العودة الثانیة للمهمة الأنصارية
لا يَتَخَيَلُ مَنْ تَابعَ تطوراتِ الأحداث السابقة، أن النصير العائد الى الشام، وهو يَحْمِلُ توجهاتٍ ومهامَ كثيرةً، ينبغي عليه إنجازها. يَقِفُ في مقدمِها العودة للوطن عبر الكويت. إنجاز تصديق وثائقه الدراسية في الإتحاد السوفياتي. يُضافُ إليها إشاراتِهِ الى طبيعة التعامل معه، والتهديد بقطع مخصصاتِهِ الزهيدة أصلاً. والأهم أنه يَحملُ إعتراضاتٍ شديدة على السياسةِ الفكريةِ والعمليةِ للحزب. كما إن الأمر لا يَقِفُ عند ذكر بعض المثالب، التي ظهرت في العمل الأنصاري، بل مارس النقد المرير والمعلن لعقود من سياسة الحزب: موقف الحزب من السلطة السياسية، تحالفاته وطريقة إدارتها، والأخطاء على الصعيد التنظيمي وتربية الكادر الحزبي. تتكامل تلك الحلقات عندما نرى أنه يملك تصوراتٍ حول الحلول. وليس مجرد وصف غاضب للحالات القائمة وبعض عثرات الماضي. في ضوء ذلك يكون أمراً مفاجئاً وليس في السياق أن يعود النصير ثانية الى كردستان.
لا تبدو فترة بقاء البصري بين الجبال طويلة. لكنها تنطوي على نتائج تستحق التوقف عندها. إنقسمت الخدمة الأنصارية للحجاج على وجبتين. تداخل الإستذكارات مع بعضها في سردية تلك المسيرة، خلقت بعض الصعوبة في متابعة وملاحقة كل أحداثها. بعد أن عرضنا ما يتعلق بالإلتحاق الأول. نتناول عودته الثانية الى كردستان. يقول: “هكذا وبعد المناقشات الطويلة مع ممثل الخط العسكري في دمشق (أبو جمال) قررت العودة مرة أخرى الى كردستان، وكان ذلك في بداية النصف الثاني من عام 1982. وقد إتفقنا أنها ستكون عن طريق إيران مباشرة في الطائرة”. (تجربتي ص 81)
بعد كل تلك الملاحظات التي أوحت، بأن صاحبنا سوف لن يعود الى كردستان. ظهرت فَجْأَةً نقلة سريعة في قرار التوجه. حَسَمَ أَمرَهُ نحو الوطن. قد تكون مثل هذه الحادثة سبباً مبرراً للدعوة الى ضرورة تحقيق أعلى درجات التبصر في النظر الى هموم الرفاق الفكرية والسياسية والحياتية أيضاً. أَعْتَبِرُ أيَّ شخصٍ يدفع بإتجاه التشدد في النظر الى مصائر الرفاق الآخرين، يقع هو بين عدة إحتمالات: صاحب إخلاص صنمي غير ممتحن، أو لم يُعَدَ إعداداً فكرياً وتنظيمياً مناسبين، أو يعاني من خلل في تصوره للصلابة الذاتية. ينبغي ألاّ يغيب عن البال في بعض الحالات، أن مَنْ يمارس سلوكَ التشدد على الآخرين، يأتي بدافع التغطية على هشاشة داخلية في بنائه القيمي. إن إعدادَ بعض الأعضاء، والكوادر بصفة خاصة، يستمر عقود. إن التفريط بهؤلاء الرفاق هو تفريط بمصالح الحزب أولاً، قبل أن تكون إساءة أو ضرر لرفيق ما. لا أسقط من حسابي هنا وجود نماذج قذفت بها الصدفة أو الخيانة أو قصر النظر الى قيادة مصائر الآخرين. كان من أبرز الأمثلة أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بكل زواياه المظلمة.
ترك النصير العائد شھادة تخرجه عند أحد أصدقائه الأنصار في دمشق. مِمَنْ سُمِحَ لهم بالبقاء لأسباب صحية. يبدو أن النصير العائد الى موقعه الأنصاري متعلق بشهادته الدراسية لحدود بعيدة. وهذا أمر يمكن تفسيره بعدة تصورات محتملة. يوجد في صفوف الحزب عدد كبير نسبياً من هؤلاءِ حملة الشهادات الجامعية العليا. لا توجد حالة واحدة أو نمط معين يشمل الجميع. وحتى النظرة إليهم متعددة ومتنوعة، من أعلى درجات الإحترام والتقدير الى أدنى درجات النظرة السلبية. ومن هؤلاءِ من إستثمر شهادته الدراسية في تحسين ظروف عيشته، ومنهم من فرط بكل إمتيازاتها حد الإستشهاد. وهناك ما بين الحالتين. مَنْ نَظَرَ إليها كقيمة إعتبارية، ومنهم من قال: إن لقب رفيق هو أعلى الألقاب. وفي هذا التقدير الأخير تتفاوت درجات الصدق أيضاً. علينا عند دراستنا لأي حالة ألاّ نقع في موقع الداعية فقط مدحاً أو قدحاً. إنما نُرْجِعَ كُلَّ حالة الى عناصرها الأولية ضمن سيرة كاملة. نعيد تركيبها نظراً وتحليلاً على أسس علمية. في محاولة للوصول الى أدق تقدير ممكن.
حصل صاحبنا على سمة دخول رسمية الى إيران. خُتِمَتِ التأشيرةُ على جواز سفره الیمني الجنوبي. يَنْقِلُ كالعادة أجواءَ السفرة وتفاصيلِها من دمشق، الى حين إستلامه من قبل المنظمة الحزبية في طهران. شَمِّلَ الوصفُ معالمَ المدينةِ الجميلة والواسعة، قصور الشاه في شمرانات، الملابس والأزياء والشوارع، ورفاق المنظمة الحزبية في طهران. وقبل كل شيء المضايقات في المطار من قبل رجال الأمن أصحاب الشكوك الدائمة بحكم طبيعة المهنة.
ما يثير الإنتباه بعض الأحداث الصغيرة على هامش الرحلة. ولكنها ذات دلالة، كان ينبغي أن تعالج بحزم. أخبره ممثل المنظمة العسكري في دمشق، بأن الرفيق مسوؤل العلاقات الذي تأخر وصوله الى المطار كان يتذرع. ولكن الطائرة تأخر إقلاعها صدفة لمدة ساعتين، مما أحبط مشروع ذلك الرفيق. وحين تأخر خروجه هو من مطار طهران بسبب التحقيق معه. وجد جماعته يهمون لركوب التاكسي، وكادوا يتركوه وحده. قد لا ننتصر على العدو، ولكن مما لا مفر منه هو الإنتصار على الذات، وتحريرها من كل الترسبات، التي لا تليق بالعمل الثوري المسلح. إن الثقة المتبادلة بين أخوة ورفاق السلاح تمثل أقوى مصدات المخاطر المحتملة. حين يجري التنبيه على بعض الحالات السلوكية الشائنة، فإن ذلك لا يضر بالعمل المسلح. إن الضرر يأتي من السكوت عليها. وهي لا تزن مثقال ذرة عند مقارنتها بالمآثر البطولية التي يجترحها الأنصار.
ينبغي علينا أن نضع هامشاً لتأثيرات العزلة في مناطق نائية أو معزولة على البناء النفسي والفكري للأشخاص. لاحظت بنفسي حالة تألمت منها كثيراً. نعم بعض رفاقنا الأبطال الذين أقاموا لفترات طويلة بعزلة. نمت عندهم ما يمكن أن نسميه الحسد النفسي غير المقصود، أو غير كامل الدلالة. مَرَّ رفيقٌ قادم من واحدة من أبرز منظماتنا في الخارج، للمشاركة في مؤتمر الحزب الرابع. وهو شخص ذكي وشجاع ومؤدب الى أبعد الحدود. عندما سمعت بطريقة الإستخفاف به، ومحاولات النيل منه مزاحاً أو بجد، آلمني ذلك الموقف. كان الرفيق إنساناً نبيلاً يتعامل بثقة مع الآخرين، وهذا الآخر يستخدم اللؤم المقصود أو غير المقصود ضده. وذلك من أجل أن يستمتع بالمزاح الطائش، ويدع بعض أعضاء المفرزة يضحكون.
تم في طهران إستكمال متطلبات التوجه الى جبل قندیل. ومن أهمها تصاریح يزودها الجانب الإیراني لبعض الأطراف العراقية. حصلت المجموعة على تصاريح عبر الحزب الإشتراكي الكردي ـ جماعة رسول مامند. توقفت المجموعة في طريقها عند نقطة تقع على الحدود الإيرانیة مع العراق. تسيطر عليها قوات الحزب الدیمقراطي الكردستاني الإیراني المعارض للنظام الإيراني بقیادة الراحل عبدالرحمن قاسملو. بعد الضيافة تقرر المسير على الأقدام صوب جبل قندیل. وصلت المجموعة الى ناوزنك. إستقبلوا فيها بحفاوة بالغة. لا یبعد ذلك الموقع كثیراً عن المقر الرئیسي للإتحاد الوطني الكردستاني (أوك).
يسجل صاحبنا كل ما يمر عليه خلال الرحلة من طرائف ومنغصات. ومن تلك الطرائف. إن الموقع الذي حَلَّ فيه كان قريباً من مزارع عنب في الجانب الإيراني. سُمِحَ للأنصار بالذهاب المتكرر الى تلك المزاع لقطف الثمار. كان الرفيق ماجد عبدالرضا العضو السابق في اللجنة المركزیة یتناول معهم العنب، ویدعو لهم بالصحة. أطلق علیهم لقب مھربي الأعناب. في تلك الأثناء كان التحضیر للإنتقال الى مقر آخر أكثر عمقاً صوب الداخل، الى (بشت آشان) جارياً. تزامن الإنتقال مع تزايد نفوذ قوات الأنصار سعة وأملاً. بدأ إستخدام السیارات بدلاً من السیر على الأقدام، أو إستخدام البغال. تم الإستیلاء على تلك السيارات بالقوة، أو تم تسلیمھا طواعیة من قبل مراكز الأمن. هنا تعلم صاحبنا السیاقة لأول مرة في حياته الكادحة.
وَصَفَ موقعَ بشت آشان من الناحية العسكرية، بأنه الأقل تحصيناً من ناوزنك، ولكن الرفيق يوسف سليمان ـ أبو عامل أصر عليه. جرت في تلك الأثناء بعض التطورات في الموقع الجديد، منها: إستكمال المھمات التنظیمیة الموجھة نحو الداخل في الوسط والجنوب، تشكل فصیل الإعلام، بث إذاعة (صوت الشعب العراقي) بإنتظام أكثر من السابق، وبدأت محاولات للتسلل الى الداخل، قال عنها إنها في بعض الحالات كانت غير موفقة.
طبعاً لا يخلو الجو أحياناً من الطرافة. يورد جانباً عن مجرى حياة الرفاق المتقدمين في السن. يقول الحجاج: “یوجد فصیل لابد من التنویه له، معظم الأنصار فیه من المرضى و(العجزة)، ویكنى بفصیل (بدربك حبیَّب)، وقد أتت ھذه الكنایة من قبل الرفيق أبو عادل (البصري)، والسبب كون معظم الأنصار الراقدین في القاعة الخاصة بھم، ولا سیما في الشتاء ینتظرون أحداً ما یدخل علیھم من فصائل أخرى، لیطلبوا منه تقدیم خدمة ما لھم بقولھم مثلاً (بدربك حبیَّب إشعلنا الصوبة) الى آخره من الطلبات” (تجربتي ص 91 ـ 92).
إنتقل عدد من الأنصار الى موقع متقدم يبعد عن بشت آشان نحو الساعة سيراً على الأقدام ضمن قرية مهجرة تدعى (پولي). وفي كل المواقع يحرص الأنصار على الإحتفال بمناسبات معينة. ففي 14/نیسان/1983 مثلاً تقرر الإحتفال بذكرى تأسیس إتحاد الطلبة العام. يحاول الكاتب نقل أوجه الحياة المختلفة مثل الأجواء الإحتفالية وكذلك بعض المنغصات والمناكدات. يذكر خلال الإنتقال من مقر (پولي) الى قاعدة متقدمة في قریة (بالیسان) لأسباب تنظیمیة. لم يتم الإستقبال بروح رفاقية، على حد وصفه، مشيراً حتى الى إسلوب تقدیم وجبة الطعام. كما لم يساعد أحد بإعارة بغل لحمل حاجیاتهم في تلك المسالك الوعرة. وصلوا الى ذلك الموقع وهم أربعة أو خمسة رفاق، بالإضافة الى (أبو محمود وأبو جواد ضمن المجموعة) مع الأدلاء. يضيف أنهم في الطریق اعترضتهم مفرزة من الإتحاد الوطني لمنعهم من التوجه الى ھدفهم. وبعد المفاوضات حلت الأزمة سلمياً.
يَصِفُ الوضعَ قبل جريمة بشت آشان، التي إرتكبها (أوك) بحق الأنصار الشيوعيين بالمتوتر. تزايد التوتر بعد أن وقع الحزب میثاقاً للعمل الجبھوي مع الحزب الدیمقراطي الكردستاني والحزب الإشتراكي. يرى بأن الحزب وجد نفسه، شاء أم أبى طرفاً في أیة أحداث تصادمية مقبلة. إن لم یتدارك الوضع من خلال المفاوضات والطرق السلمیة. يضيف الحجاج حول التطورات اللاحقة ما يلي:
“وتسارعت الأحداث بشكل دراماتیكي، وكان أبرزھا كلمة الرفیق كریم أحمد عضو المكتب السیاسي، التي بثت عبر إذاعة (صوت الشعب العراقي) التي مقرھا بشت آشان، ذكر فیھا (بأن ھناك رؤوساً ساخنة یجب تبریدھا)، ویقصد بالطبع في ھذه رؤوس (أوك)، وتم على أثرھا التحضیر لمعركة ضدھم (سمیت فیما بعد بمعركة بالیسان)، والتي حذر من عواقبھا العدید من الكوادر الحزبیة، وأنا من ضمنھم وأفضلیة اللجوء للحل التفاوضي، لأن ذلك لا ینسجم مع توجھاتنا بلم الشمل وتغلیب لغة الحوار، وأقل ما یمكن عمله عدم الإنجرار وراء (الروح العشائریة) بین الكتل الكردستانیة، وضرورة تفویت الفرصة على النظام الدكتاتوري، وتخطي الخلافات وتجنب الإقتتال بین الفصائل المختلفة، أو أي موقف یبدد طاقاتھا (وإحباط محاولات النظام المتكررة لشق وحدة الصف الوطني). (تجربتي ص 95).
إحتشدت قوات كبیرة مؤلفة من الحزب الإشتراكي وقوات الحزب خلال يومي 28 ـ 29/نیسان/1983. یصل مجموع تلك القوة أكثر من أربعمائة مقاتل. وھي قوة ضاربة بحسابات حرب العصابات، وهي تمتلك أسلحة جیدة كان من ضمنھا، وبعھدة مقاتلي الإشتراكي سلاح مھم وفتاك ھو (أر. بي. جي 10)، بالإضافة الى مدفعیة الھاون عند أنصار الحزب، هذا الى جانب الأسلحة الخفیفة. تم بالفعل الھجوم على مقرات (أوك) في أكثر من موقع بقیادة (ملازم خضر وبالتنسیق مع الإشتراكي). تمكن الأنصار من طرد قوات (أوك) بعد أن تكبدوا خسائر فادحة. كانت ھزیمة موجعة لھم، ولھذا كان رد الفعل من قبلھم عنیفاً وقاسیاً. بدأوا في الیوم التالي بهجمات إختبارية، وفي الوقت نفسه يعدون لشن ھجوم مباغت على مواقع أخرى في بشت آشان.
يتبع …