فِي الأوطان المفترسة أبناءها في الأزمان الموحشة، يتداخل الغرائبيّ والواقعيّ، وتصبح الصور السريالية مرايا المشهد الروائيّ المعاصر، خاصة روايات الحرب المكتوبة في الشتات، الموغلة في التخيّل والوهميّ، لتصوير فداحة الكوارث. في ( طشّاري ) 2013 التي تنتمي إلى أدب المنفى، تلجأ صاحبة «الحفيدة الأمريكية» الكاتبة العراقية إنعام كجه جي إلى توظيف السرابية والغرائبية في التشييد الروائيّ المتداخل بالسيرة الذاتية (السيرواية)، إشارة إلى قسوة الواقع ووحشيته وإلى الإحباط والعجز المحيط بشخصياتها، جراء تراكم الحروب. كما أنّ صورة الغلاف الطبية، التي تختفي وراءها المؤلفة/ الساردة طبيبة النساء وردية، وهي في غرفة عمليات التوليد أثناء عملها في الديوانية عام 1961، تشكّل عتبة ونصّا موازيا، بلغة جينيت جيرارد، لاستكناه موضوع الرواية. فالصورة تحيل إلى التوليد أي انبثاق الولادة والحياة، والعنوان الحربيّ طشّاريّ يحمل سيميائية التشتّت والتفرّق. فـ«طشّاري» باللهجة العراقية المحكية تعني طلقة البندقية الموزّعة في كافة الاتجاهات، «تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزّع في كلّ الاتجاهات» , وهذه الطلقة المنطلقة من وطن وردية والموزّعة في المنافي، تحمل سيميائية النفي والتهجير، تشكّل استشرافا لنهاية الرواية الدائرية، التي أسّست لمشروع الهرب والتشتّت، وبناء وطن افتراضيّ بديل، ما لبث أن انهار وتلاشى فجأة مثل حلم أو كابوس. تبدأ أحداث «طشّاري» من باريس وحصرا من قصر الأليزيه حيث الطبيبة العراقية العجوز وردية إسكندر، مع عدد من العراقيين المسيحيين اللاجئين في فرنسا، في لقاء قداسة البابا بنديكتوس , وتنتهي الأحداث في باريس ووردية أمام شاشة التلفاز، مسكونة بالوجع العراقي، تراقب الموت العراقي اللامنتهي بعد أن تحوّل وطنها، بتوصيفها من «بلد ألف ليلة وليلة» إلى «بلد ألف ويلة وويلة». برغم أنّ وطن وردية إسكندر كان عاقا في حقها، إذ نبذها في آخر عمرها، فهي ما زالت متعلّقة به وتحنّ إليه، فالعراق حاضر بتفاصيله ومناطقه ومدنه وأسماء مطربيه وشعرائه وحكامه، وهي تقول عنه» ياقوت عمري، إنّ حياتي من دونه هباء». توظّف «طشّاري» الأسلوب الغرائبيّ، من خلال تشييد وطن وهميّ، مقبرة إلكترونية على شبكة الإنترنت، لجمع رفات أموات عائلة إسكندر العراقية الموزعين في منافي العالم، لاستحالة تجميعهم في بقعة جغرافية واحدة , والمقبرة الإلكترونية هي فكرة طفولية ابتكرها الصغير إسكندر، ابن أخ وردية المقيم مع عائلته في باريس، وقد لاقت استحسان وموافقة الشباب العراقي بعد قداس الكنيسة في باريس. إنّ اقتراح فكرة هذه المقبرة من قبل الصغير إسكندر، يشير إلى حل هروبيّ وهمي مصيره الفشل , وكما ورد في الرواية «ولن تكون هذه المقبرة سوى وهم جديد نضيفه لكلّ تلك المواقع التي يهرع إليها العراقيون لتشييد بلد على الإنترنت» والمقبرة مرايا عاكسة لعمق مأساة العراقيين وأزمتهم الوجودية في المنفى، وهي تشكّل سخرية مرّة من حياة الغربة وهروبا من الواقع إلى الحلم. وكما يقول إدوارد سعيد في كتابه «تأمّلات حول المنفى» عن خيال المنفيين «ويقضي المنفيّ معظم حياته في التعويض عن خسارة مربكة بخلق عالم جديد يبسط سلطانه عليه , ولذا ليس من المدهش أن نجد بين المنفيين كثيرا من الروائيين، ولاعبي الشطرنج والناشطين السياسيين، والمفكّرين , فهذه المهن جميعا لا تتطلّب سوى حدّ أدنى من التوظيف في الأشياء إذ تضع الحركة والمهارة في المقام الأوّل». لقد ابتدعت «طشّاري» هذه الفكرة لتخطّي الواقع وللسخرية من العيش في المنفى بفعل الحرب، فوردية إسكندر تعاني من فوبيا الغربة، وترفض أن تعيش لاجئة في باريس، فهي بقيت ضيفة في بيت أخيها ولم تشتر بيتا هناك، أي أنّ إقامتها مؤقتة، كما أنّ طلبها للهجرة إلى كندا رفض 3 مرات، تأكيدا على رفض فكرة الهجرة , وهي متمسّكة بهويتها العراقية لغة وعادات، وانتماء عن وعي وقناعة، ومجيئها للغرب كان اضطراريا، خوفا على حياتها وهربا من أعراس الدمّ. تنتهي أحداث الرواية ووردية ما زالت تنتظر في باريس، في بيت أخيها , والانتظار برغم واقع العراق الدموي هو استشراف أمل العودة والعيش من جديد في الوطن المحروق وليس صدفة أن أوردت الكاتبة في عتبة الرواية، بيتين من قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السّياب (1926-1964) «غريب على الخليج» يستشرفان العودة إلى العراق، ويشكّلان مفتاحا لفهم رسالة الرواية، وفكّ شيفراتها، والبيتان هما : لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كمل اللقاء . . الملتقى بك والعراق على يديّ هو اللقاء . الرواية مسكونة بالأرق والرعب من المستقبل، فوالدة إسكندر التي تحمّست في البداية لفكرة المقبرة الإلكترونية، بدأت تقلق على ابنها من انشغاله بها وبصداقته الجديدة مع الموت، وخافت عليه أن يشيخ نفسيا . إنّ فكرة المقبرة الإلكترونية الواسعة بلا حدود، وانشغال إسكندر الصغير ببناء برنامج أو موقع على شبكة الإنترنت، خاص بالنيكروبوليس هو دلالة على أزمة وجودية حادّة، وإدمان على لعب الموت، بتأثير القاموس الحربيّ المنهال من عمته وردية، ومن مشاهد موت العراقيين المرسومة على الشاشات , فوردية علّقت على جدار مطبخها ورقة تسجّل عليها أسماء القتلى من زميلاتها وزملائها و»رأت، على الشاشة، موتى في مقابر جماعية، شاهدت شبابا يهجّون بالآلاف. بلغتها رائحة الجثث المتراكمة في الشوارع. طيّارون وصحافيون وأساتذة جامعات يقتلون، أيضا بالجملة». هذه الفكرة الغرائبية تفشل، وهذا الوهم ينهار ويتلاشى، لأنّ الموتى العراقيين خانوا الحفيد إسكندر، وقاموا بانقلاب مثلما اعتادوا القيام بانقلابات كثيرة وهم أحياء، فقد انتفضوا من قبورهم، للعودة إلى وطنهم. بقلم الكاتب سمير حاجّ |