حوار مع الدكتور عبد الحسين شعبان لموقع أجيال قرن 21
أجرت الحوار: أورنيلا سكر
س1 – د. حسين شعبان بداية أهلا بك بموقع أجيال قرن ال٢١ ، فأنت مفكر عربي غزير الإنتاج ومجتهد جاد ومجدد وناقد للأوضاع السائدة مثلما أنت باحث متعدد الاهتمامات من الفلسفة إلى علم الاجتماع إلى السياسة والقانون والاقتصاد والتاريخ والثقافة والأدب والأديان . هل بالإمكان التحدث عن أطروحاتكم بخصوص الهوية بعد صدور كتابكم الهوية والمواطنة (مركز دراسات الوحدة العربية)، وأين موقع العراق بعد “الربيع العربي” والتظاهرات الأخيرة؟
ج1- انشغلت بموضوع “الهويّة والمواطنة” منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، ارتباطاً بالتغييرات الكبيرة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية بانتهاء عهد ” الحرب الباردة” بشكلها السابق والصراع الأيديولوجي بين النظامين المتصارعين “الرأسمالي والاشتراكي”، لاسيّما بانفجار موضوع الهويّات على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي غيّر الكثير من المسلّمات والفرضيات، فاستوجب إعادة النظر بعدد من القناعات والاستنتاجات، سواءً على الصعيد الفردي أم على الصعيد المجتمعي، للصلة الوثيقة بين العام والخاص، والوطني والفردي والشامل والفرعي .
ولم تكن ظاهرة “انبعاث” الهويّات لدرجة التذرّر أحياناً، ناجمة عن إرادة مسبقة أو رغبة في التفلت من الكيانات السابقة فحسب، بل انعكاساً لواقع جديد وتعبيراً عن تمظهرات مستحدثة موضوعياً وذاتياً، بتداخلات خارجية واستقطابات داخلية، خصوصاً وقد رافقها أعمال عنف ونزاع وحرب بعد جدل وصراع، استعرت آواره بفعل صعود عوامل التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك سيقود إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً منفلتاً من عقاله باستهداف المجتمع والدولة معاً، وهدفه إضعاف ثقة الفرد بالدولة وإحداث نوع من الرعب والفزع في المجتمع بما فيه إضعاف ثقته بالدولة، ناهيك عن أنه يصبح إرهاباً دولياً عابراً للقارات والحدود والبلدان.
وقد حاولت معالجة موضوع “الهويّة والمواطنة” من زوايا مختلفة، سواء هويّة الجماعة أم الفرد الثقافية آخذاً بنظر الاعتبار التحوّلات والتغييرات التي شهدتها هويّة الجماعة أو الفرد كجزء من صيرورة تاريخية دينامية متعدّدة ومتنوّعة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف بما يتناسب مع درجة التطور في كل مجتمع وكل مجموعة بشرية وكل فرد، بلحاظ القواعد القانونية العامة في الدولة العصرية، تلك التي تتيح الإمكانات لمواطنة سليمة ومتكافئة.
وفي إطار الهويّة، وفي لبّها تتفاعل عوامل عديدة قومية ودينية ولغوية وسلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وغيرها، مرّة بمعناها التشاركي وأخرى بمعناها التنازعي، وتارة بمعناها العام الجامع والمشترك وثانية بمعناها الفرعي الخاص والمتميز، والأخيرة غالباً ما تكون دفاعية ضد التسيّد أو الهيمنة أو رفض الاستتباع وقد تندفع مرغمة على الانعزال، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي، مثلما تأخذ تلك التجاذبات مكانها في البحث عن تكافؤ الفرص لمواطنة متساوية ومتكافئة .
وهناك تداخل وتفاعل لدرجة الاندغام أحياناً بين هويّات متعدّدة لدى كل فرد ولدى كل مجموعة بشرية، وهذا ما يميّزها عن غيرها، لاسيّما لشعورها بالانتماء، مثلما تميّز الفرد عن غيره، والأمر يعود إلى القناعة الخاصة من جهة والشعور الذي يجمع من ينتمون إلى هذه المجموعة، أو لدى الفرد الواحد من جهة أخرى، بحيث يقر أن هذه السمات هي التي تعبّر عن هويّته الغالبة أو أن هذه المجموعة تشعر أن هذه المواصفات هي التي تمثل شعورها الخاص بالتميّز أو التمايز عن غيرها من المجموعات الإنسانية.
وكان صدور الطبعة الأولى من كتابي ” الهويّة والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة “ يناير /كانون الثاني 2017، وقبلها كتابي المعنون “جدل الهويّات في العراق- الدولة والمواطنة” في العام 2010، وقبله كتابي الموسوم ” من هو العراقي؟- إشكالية الجنسية واللاّجنسية في القانونين العراقي والدولي، في العام 2002، فرصة جديدة لتوسيع دوائر الحوار والجدل والنقاش الذي احتدم على المستوى العالمي، ناهيك عن انعكاساته عربياً.
س2- لقد أمضيت أكثر من نصف قرن في الكفاح من أجل إلغاء الطائفية في العراق وتكريس المواطنة . سؤالي ما هي مشكلة المجتمع العراقي ؟ لماذا هذه الدوامة والتعثر في الخروج من الصراعات الداخلية والطائفية في العراق ؟ وما حجم تأثير الجهات الخارجية في استبعاد تحقيق أي حل في العراق؟
ج2- لبناء مواطنة حيوية على أساس هويّة موحدة، فالأمر يحتاج إلى مناعة وطنية باستذكار ما هو سلبي في علاقات المجموعات الثقافية ليكون عبرة، والبناء على ما هو إيجابي ليكون أفقاً، لكي لا يندفع من يشعر بالغبن والتهميش والإقصاء إلى الرفض والتمرد والرغبة في الانقسام، وهذا الأمر يتطلب منجزاً مشتركاً ومعرفة متبادلة بخصوصيات كل فريق ومراعاتها، لما فيه من حساسيات، ناهيك عن المجال العام المشترك الداعم للوحدة والتضامن ومجابهة التحديات الخارجية، كما يحتاج إلى شجاعة وتصميم وإرادة سياسية والتزام قيمي وحضاري يقوم على المشتركات الإنسانية والتشاركية المسؤولة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
وأساس كل ذلك هو العيش المشترك والضمانات الحقوقية والالتزامات القانونية، أي عدم التمييز ونبذ أي شكل للاستعلاء بزعم “الأكثرية والأقلية” أو ” الأكبر والأصغر” أو “القوي والضعيف” أو ” الأعلى والأدنى” وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه لمعالجته وفقاً لقواعد دستورية للدولة العصرية، بتأكيد التخلي عن أي شكل من أشكال الإرغام والإكراه والعنف ضد الآخر والإقرار بالتعددية والحوار والتوافق على حل المشكلات بالسلم والتفاهم وعدم اللجوء إلى السلاح، وذلك وفق عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والحقوق .
وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية وآخرها في العراق ولبنان (تشرين الأول / أكتوبر 2019 والتي لا تزال مستمرة) أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة ، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والسلم، إلى وضع الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
ونحتاج إلى الإصغاء لبعضنا البعض وإتقان فن الحوار والمصارحة وإدارة التنوّع الثقافي باحترام الخصوصيات، بما يعزز المسؤولية الجماعية، وينمّي الفردانية والتميّز دون نسيان المشتركات الإنسانية والمسؤوليات التي تترتّب على الفرد وحقوقه إزاء الجماعة والمجتمع ، وتلك تحتاج إلى بناء من التنشئة الأولى، لاسيّما إذا توفرت مؤسسات لرعاية مثل هذا الحوار، وهو حوار بين أتباع الثقافات المختلفة، سواء: قوميات ، أديان ، لغات، وحوار في الحياة العامة، مثلما يحتاج إلى رياضة نفسية لتقبّل الآخر وأفكاره وحقه في الاختلاف. والحوار يمكن أن يتخذ بعداً ثقافياً وآخر حقوقياً وقانونياً وثالثاً سياسياً واجتماعياً ويحتاج إلى إدارة فاعلة وناجحة لإدارته.
وسبق للباحث أن طرح هذا الموضوع على نحو موسّع في كتاب صدر له بعنوان “جدل الهوّيات في العراق – المواطنة والدولة” اقترح فيه مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، تلك التي ينبغي أن تقوم على أساس الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة، وهي أركان أساسية للمواطنة المتكافئة والفاعلة دون أي تمييز أو استقواء، وهو الأمر الذي كان مطروحاً في الماضي، ولكنه يصبح أكثر إلحاحاً وأشد خطورة في الوقت الحاضر، خصوصاً ما يعانيه المجتمع العراقي من إنقسامات طائفية ومذهبية وإثنية، تركت بصماتها على مجمل العملية السياسية، ولعلّ أحداث محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وامتدت إلى مدينة الأعظمية ومدينة الشعب في بغداد ومناطق أخرى، ليست بعيدة عن الاستقطابات والتحديات الجديدة – القديمة!
وقد شهدت الساحة العراقية تطهيرات مذهبية وإثنية خلال عامي 2006 – 2007 وما بعدهما على نحو أقل، لكن ذيولها وتأثيراتها ظلّت تطلّ برأسها بشكل أو بآخر وبين فينة وأخرى، خصوصاً عند بعض الاحتكاكات السياسية، تلك التي ترفع درجة الشعور بالتمييز والحرمان وعدم المساواة والتهميش، وهو الأمر الذي انعكس مؤخراً في صيغة التظاهرات الكبرى ذات الطبيعة الاحتجاجية والمطلبية، وهو ما يطرح مجدداً هوّية الدولة العراقية “الموحدة”، ذات التنوّع الثقافي والهوّيات الفرعية لجهة التوازن، وعدم تغوّل أية هوّية على أخرى بما فيها الهويّة الجامعة أو “الكبرى” على الهوّيات الفرعية، مثلما يفترض احترام الهوّيات الفرعية للتطلعات العامة للهوّية الجامعة الموحدة، بما فيها لمكوّناتها الأساسية.
وإذا كان المجتمع العراقي واحداً، لكنه يزخر بهوّيات متعددة، وهناك فرق كبير بين الوحدة والواحدية، فهو يشترك بهوّية عامة ويمتاز بهوّيات فرعية، والهويّة العامة غير مفروضة وإنما تتشكل كهوّية طوعية واتحاد اختياري، وهي بالتالي ليست هوّية إكراهية مفروضة أو استعلائية أو ردّ فعل لها.
ولعل الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوية، خصوصاً الشعور بالانتماء، لا سيّما وأن الهويّة تقوم على التوالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة، الثابتة والمتغيّرة على نحو عميق، عبر التطور التدريجي التراكمي لفترات زمنية طويلة، وذلك من خلال العلاقة مع الآخر إنسانياً وعبر العادات والتقاليد التي تعكس سلوك الناس وحياتهم، وبالتالي فالأمر مثل الكائن الحي يخضع لقوانين التطور الحياتية ذاتها، وبقدر انطباق الأمر على المستوى الفردي، فإنه ينطبق على المستوى الجماعي أيضاً.
هل ينفرد المجتمع العراقي بوجود هوّية موحّدة وهوّيات فرعية، وكيف السبيل لعلاقة تكاملية بين الهوّيات المتنوعة؟ وكان الماضي بقدر ما يزخر بالعلاقات الإيجابية الودية، فإنه يحمل ذكريات مؤلمة في الوقت نفسه، وهو الشعور الذي ظل ملازماً لبعض القوى السياسية الدينية ومعارضتها أحياناً، لا سيّما في ظل المحاصصة الطائفية – الإثنية. ولكن هل أصبح التعايش مستحيلاً؟ وما هو دور السياسة في استعادة التوازن والتواؤم والانسجام وحلّ الإشكالات القائمة بروح الوحدة والتسامح والمصير المشترك؟ وما هي تجارب الغير على هذا الصعيد؟
في المجتمعات المتقدمة تقلّص الصراع إلى حدود غير قليلة، لا سيّما الصراع المسلح، ولكن الجدل يستمر ويتواصل ويتصاعد أحياناً حتى وإن قررت الأطراف المتنازعة الافتراق، لكنها تختار الطريق السلمي المدني في الغالب، بعد أن جرّبت طريق العنف بكل ما فيه من مآسي ووعورة وآثار سلبية.
إن لغة الحوار والوسائل السلمية هي الأساس لحل مشكلات البلدان المتقدّمة مع بعضها البعض، في حين أن العنف هو الشكل السائد في بلداننا لحل قضايا الهويّة والمواطنة، أي أن البلدان المتقدمة يغيب فيها البعد الاستئصالي والإقصائي، في حين أن الجانب العنفي والعسكري يستمر في مجتمعاتنا، لإلغاء الآخر أو ترويضه.
ومع ذلك فإن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فحتى بعض البلدان المتقدّمة ظلّت تعاني من جدل الهوّيات الذي يصل إلى حد الصراع حتى مع توفّر المواطنة، الأمر الذي ينبغي إعادة النظر بالمسألة إنسانياً، وهناك تجارب مريرة لذلك: يوغسلافيا التي انشطرت إلى ستة كيانات جديدة، والاتحاد السوفييتي الذي انقسم إلى 15 كياناً واستمرار مشاكل إيرلندا (بريطانيا) والكيبك (كندا) والكورسيك (فرنسا) والباسك (إسبانيا) ومشكلة جنوب إيطاليا، إضافة مشكلة بلجيكا التي من المحتمل أن تنشطر إلى كيانين على الرغم من النظام الديمقراطي العريق والاتحاد الفيدرالي، حيث ضمان حقوق المواطنة، لكن ذلك حسب قناعة مكوّناتها قد لا يلبي الامتلاء الكامل لتحقق طموحات الهوّيات الفرعية، ولا يرضي تطلّعات خصوصية ترى ضرورة التعبير عنها على نحو مستقل، لا سيّما بعد أن يصبح التعايش مستحيلاً.
ثمة أوهام أربعة عاشت معنا ما قبل التغييرات التي حصلت في أوروبا الشرقية وربما بعضها لا يزال مستمراً:
فالوهم الأول الذي يقول أن الدول الصناعية والديمقراطية والتي اعتمدت المواطنة قد حلّت مسألة الهويّة، لكن الواقع يثبت يوماً بعد آخر أن مثل هذا الحل لا يزال ناقصاً ومبتوراً، بدليل التحدّيات التي تواجهها ما يزيد عن 20 حالة لتمسكها بهوّيتها القومية اللغوية أو التاريخية أو غير ذلك، ناهيكم عن التعبير عن حاجات وطموحات إنسانية.
أما الوهم الثاني فهو الذي يقول أن تحقيق الديمقراطية والمواطنة يدفع بصراع الهوّيات إلى الخلف مقابل المصالح والحقوق، ولكن الواقع يزخر بالمزيد من التمسك بالهوّيات الفرعية، التي يبدو أنها ترتفع فوق الاعتبارات الأخرى أحياناً.
وكان الوهم الثالث ينطلق من رؤية افتراضية هو أن البلدان الاشتراكية قد حلّت مسألة الهوّيات، حتى اعتقدنا أن ألمانيا الديمقراطية أصبحت أمة منفصلة عن الأمة الألمانية (الغربية) وذلك بعد ما تبنّاه دستورها في العام 1977 بحكم نظامها الاجتماعي المختلف، وإذا بالبنيان ينهار سريعاً بانهيار جدار برلين في 9تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1989 ويلتقي الألماني بالألماني دون آيديولوجية، ولكن الجامع المشترك هو اللغة والدين أساسا الهويّة.
والوهم الرابع أن صراع الهوّيات وجدلها، إنما هو حكر أو دمغة خاصة بالعالم الثالث الذي يعاني من أزمة تعايش، لكن تجربة الهند التي اتخذت من الديمقراطية والفيدرالية طريقاً لتحقيق المواطنة أوجدت شكلاً جديداً لتعايش الأديان والقوميات واللغات والسلالات، لازال قائماً وبصورة سلمية يستمر ويتعزّز على الرغم من تحدّياته، وهناك تجربة ماليزيا وتجارب أخرى.
وخلاصة الأمر فإن الهويّة تتعلق بوعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني، وهذا ما ينطبق على الجماعة في إطار مجتمع متعدّد ومتنوّع ومختلف، لكنه متعايش ومتواصل ومتكامل، بل مجتمع موحد وإنْ ليس واحداً.
س3 – هل نحن إذاً في تشكيلات ما قبل الدولة ؟ وما السبيل للخروج من ذلك ؟
ج 3- ما السبيل للخروج من الشرنقة التي لفّت المشهد السياسي العراقي طيلة السنوات الماضية، لا سيّما وقد أنذرت بانهيار العملية السياسية بعد تعطّل تشكيل الحكومة لأكثر من ثمانية أشهر وبعد استقالتها رشّح أكثر من اسم لكنه تم رفضه وما تزال مهمة الحكومة الحالية عسيرة وتتجاذبها قوى وأطراف مختلفة، إضافة إلى وباء الفساد المالي والإداري والميلشياوي وكوفيد 19 والكارثة الصحية، فعلى الرغم من إطفاء بعض النيران، فإن الكثير منها ما يزال تحت الرماد، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع التقاسم الوظيفي أو ما سميَّ بـ “الشراكة” كتعبير ملطّف عن المحاصصة، لا سيّما إذا اتّسمت ببعد طائفي، فصيغة بول بريمر ما زالت قائمة حتى الآن، ولعلها قد تصبح عرفاً مستمراً إذا ما دلّ عليه تواتر الاستعمال وعنصر التكرار وموافقة الأطراف المعنيّة، ولعل التجربة اللبنانية خير دليل على ذلك. ولم تخرج المعادلة في العراق حتى الآن عن رئيس وزراء شيعي له الصلاحيات الكبرى، ورئيس جمهورية كردي، ومع أن منصبه بروتوكولياً، لكن التشبث به يصبح مسألة نفسية، أما رئيس البرلمان فإنه من حصّة ما يُسمى بالسنّة الذين يقبلون به على مضض.
إذاً ما يزال المشهد السياسي يعاني من الاصطفاف والاستقطاب الطائفي والمذهبي، على الرغم من انخفاض منسوب الطائفية مجتمعياً، لكن تأثيراتها الخطيرة ما تزال قائمة، خصوصاً كلما لاح توزيع المناصب والاستحقاقات الوزارية والوظائف الحكومية العليا، وعلى الرغم من إصرار الجميع على أن قوائمهم تتجاوز الانقسام الطائفي، وأن الطائفية لم تعد جاذبة مثلما كانت بُعيد الاحتلال، بل أن بعضهم يؤكد أنها من نتاجه، نافياً عن الدولة والمجتمع تأثّرهما بالطائفية أو امتثالهما إلى حكمها، لكن معالجة من هذا النوع سواءً أكانت تأييداً أم تنديداً، في الماضي والحاضر، تُجانب الحقيقة في الكثير من الأحيان، لا سيّما بإعادة قراءة التاريخ قراءة متبصّرة، دون انحياز أو تسطيح للأمور، فالإشكالية والمشكلة لم تظهر فجأة ودون مقدمات أو سابق إنذارات أو حتى دون احترابات قديمة.
وإذا اقتصر حديثنا على التاريخ المعاصر للدولة العراقية الحديثة التي تأسست في 23 آب (أغسطس) 1921، فالمشكلة تتعلق بما ورثته من انقسامات من الدولة العثمانية، حيث كان العراق مسرحاً لحروب ونزاعات مسلحة، بين الإمبراطورية الفارسية، أيام الصفويين، وبين دولة الخلافة العثمانية، الأمر الذي انعكس على الساحة العراقية احتراباً واقتتالاً واستقطاباً، وخصوصاً على الفرق والمذاهب بمساعدة الطرف الفارسي الصفوي حيناً، وبدعم من الطرف العثماني – التركي حيناً آخر. وكان كل منهما عندما تستقيم له الأمور ينكّل بالآخر ويمارس العنف ضده ويتجاوز على مقدساته وطقوسه.
وعندما فشل المحتلون البريطانيون في حكم العراق مباشرة، وأعلن مجلس عصبة الأمم الانتداب على العراق سعوا إلى زرع بذرة الطائفية قانونياً، في مواجهة الوحدة الوطنية العراقية، بعد اندلاع ثورة العشرين في حزيران (يونيو) 1920، حيث شهد العراق التحاماً وطنياً ودينياً وعشائرياً متجاوزاً المشروع الطائفي، بالإجماع على حق العراق في الاستقلال وفي حكم نفسه بنفسه وتقرير مصيره، وإجلاء القوات البريطانية عن أراضيه، مما دفع البريطانيين إلى التفكير باستخدام سلاح “فرق تسد” فلجأوا إلى سنّ قانون طائفي للجنسية هو القانون رقم 42 لعام 1924، وكان ذلك قبل صدور دستور العراق “القانون الأساسي” الذي صدر في العام 1925.
وقد ميّز هذا القانون بين العراقيين في اكتساب الجنسية، واعتمدت شهادة الجنسية درجتين لمنح الجنسية وهي (أ) لمن كان من رعايا الدولة العثمانية فيصبح عراقياً بالتأسيس، حتى وإن لم يكن عربياً، أي سواء أكان تركياً أو ألبانياً أو كرجياً أو غيره، و(ب) إذا كان من تبعية أخرى مثل “الإيرانية” فهو يكتسب الجنسية العراقية حتى وإن كان عربياً أصيلاً، فهو لا يُعتبر عراقياً، بل يكتسب الجنسية العراقية من الفئة (ب) على الرغم من كونه مولوداً في العراق، وكذلك أبوه وجده أحياناً،حتى لو كان قبل ولادة الدولة العراقية.
لقد جاءت نتائج هذا التمييز لاحقاً ببعض الممارسات في العهد الملكي، لا سيّما إزاء بعض الوظائف العامة والعليا وإن كان على نحو محدود وغير ملحوظ، لكن تأثيراته السلبية جاءت لاحقاً بصدور القانون رقم 43 لسنة 1963، الذي استند إلى القانون الأول ووضع شروطاً مشددة للحصول على الجنسية، وترافق ذلك مع حملات تهجير أولى في العام 1963، وعمليات تهجير أكبر في العامين 1965 – 1966، ثم حملة واسعة شملت نحو سبعين ألف بين العامين 1969 – 1971، وتواصلت الحملة الكبيرة في العام 1975 لتشمل أعداداً كبيرة من الأكراد الفيلية بعد وصول اتفاقية 11 آذار (مارس) للحكم الذاتي العام 1970؛ بين الحكومة العراقية والحركة الكردية إلى طريق مسدود، ولكن حملة التطهير الجماعي ونزع الجنسية كانت في ذروتها العام 1980، أو عشية الحرب العرقية – الإيرانية، حيث صدر القرار رقم 666 بتاريخ 7 أيار (مايو) 1980 عن مجلس قيادة الثورة القاضي بإسقاط الجنسية عن الذين يعتبرون من “أصول إيرانية” أو بسبب عدم موالاتهم للحزب والثورة وقد تمّ إلغاء هذا القرار في العام 2003.
تركت تلك الإجراءات التعسفية، بما فيها نزع ملكية المهجرّين، ردود فعل طائفية تمّ توظيفها من جانب إيران سواءً في الحرب أم في السلم، كما تمّ استثمارها سياسياً من جانب الأحزاب والقوى الشيعية، وانعكست تلك الإجراءات على الحساسيات الطائفية مجتمعياً، إضافة إلى مرافق الدولة، الأمر الذي جرى استغلاله على أحسن وجه ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بتشجيع من بول بريمر، مثلما يذكر في كتابه “عام قضيته في العراق” وكانت معاهد ومراكز أبحاث ودراسات غربية تعمل على تكريس مفهوم الانقسام الطائفي في العراق منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان.
إن الواقع الجديد الذي نشأ في العقود الثلاثة الماضية، لا سيّما بعد الاحتلال جعل العراق في مواجهة أشكال مختلفة من الطائفية السياسية، تارة باسم البحث عن الهوية، وأخرى بحجة رفع المظلومية والحيّف، وثالثة باسم الأغلبية، ورابعة بقراءة “خاصة” للتاريخ، وخامسة بالسعي لإحياء الماضي، وهكذا دخل أمراء الطوائف في صراع محموم، لم ينفع معه وجود دستور يقرّ مبادئ المواطنة واحترام الحقوق والحريات، وإن احتوى على ألغام لا مجال لذكرها في هذا المقال يمكن أن تنفجر في أية لحظة.
وإذا كانت الهويّات الفرعية تغتني وتتطور بالتفاعل والتواصل الإنساني مع الهويات الأخرى، سواءً الهوية الوطنية العامة أو الهويّات الفرعية الأخرى، فإن الأساس في التعايش والمشترك الإنساني هو المواطنة والتي تتطلب مواطنين أحرار، بحيث تكون مواطنتهم عابرة للطوائف والإثنيات والأديان والعشائر والجهويات، وفي إطار وحدة كيانية متعددة وموحدة في الآن، وهو الأمر الذي ظلّ غائباَ.
لا نتصوّر وجود حل سحري سريع للمشكلة الطائفية، سواءً بإسقاط الرغبات، أو التبشير بالتمنيات، فالأمر يحتاج إلى عناء وبناء دستوري وقانوني ومجتمعي، ولاسيّما رفع درجة الوعي والثقافة الحقوقية، فضلاً عن علاقات متساوية ومتكافئة، تؤسس لمواطنة حرة.
ولعّل الخطوة الأولى والأساسية تبدأ بإصدار قانون (سنّ تشريع) لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، لا سيّما بتأكيد اعتبار الطائفية خطر على المجتمع والدولة في آن. وهي جريمة كبرى تستحق أقسى العقوبات إذا ما اقترنت بالعنف واستخدام القوة! وسيكون وجود مثل هذا القانون مدخلاً لمنع استخدام المنابر الحكومية وغير الحكومية، السياسية والدينية والإعلامية والبرلمانية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والرياضية لإثارة نعرات الكراهية والاستعلاء بتضخيم الذات، أو باستصغار شأن الآخرين والتمييز ضدهم أو تهميشهم أو إقصائهم.
إن وجود قانون يحرّم الطائفية ويعزز المواطنة سيكون ضداً نوعياً لا غنى عنه لمواجهة نزعات التمذهب والتمييز والتسيّد وإدعاء الأفضليات والتشبث بتقسيمات ما قبل الدولة.
نشرت في موقع أجيال قرن 21 ، السبت 4/7/2020