الأدبية أثناء دراسته في الكلية والتحق بالخدمة العسكرية عام 1961 أثناء الحرب العالمية الأولى، ليخدم في إحدى الوحدات الطبية، انعكست انطباعاته عن تلك المدة في سلسلة قصص بعنوان “مذكرات طبيب شاب” ثم التحق عام 1919 في جيش المتطوعين في فلاديكفكاس ثم في غروزني اذ نشر هناك أولى نتاجاته الصحفية في إحدى الجرائد المحلية وهي عبارة عن مقالات هجائية ساخرة بعنوان “آفاق مستقبلية” .
وبعد هجوم الجيش الأحمر في بداية العشرينات وانسحاب المتطوعين يبقى في فلاديكفكاس حيث يعمل في المؤسسات الثقافية المحلية في ظل البلاشفة ويكتب عدة مسرحيات ذات طابع دعائي يحاول فيما بعد ان لا يتذكرها , ثم يذهب الى تفليس بهدف الاستمرار بالنشاط المسرحي وبعدها إلى باتوم ويفكر هناك بإمكانية الهجرة لكن لا يتاح لأفكاره ان تتحقق , ويلتقي في باتوم بالشاعر الشهير ماندلشتام ويستفسر منه عن أفاق العمل الأدبي فينصحه الشاعر بالذهاب إلى موسكووالاتصال بهيئات التحرير ودور النشر , يغادر بولغاكوفالى موسكوفي خريف عام 1921.
يعمل بولغاكوف في موسكوفي المؤسسات التنويرية الثقافية ومن ثم يصبح كاتباً للمقالات الساخرة في صحيفة “الصفارة” ويكتب عدة مقالات صحفية ومقالات هجائية ساخرة ويبد تأليف رواية “الحرس الأبيض” , وتصدر له عدة قصص ساخرة مثل : “الشيطانية”، “البيض المهلك”، “قلب الكلب” , ويبدأ العمل على مسرحية “أيام أل توربين” لصالح المسرح الفني في موسكو , و أشار النقاد إلى ان بواكير بولغاكوف يمكن مقارنتها مع بواكير كبار الكتاب الروس في القرن التاسع عشر من أمثال تولستوي ودوستويفسكي.
كانت علاقة الكاتب سيئة بالسلطات السوفيتية، فقد قُطِع نشر روايته “الحرس الأبيض” في مجلة “روسيا” في 1925 بسبب مغادرة الناشر إلى الخارج , وبعد عرض مسرحيته “شقة زويكين” صار اسم بولغاكوف مشهوراً وعرضت مسرحياته بنجاح لكن الصحافة الشيوعية شنت حملة ضده ووصفته عدواً للسلطة السوفيتية ومنعت عرض مسرحياته ونشر نتاجاته النثرية في عام 1929 ومرّ الكاتب بأزمة مالية خانقة مما دفعه إلى توجيه رسائل إلى قادة الاتحاد السوفيتي طلب فيها احد أمرين : أما السماح له بمغادرة البلاد أومنحه فرصة العمل في المسرح بأية وظيفة يشاؤون .
وفي 18 نيسان عام 1930 رن جرس الهاتف في شقة بولغاكوف بصورة غير متوقعة ليظهر على التليفون ستالين الذي وعد الكاتب بالحل الايجابي لطلبه وسرعان ما يُعيَّن بولغاكوف بوظيفة مخرج في المسرح الفني المسكوفي , لكن تبقى ,نتاجاته ممنوعة ثم يتعرض بولغاكوف في الثلاثينيات إلى الملاحقة ثانية لكنه يستمر بالكتابة بنشاط ويوجه كل همته لتأليف قمة أعماله وهي رواية “المعلم ومارغريتا” وكان واثقاً بصورة مطلقة بعدم أمكانية نشرها , وحاول في الوقت ذاته الرجوع إلى خشبة المسرح بمسرحيات جديدة مثل : “الهروب” و”ايفان فاسيليتش” وغيرها، لكنها أما تُمنع مسبقاً أوتُقطَع بعد العرض الأول , وفي العام 1933 ينهي الكاتب رواية “حياة السيد دي مولير”، ويصدر في الأعوام 1936 – 1937 “رواية مسرحية ,أومذكرات مرحوم” التي ظلت ناقصة , ويبقى الكاتب حتى أخر أيام حياته مستمراً بالعمل على رواية “المعلم ومارغريتا” التي نُشرت لأول مرة باختصارات في عام 1966- 1967.
اكتسب الكاتب شهرته العالمية بعد وفاته ، ويعد بولغاكوف المحافظ على استمرارية التقاليد الإنسانية للأدب الروسي الكلاسيكي في عصر وضعت فيه السلطات السوفيتية الإبداع الفني تحت رقابتها الصارمة وطالبت الفنان بمدح هذه السلطة والتغني بها وبالشعارات الطوباوية لبناء الاشتراكية , وتكمن مأثرة بولغاكوف الإبداعية بأنه جازف بحياته وبوضعه المعاشي ووقف ضد تلك المتطلبات عارضاً القيم الخالدة للحقيقة والخير والجمال وألف نتاجات أدبية تعكس تلك المدة من تاريخ الثقافة الروسية بصورة صادقة وبمهارة رفيعة المستوى محافظاً بذلك على استمرار تطور الثقافة.
رواية “الحرسالأبيض” (1923 – 1924).
نظر ميخائيل بولغاكوف إلى الثورة البلشفية والحرب الأهلية من جهة البيض (اتباع النظام القديم) لا من جهة الحمر (الشيوعيين) كما فعل غيره من الكتاب الروس في تلك الحقبة السوفيتية , وكان لظهور روايته “الحرس الأبيض” طابعاً مثيراً ليس فقط لأنها تعرض لأول مرة نماذجاً غير اعتيادية بالنسبة للأدب السوفيتي , فقد تجاوزت أهمية هذه الروية أطر توسيع مواضيع إمكانيات النثر , ويرى النقاد السوفيتان الكاتب رغم تعاطفه مع الشخصيات في الرواية إلاّ انه أكد حتمية هزيمتهم بكل ما لديه من قوة التحليل النفسي المعمق.
اكتسب مضمون الرواية وشخصياتها شهرة واسعة لأن الكاتب ألف على أساسها مسرحية “أيام آل توربين” التي سرعان ما جعلت اسمه مشهوراً في عالم المسرح.
وبرغم ان رواية “الحرس الأبيض” كانت في حقيقتها دفاعاً عن حركة البيض في أيام الحرب الأهلية التي أبقت العداء الطبقي سنين طوال، لكن السلطات الحاكمة اعترفت بها بادئ الأمر وسمحت بطبعها.
تعرض الرواية الحربَ الأهلية حدثاً منافياً للطبيعة البشرية. أما بدايتها فتنتقل بالحدث من افقه التاريخية الضيقة إلى نطاق الكارثة الإنسانية العالمية، منذرة بالموت العاجل للثقافة البشرية , حيث يدور الصراع الرئيسي في البداية بين فينيرا التي ترمز للحب وحياة السلم ومارس ألاه الحرب الشرير , ونهاية الرواية كذلك تشير إلى نطاقها العالمي ولا تحتوي الرواية على معسكرين متضادين (جماعتنا والأغراب)، بل الكل يتقاتل ويقتل بعضهم البعض الأخر باسم أهداف غير جلية وغير واضحة لكلا الطرفين , والتناقض لا يحمل طابعاً سياسياً بل هو تناقض سرمدي بين الموت والحياة يتحقق بالانكسار الروحي لأبطال الرواية القريبين من الكاتب والأعزّاء على قلبه.
والرواية مبنية على أساس السيرة الذاتية للكاتب وان المدينة التي لا يسميها لنا هي كييف التي عاش طفولته وشبابه فيها , وبيت عائلة توربين هوبيت عائلة بولغاكوف , سير الأحداث التاريخية مرتبط بالمدينة التي انتقلت في الأيام الحرب الأهلية لمدة أكثر من عشر سنوات من سيطرة مجموعة إلى سيطرة مجموعة أخرى وعانت من سلطة مختلف الجماعات المسلحة ، وفي النهاية يبقى بيت عائلة توربين واحة حية تحافظ على جوالعلاقات الإنسانية وسط سيل الدماء والقذارة، وقلعة تحاصرها القوى الغريبة والمعادية للإنسان. هذا ما يشعر به أكثر إبطال الرواية.
رواية “المعلم ومارغريتا”
يجوز تسمية رواية “المعلم ومارغريتا” بالمتاهة , ويمكننا القول ان ((الرواية الكبيرة )) تضم ثلاث روايات صغيرة، ثلاث متاهات، متقاطعة بالزمن لكنها مستقلة عن بعضها , نستطيع النظر إليها من مختلف الاتجاهات لكننا على كل حال نقف في نقطة واحدة هي نقطة المغزى الفني.
تصور أربعة فصول من الرواية يوماً واحداً من شهر نيسان في مدينة يرشلايم لكن أي شخص مطلع على الثقافة المسيحية يعرف أن الحديث يدور عن محاكمة السيد المسيح وصلبه ويعرف ان المدينة هي القدس (أورشليم) وهنا يعطينا بولغاكوف صيغته للإنجيلوبإمكاننا كما يقول النقاد أن نسمي الرواية “إنجيل ميخائيل”.
يتناول بولغاكوف في “المعلم ومارغريتا” أكثر الجوانب رعباً في الواقع الروسي في ثلاثينيات القرن العشرين , زمن “الرعب الكبير” عندما حُكِم على ألاف الأشخاص بالإعدام رمياً بالرصاص اوبالإحكام الشاقة بلا ذنب , ولما لم يكن باستطاعة احد التكلم عن ذلك بصورة مباشرة التجأبولغاكوف إلى لغة الإيحاء التي استعملها كلاسيكيوالقرن التاسع بصورة واسعة وإلى أسلوب المبالغة بالسخرية ومزج الواقع بالخيال والرعب بالهزل , اذ طورت سخرية بولغاكوف تقاليد الكلاسيكيين الروس لموجهة الرذائل الاجتماعية التي تنتقل مع المجتمع من قرن إلى أخر.
يطرح الكاتب أفكاره من خلال المشادة الفكرية بين ايشوا وبونتي بيلات , يتضمن الحوار بين هذين البطلين في الرواية تصورات فلسفية وأخلاقية معمقة، يحاول الكاتب التعبير عنها. وأهمها مسألة الخيار الأخلاقي ، الاختيار بين الإذعان للحقيقة أوللكذب من اجل الأهداف النفعية , إذ يؤكد إيشوا “أن قول الحقيقة بسيط وممتع” ولكن بيلات رغم تعاطفه الداخلي مع ضحيته لا يستطيع التنازل عن مصالحه التي يهددها أطلاق سراح شخص لم يرتكب جرماً ويرى بولغاكوفان الجبن هو أسوء رذيلة بشرية.
المسألة المهمة الأخرى التي يتناولها الكاتب في الرواية هي طبيعة السلطة مؤكداً على لسان إيشواان ( أي سلطة تمثل تعسفاً ضد الناس . . وسيأتي يوم ليس فيه لا سلطة قياصرة ولا أية سلطة أخرى ) بينما يعترض بيلات بصورة هستيرية : ( لم تكن سلطة في العالم على البشر ولن تكون أعظم وأروع من سلطة الإمبراطور تيفِرييا ! ) وهذا منطق كل من يِسعى من اجل سعادته الشخصية ومن اجل إنقاذ حياته ولوبالخضوع لأي طاغية بما فيهم من لم يتمكن بولغاكوف من التصريح اسمه علانية فاستعمل اسم تيفرييا بدلاً عن ستالين.
قصة “قلب الكلب”
عد هذه القصة من ابرز إعمال بولغاكوف ألفها عام 1925 ونشرت في أيام حياته , وترتبط أكثر خيوط القصة بالواقع الروسي في عشرينيات القرن العشرين وتعرض صور السياسة الاقتصادية التي مارستها الثورة البلشفية وتسلط ضيّقي الأفق , وآثار الانحطاط والانتشار الواسع للإعلانات الدعائية وتشويش حياة أهالي موسكو وأزمة السكن في ذلك الزمان وممارسة التعسف والبيروقراطية للجان الإسكان وحماسة العلماء وتجاربهم العلمية في ذلك الزمان , وتعكس القصة النقاش حول مسألة إعادة الشباب على طريقة العالم النمساوي شتيناخ وتجارب البروفسور كولتسوف في هذا المجال المطروحة في كتاب “إعادة الشباب” (عام 1924) والنقاشات حول مسألة توريث الصحة الواعدة بتحسين الصحة البشرية وظهور أفلام الخيال العلمي التي تناولت هذا الموضوع ومناقشة إمكانية قهر الموت والانتصار عليه.
بقلم الكاتب
الدكتور تحسين رزاق عزيز