تقديس الزعامات
المقال الخامس
إنّ التنظير الذي قام به الانتهازيون الطامعون في كسب ودّ الحاكم ، أو الزعيم (الراعي) ، وما يدر عليهم من فتاة الأموال والوجاهة جعلوا له الولاية المطلقة في إفهام تلك الرعية وتوجيهها صوب الوجهة التي يراها هو أنّها الأصوب والأصح ، والتي تتفق مع رؤيته ومصالحه بغطاء الدين الذي غزلوه منذ قرون ، ليضبط فوضويتها وسوء تصرفاتها ، وكبح جماح عنفها ، ونزع عدوانيتها على ما يراه ، ولذلك تجد في الموروث الأدبي السلطاني الكثير من الصفات التي أطلقت على (الرعية) من قبيل أنها (قاصرة) يتوجب تربيتها وتقويمها ، أو هي (وحش) كاسر ينبغي لجمه وترويضه ، أو أنها (جسد) مآله الموت لولا ما ينثه السلطان ، أو الزعيم (الراعي) من روح يمنحها الحياة ، أو هي (أمانة) بيده قد أؤتمن عليها ، أو هي (غنم) سائبة بلا راعيها ، أو (نبتة) تتوق إلى قطرات غيث الزعيم (الراعي) ، وغير ذلك من الصفات التي سلبتها آدميتها ، وكرامتها ، وجعلتها منقادة مطيعة خلقت لذلك شاءت أم أبت .
ومن مصاديق هذا التنظير ما ورد عن الجاحظ (ت255هـ) في قوله : (إنّ العامة لا تعرف أداة الخاصة تبذلها للمهن وتزجي بها الأمور وتطول بها العدو وتسد بها الثغور . ومقام العامة من الخاصة مقام جوارح الإنسان من الإنسان . فإنّ الإنسان إذا فكّر أبصر وإذا أبصر عزم وإذا عزم تحرّك وهذا بالجوارح دون القلب . وكذلك الجوارح لا تعرف قصد النفس ولا تروى في الأمور ولم يخرجها ذلك من الطاعة إلى العزم ، فكذلك العامة لا تعرف قصد القادة ولا تدبير الخاصة ولا تروى معها ، وليس يخرجها عن ذلك من طاعة عزمها وما أبرمت من تدبيرها . وصلاح الدنيا وتمام النعمة في تدبير الخاصة وطاعة العامة ، كما أن كمال المنفعة وتمام درك الحاجة بصواب قصد النفس وطاعة الجارحة) (·) .