جائحة النهضة العظمى
محمد عارف*
حتاج العالم إلى الجائحة ليدرك كم هو غني وذكي وقادر. «مايكروسوفت» أعلنت، الجمعة الماضي، غلق جميع متاجرها حول العالم، والإبقاء على أربعة مراكز بحثية فقط. والآن تخدم «مايكروسوفت»، وهي أكبر شركات التكنولوجيا العالمية، ملايين الزبائن في العالم عبر «الأونلاين». «مايكروسوفت تغادر السفينة الغارقة»، عنوان تقرير فضائية «سي إن إن» عن الحدث التاريخي، الذي بادرت إليه «مايكروسوفت» منذ اندلاع الجائحة في مارس الماضي، وتبعتها ملايين الشركات والأعمال في تحقيق أكبر ثورة في طرائق الإنتاج والتبادل، عرفها التاريخ الحديث.
و«الآثار الجانبية للجائحة تقدم صورة مستقبلية بديلة للكرة الأرضية»، عنوان تقرير صحيفة «الغارديان» البريطانية عن تحقيق الجائحة، دون قصد، أهداف اتفاقيات حماية المناخ العالمي، ووقف إطلاقات غازات ثاني أوكسيد الكربون، وغيره من الغازات «الدفيئة». ونفّذت الجائحة في لمح البصر الاتفاقات الدولية، التي يستمر الصراع حولها منذ القرن الماضي، وتراوح مكانها منذ عقود. مدن العالم الكبرى أضحت نظيفة وهادئة، ويمكن لأول مرة التمشي فيها والركض وركوب الدراجات، وحتى الرقص وسط شوارعها الرئيسية.
مَن توقع، حتى مارس الماضي، أن يقرر الكونغرس الأميركي، بالأغلبية الساحقة ومن دون مناقشات جدية، تخصيص تريليوني دولار لبرنامج حفز الاقتصاد، وإضافة مساعدات للعاطلين عن العمل، وللعوائل المتوسطة ومحدودة الدخل. هذه ليست سوى البداية في رأي الباحثين الأميركيين، الذين يطرحون آراء مستفيضة لإنشاء شبكة استثمارات اجتماعية. وهي ليست المرة الأولى التي تفتح فيها أزمة اقتصادية الأبواب لتوسيع المعونة الحكومية، والتي جاء معظمها كرد فعل على «الكساد العظيم» منذ مطلع القرن الماضي.
وتواجه الولايات المتحدة، الآن، انكماشاً اقتصادياً لا مثيل له، ويدعو الباحثون الأميركيون إلى «أن لا تذهب مع الريح» هذه اللحظة التي قد تحدثُ تغييراً مستديماً، وحتى مَن يختلف مع هذا الرأي يذهب أبعد منه. ويعتقد «والتر شيدل»، المؤرخ الاقتصادي الأميركي المعروف بمؤلفاته المستفيضة حول قدرة الأزمات (كالحروب والمجاعات وكوارث الطبيعة) على دفع المجتمعات في ممرات أكثر مساواة وعدلاً، أن الدمار الذي تحدِثه الأزمة الحالية، ليس بالسوء الذي نتصوره.
وقد كشفت الجائحة عورة المجتمعات الغربية الثرية، حيث باتت «الجماهير الكادحة» تعاني أكثر من الجميع. تُقرُّ بذلك المجلة العلمية الأميركية «ساينس» في تقرير مسهب، عنوانه «من الطاعون حتى الإنفلونزا، عبر الجائحات، لماذا الناس على الهامش يعانون أكثر من الجميع؟». وكشفت «ساينس» كيف قضى الطاعون على 60% من الناس في فلورنسا ومدن أوروبا التي اجتاحها عام 1348. وبرهنت الحفريات الأثرية التي أجريت في المقابر الجماعية في لندن، وغيرها من المدن الأوروبية، أن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية حدّدت مسار الطاعون وغيره من الجوائح. «وكشفت الدراسات الاجتماعية والبيوتكنولوجية أن هذا النمط من الأزمات يمر عبر الصدوع القائمة داخل كل مجتمع». والناس الذين يواجهون أكبر خطر، هم الناس المهمشون الفقراء والأقليات الذين يعانون التمييز بطرق تُدّمر صحتهم. وتذكر «ساينس» أن «كوفيد-19» أصاب السود، والسكان من أصل لاتيني، أربعة أضعاف غيرهم من السكان.
ورغم هذا، أضحكت نكات الجائحة الناسَ في كل مكان، بما في ذلك العالم العربي، حيث النكات باللهجة العامية تدافع عن الجائحة: «بطلو ظلمها عملت فيكم إيه، كان نفسكم تقبضوا رواتبكم وانتو قاعدين في البيت.. وحصل. وكان نفسكم أولادكم ينجحوا ببساطة من غير ضغط عصبي ودروس ولا اختبارات.. وحصل. وكان نفسكم، يا رجال، حريمكم يبطلوا أسواق، ومولات وكوافيرات.. وحصل. وكان نفسكم، يا حريم، رجالكم يقعدوا في البيت معكم ويبطلوا قهاوي وخروج.. وحصل» .
* مستشار في العلوم والتكنولوجيا
- الخميس 2 يوليو