في التعامل مع حالات الغضب
في تلك الظروف المرتبكة والمحزنة كَتَبَ الرفيقُ النصير رسالته الثانية الى المكتب السياسي للجنة المركزية. وصفها هو نفسه، بأنها لا تخلو من إنفعال. ومن الثابت إن حالات الإنفعال الصادقة لو جرى التعامل معها بوضوح وحرص، لأمكن تسويتها بما يخدم الحالة العامة. أما دوافع التوقف عند تلك الرسالة من جانبي. تكمن فيما وجدته بها من تشابه مع عشرات الرسائل الأخرى، التي تسلك ذات الطريق ـ الى م. س. بعض تلك الرسائل متشابهة من حيث النوع، ولكن بمقادير متفاوتة من حيث الأهمية. كما تتضمن أنواعاً مختلفة في مجالاتها. إن الشيء الثابت هو التشابه في رد الفعل أيضاً. أرى من خلال ذلك وجود نزعة للهيمنة عند هذه الهيئة الحزبية الأساسية، التي من المفترض أن تساهم في إشباع جميع الهيئات والخلايا الحزبية بمسؤولياتها الكاملة، وتعزز مقدراتها على المعالجة. ثم تحرص في الوقت ذاته على مراقبة سلامة سير الحياة الحزبية. إن إنشغال المكتب السياسي واللجنة المركزية بما يمكن أن يوصف بالعمل اليومي. يخلق حالات من القصور المؤلم والمتنوع.
نشر النصير محمد الحجاج تلك الرسالة في كتابه كاملة. قدم لها بما يلي: “وفي تلك الفترة بعثت برسالة الى المكتب السياسي وهي لا تخلو من الإنفعال لكنها في الوقت نفسة تعبر عن المعاناة والشعور بالإهمال من قبل الحزب وعدم الفهم الصائب لوجهات النظر المختلفة التي تطرح بجدية وإخلاص، وإن الشعور بالغبن وعدم الإنصاف والتقدير، معضلة بحد ذاتها، ولهذا من الصعب حلها لا سيما وإذا كان المقابل لا يدرك أو مجرد الركون الى الصمت والإغفال المتعمد”. (تجربتي ص107)
كانت فاتحة الرسالة على النحو التالي: “الرفاق الأعزاء في م. س. تحية حارة …..رغم ضعف ثقتي بأنكم ستولون الإهتمام اللازم برسائل وملاحظات الرفاق ـ كما هو في السابق ـ والملاحظات التي طرحتها عليكم وكان آخرها مؤرخة في 19/12/1982. والتي أحتفظ بنسخة منها، برغم كل ذلك أتوجه برسالتي هذه أرجو منكم الرد عليها. (تجربتي ص108)
أحاول هنا نَقْلَّ أَهم إتجاهات وموضوعات الرسالة. يصف الحالَ بأنه يُمثل فترة لم تمر في تاريخ الحزب. خاصة بعد أحداث (بشت آشان)، التي إعتبرها هزيمة سياسية وعسكرية، خلقت تضعضعاً في وضع الحزب الداخلي. يرى إن العقلية التي إرتكبت الأخطاء الجسيمة في سياسة التحالف مع البعث. هي نفسها التي ساعدت على إرتكاب مذبحة بشت آشان. وواصلت تحت غطاء شعار وحدة الحزب خروقاتٍ وإنتهاكات ظاهرة ومبطنة. ويتسأل بمرارة بادية: هل وحدة الحزب هي الحفاظ على التوازنات شبه العشائرية داخل اللجنة المركزية؟
تكمن عوامل الضعف في حياة الحزب الداخلية والعامة حسب تصورات الكاتب في عدة أسباب، منها:
ـ ينبغي أن يتولى قرار تغيير سياسة الحزب من التحالف الى الكفاح المسلح كونفرس حزبي عام، إن لم يكن مؤتمراً وطنياً.
ـ تقع مسؤولية تأخير عقد المؤتمر أو الكونفرنس الحزبي على عاتق (ل. م) ومكتبها السياسي.
ـ يرى في المخاوف على وحدة الحزب، خوف على التشكيلة القيادية للحزب حسب، وذلك لحفظ التوازنات القائمة فيها.
ـ تتطلع النسبة الغالبة من العضوية الى حل المعضلات الخطيرة التي تواجه الحزب. ولكنها تشعر في الوقت ذاته بغياب الجدية.
ـ جرى إسناد مسؤوليات هامة للعناصر التي وصفها بالهزيلة والجبانة والخائفة والعشائرية بدلاً عن إبعادها.
ـ ختم رسالته بعبارات، أوحت وكأنه لا ينتظر رداً من م. س، جاء فيها النص التالي: “إن هؤلاء وغيرهم من رافعي شعار (حزب الشهداء) هم يتحملون مسؤولية كبيرة عن حفر قبور رفاقنا. إننا نطالبكم بالكف عن مثل هذه المهازل والتحلي بروح المسؤولية تجاه المبادئ والحرص عليها وإتخاذ الإجراءات الضرورية، وذلك بعقد المؤتمر الرابع وإلاّ فإن الحزب سيذبح وأمام أنظاركم أو سيتحول الى هيكل عظمي لا غير”. (تجربتي ص 111 ـ 112)
إختار عبارة لماركس لوصف الحالة: “عاطفة بلا صدق وصدق بلا عاطفة، أبطال بلا بطولات وتاريخ بلا أحداث، تطور يبدو إن القوة الدافعة الوحيدة هي التقويم الزمني، تطور مرهق بسبب من دوام تكرار ذات النهضات والسقطات”. (تجربتي ص112)
لا يقبل أي حزبي متزمت، أو غير متزمت، أو محدود الأفق والتجربة، أو يقرأ ظاهر العبارات حسب، لا يمكنه أن يطيق مثل هذا الكلام. لكن لوضع المسؤول الحزبي هذه العبارات القاسية في موضعها. وحاكمها بمعايير صدقها. لوجد عدة جسور للعبور المشترك صوب مصلحة الحزب والنضال العام لخدمة الشعب، وإيجاد لغة مشترك للتفاهم. يجب من منطلق الحرص على عضوية الحزب توفير المعرفة الحقيقة بكل النصير، فهو واقعاً أو واقفاً أصلاً في مكان يتطلب مستوى من الإستعداد للتضحية. ويكن الإحترام لتضحيات رفاقه الآخرين.
ربما عقود من عملي في الحزب، وهو عمل لم ينفصم واقعاً وروحاً، وكذلك عملي في مجالات وأمكان وأدوار مختلف، داخل الوطن وخارجه، عمل ومسيرة يغلب عليها الإضطهاد من العدو الطبقي، ومن الأشخاص ضعاف التكوين الرفاقي في صفوفنا، أو ما يمكن وصفهم بما هو أخطر. تقول لي دائماً تمهل في إطلاق الأحكام الى أن تصل الى اليقين. وتفهم أي إنسان يشكو من ظلم وقع عليه.
من محاسن التقاليد الفهدية إنها تقف رادعاً، نظرياً على الأقل، أمام هؤلاء الذين لا يضجروا بل يتلذذون بممارسة الظلم على رفاق الدرب. وفي كل الأحوال والمنعطفات تبقى أغلبية عددية ونوعية في جسم الحزب تدافع عن القيم الحزبية الأصيلة، حتى ولو كانت بعيدة عن مراكز القرار. هؤلاءِ الأخيرون لا يقبلون بكل ما هو شائن، وبكل ما هو ضد الضمير، وضد قواعد التنظيم الأصيلة للحزب العمالي، وهم قوة ضغط إيجابية بغض النظر عما تحققه على الأرض.
قرأت كتاب (تجربتي) بهذه الروحية. وقد ساعدتني على تفهم غضب الرفيق النصير وإحتجاجاته الصريحة. أقول دون تحفظ إنها إحتجاجات صادقة لو قرئت في حينها بروح تنسجم مع المبادئ المعلنة للحزب، لكانت النتائج لصالح الشعب والحزب والرفاق والرفيق ذاته.
لم يطيل الكاتب القول في تحليل شامل لكل أبعاد الحرب العراقية ـ الإيرانية. ولكن أهم ما أشار إليه. إنه لم يكن يعول على تلك الحرب، كما توهم آخرون. وهو موقف يستحق التقدير، ويمثل وعياً وطنياً وطبقياً مستقراً ومتقدماً، وهو بعيد عن الخفة الفكرية والسياسية.
هذا موضوع كبير وفيه إجتهادات متضاربة. يضر الخوض فيه الآن على عجالة، ودون إشباعه بكل ما هو ضروري. خاصة إن المواقف العامة والفردانية في هذا الصدد معروفة في أوساطنا. إن التعويل على الحرب العراقية ـ الإيرانية لإستقاط النظام الدكتاتوري الدموي ليس خطأ سياسياً فقط، إنه خطأ مبدئي. كان الموقف المبدئي يفترض ملاحظة الطبيعة المشتركة بين النظامين، ومنها: العداء للشيوعية، العداء للحقوق القومية للإثنيات المختلفة في البلدين، العداء لنظرية الطبقة العاملة، سرق الثورة من أيدي صناعها، والتعرف مسبقاً على مخاطر الدين السياسي بكل صنوفه وأنواعه وغيرها من المشتركات. مع التعرف الكامل على كل نقاط الإختلاف بين النظامين طبعاً. وبعد تقديم الجيوش الإيرانية في بلادنا وإحتلال الفاو، كان ينبغي إدانة ذلك الى جانب الدعوة لوقف الحرب فوراً. ولكن هناك من أوهم نفسه متبجحاً بنهج أو خط الإمام، وأضاف أوهاماً لا تقوم على أسس طبقية أو وطنية سليمة. أخطرها الفهم المسطح والعقيم لمقولة: “ليس للعمال وطن”. إنها عبارة تعكس عمق الوطنية في أعلى تجلياتها. إن أروع من فهم هذه المقولة بفطرته الثورية هو الشعب العراقي الذي قال خلال إنتفاضته التي يراد اليوم غدرها: “نريد وطنناً”.
يواصل النصير الكاتب سرديته، بأنه نتيجة للرتابة قرر الذهاب الى الى قاطع سوران، حيث مقر المكتب السياسي. إلتقى هناك الرفاق: باقر إبراهيم، سليم إسماعيل، ويوسف سليمان. طرح عليهم وضع الحزب وتصوراته هو عن الأوضاع. يقول: “لم أحصل على رد سلبي أو إيجابي”. ولكن سليم إسماعيل لمح له في حينها بأن من الأفضل له ترك كردستان، والسفر الى خارج العراق حتى ولو لفترة قصيرة والتفكير بهدوء حول الخطوات اللاحقة. ولمح ربما الى إحتمال أن هناك موقف مبيت ضده.
يبدو أن الكاتب كاشف نفسه بواقع حاله. إتخذ القرار الذي كثيراً ما راودته حوله هواجس وأفكار. وصف الموقف على النحو التالي: “وبعد التمعن بالأمر وفقاً لقناعتي (إن كنت صائباً أو مخطئاً) بأن البقاء هنا لا ينفع ومن الأفضل أن أتابع المشوار العلمي الذي أصبح في المرتبة الأولى بعد أن كان الثانية في مرحلة سابقة، وحتى لا يضيع مني هو الآخر، وبنفس الوقت فإن هذا الأمر ليس بدعة أو نشاز، لأن الكثير من الكوادر العلمية لم تزج بمهمات في كردستان، وعلى هذا الأساس طرحت الفكرة عليهم، ونالت القبول ولم الحظ أن هناك شيئاً مبيتاً إلاّ بعد وصولي في الدقائق الأولى الى دمشق”. (تجربتي ص 114 ـ 115)
مارس النصير الغاضب في قاطع بهدنان الهاديء نسبياً من المشاكل سلوكاً فيه مؤشرات تكتلية. وفق المعايير السائدة بحزبنا. وذلك من خلال دعوته لعدد من الرفاق لكتابة رسالة مشتركة بـ”طريقة تنظيمية” الى المكتب السياسي. إن مثل هذا السلوك الحزبي تقع مسؤولياته على الطرفين الرفيق أولاً ومن ثمة التنظيم. على الرغم من أن سلوك الرفيق وفق إعتقاده لا يهدف الى التخريب، ويأتي تحت ضغط ظروف خاصة. يمكن الدفاع عنه في حالة واحدة، لو كان ذلك داخل هيئته الحزبية. في مختلف الفترات تعرض الحزب لمواقف من هذا النوع ومن مختلف المستويات الحزبية، لكن في كل الأحوال تستمر المساعي لإيجاد لغة للتفاهم البناء. وحتى الإنشقاقات المعلنة والتدميرية، جرى التعامل معها بمرونة مبدئية، هذا حين يكون المسؤولون من نوع الذين يمتلكون ثقة بأنفسهم ورفاقهم.
إنتظر في مقر قاطع بھدنان أكثر من شھرین، من أجل الحصول على موافقة بعودته الى دمشق. تم ذلك في النصف الأول من تشرین الثاني 1983. شكلت لهذا الغرض مفرزة لعبور نهر دجلة. تم تحديد أفراد حمايتها. كلف صاحبنا بالمسؤولية الحزبية على تلك المفرزة. إنتقلوا الى نقطة متقدمة نحو المثلث العراقي التركي السوري، وهي قرية مهجورة تسمى (كيشان). بقت فيها المجموعة عدة أيام إنتظاراً للوقت الملائم لعبور دجلة نحو الجانب السوري. باءت المحاولة الأولى للعبور بالفشل بسبب إنتباه الجندرمة التركية. أُطلقت النار على المفرزة للتخويف، مما إضطرها للعودة الى الأراضي العراقية.
تمكن جزء من المجموعة يوم 14/11/1983 عند منتصف اللیلة الثانیة من العبور. تطوع أشخاص من المجموعة بالعبور سباحة. بينهم صاحبنا والشھید أبو ظفر، من أجل توفير أماكن في الكلك لكبار السن. حصل العبور على الرغم من برودة میاه النھر وشدة قوة تیاره. رزم النصير العائد وثائقه بأكیاس نایلون للحفاظ علیھا. أثناء بلوغ الجانب السوري، تحول سروره الى حزن عميق. حدثت مأساة مروعة. سقط طفل من بین یدی أمه في النهر. منعت الأم من أن تصرخ. أغلق زوجها فمھا بيده، لأن الضراخ قد يؤدي الى مقتل الجميع، منعها قائلاً: “إن حیاة الموجودين ھنا أثمن من إبنك، وبذلك لم یدعھا لكي تفعل أو تعبر عن ھذه التراجیدیا المؤلمة، وصمت الجمیع من الحزن الشدید”. (تجربتي ص 118)
وأنا أعالج هذه الفقرة من التقريض، أخذت فرصة لمتابعة بريدي الشخصي. وجدت مادة جميلة للكاتب العراقي المغترب الجميل بكتاباته وإقتباساته محمد عارف، موسومة بـ(«هواوي» في بطرسبرغ). أوحت لي وأكدت أهمية الحكمة في معالجة كل ما نواجهه. وأهمية ما تجذر في ذاكرة الشعب عبر أقوال حكمائه. فالصين مثلاً اليوم إنتصرت عملياً على عدوانية الولايات المتحدة من خلال الإستناد على العمل وعلى ذاكرتها التاريخية الخاصة، وعلى الحكمة أيضاً. منها قول المنظر والخبير العسكري الصيني «صون تزو» (551 ـ 496 ق. م) في كتابه «فن الحرب» إن: «أرقى فنون الحرب هو أن تقهر عدوك دون قتال». وفي مجال الحرص على المقاتلين توجد في سيرة فهد ورفاقه والآف ممن جاؤوا بعده، كل ما يجود بمنع التفريط بالأعضاء، ويعزز التماسك الداخلي، والسعي لبذل كل الجهود من أجل أن يشعر الفرد، إنه ضمن جماعة يتبادل أعضاؤها دور حماية الآخر والعناية به والحكمة في التعامل. وبصدد بشت آشان هناك مّنْ قال: إنها ليست حتمية. فهل كان بالإمكان الإنتصار فيها بحرب، أو من دون حرب، أو من خلال دور الحكمة؟
يتبع …