مقالات

عراق نوري السعيد .. ماذا قال الجواهري عن تجار الشورجة ؟ – عبد الحسين شعبان .

هيئة التحرير .

عراق نوري السعيد .. ماذا قال الجواهري عن تجار الشورجة ؟ – عبد الحسين شعبان

عراق نوري السعيد .. ماذا قال الجواهري عن تجار الشورجة ؟ – عبد الحسين شعبان

أعمال القمع والإرهاب وصعود الدكتاتورية لا تحجب الواقع المرير

سألني الصحفي توفيق التميمي المختفي قسرياً منذ أكثر من 100 يوم (وقبله زميله مازن لطيف الذي اختفى قسرياً هو الآخر في بداية حركة الاحتجاج التشرينية 2019): هل ستعيد ما فعلته العام  1956 يوم حملك المتظاهرون لتهتف بسقوط نوري السعيد وتندد بحلف بغداد وتساند مصر ضد العدوان الثلاثي، وهي اللقطة الأولى في حياتك السياسية… ماذا لو عاد التاريخ  إلى  الوراء هل ستكرر الموقف ذاته ..بالاتجاه نفسه ، وتهتف بسقوط نوري السعيد؟ ألا ترى أن نوري السعيد أرسى ملامح “الواقعية السياسية” التي افتقدناها  زمناً طويلاً، منذ حلول “جمهوريات الخوف” والانقلابات العسكرية وهيمنة الشعارات الحماسية الثورية الفارغة على حياتنا؟ كيف تقيّم السعيد سياسياً وإنساناً بعد التجربة المريرة التي شهدها العراق؟ وكان قد نشر ذلك في كتاب صدر بعنوان ” المثقف في وعيه الشقي- حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان “، دار بيسان، بيروت،2013.

كان جوابي: البعد الزمني وتلاحق الهزائم وتصاعد أعمال القمع والإرهاب وصعود الدكتاتورية بألوانها المختلفة، لا ينبغي أن ينسينا الواقع المرير الذي كان العراقيون يعيشونه أيام الحكم الملكي، ولاسيّما في السنوات الأخيرة من ذلك العهد، حيث الإرتباط بحلف بغداد وتكبيل الحرّيات وقمع كل صوت معارض وإصدار قوانين غليظة بزعم ” مكافحة الأفكار الهدّامة”، حتى أن كامل الجادرجي، وهو شخصية وطنية ديمقراطية معتدلة، أودع السجن وتم سحب الجنسية العراقية عن كامل قزانجي وتوفيق منير وسفّرا إلى  تركيا، وصدرت قرارات بسحب جنسية عزيز شريف وكاظم السماوي وعدنان الراوي وآخرين، وحُكِم على المئات من النشطاء من خيرة بنات وأبناء الشعب العراقي.

إن الذي أسس لأحكام الإعدام في العراق كان نوري السعيد ذاته، بإعدام العقداء الأربعة فهمي سعيد ومحمود سليمان وكامل شبيب ويونس السبعاوي وسجن العشرات من المناصرين لحركة العام 1941 المعروفة باسم حركة رشيد عالي الكيلاني، كما تم إعدام قيادات الحزب الشيوعي يوسف سلمان يوسف (فهد) وحسين محمد الشبيبي (صارم) ومحمد زكي بسيم (حازم)، وآخرين لا يذكرهم الحزب الشيوعي مثل ساسون دلال ويهودا صدّيق العام 1949 ولعل الأجواء التي خلقها كانت وراء إغراق وثبة كانون بالدم، حين خرجت الجماهير احتجاجاً على معاهدة بورتسموث العام 1948  لاسيّما في معركة الجسر الشهيرة التي سقط فيها جعفر الجواهري شقيق الشاعر الجواهري، الأمر الذي أدى إلى  إسقاط وزارة صالح جبر، كما أن نوري السعيد لم يكن بعيداً عن قمع انتفاضة تشرين العام 1952 وانتفاضة العام 1956 دعماً للشقيقة مصر، وهو الذي زوّر انتخابات البرلمان وقمع أي متنفس للحريات وأغلق الهوامش الصحفية التي ظلّت محدودة.

إن العهد الملكي هو الذي حفر قبره بيده كما يُقال، وكانت سياسات نوري السعيد والوصي عبدالإله، هما السبب الأساس فيما وصلت اليه أوضاع البلاد وبعد أن انسدّت جميع الطرق إتّجه الجيش نحو الانقلاب العسكري، الذي سرعان ما تحوّل  إلى “ثورة” بتأييد شعبي ساحق أغلق الطريق على الثورة المضادة وعلى بقايا النظام الملكي من الانقضاض، لكن هذه الثورة مثل غيرها قطعت خط التطور التدرّجي الذي كان يمكن ولو ببطء شديد أن يستمر، لولا اندفاعات نوري السعيد وتطرفاته بالذات، لكان الهامش قد أصبح أكبر، لكنه اختار طريق التشدّد والعزل والتهميش وحجب حق التعبير، وقد أخذ صدره يضيق بالتدرّج من الآراء المغايرة فما بالك بالمعارضة. وكان يعتقد كغيره من الحكام الذين لم يتّعظوا ولم يأخذوا عبرةً ودرساً بأنه ونظامه خارج نطاق التغيير، حتى أنه عشية اندلاع ثورة تموز (يوليو) 1958 كان قد ردّد من إذاعة بغداد ” دار السيد مأمونة”.

لكن ذلك لا يبرر أعمال العنف أو إعطاء شرعية للعسكريين للانتقال من الثكنات  إلى  منصّات السياسة، ولعل أول خطيئة للثورة هي إعدامها العائلة المالكة خارج نطاق القانون، ثم القيام بتعليق الجثث ومن ثم سحلها في الشوارع، في همجية وبشاعة منقطعة النظير، حيث الاندفاع كان سائداً وردود الفعل حادة في الشارع ومن جانب القوى السياسية، الأمر الذي بحاجة  إلى  وقفة انتقادية جريئة، حيث تم تأسيس العنف المضاد بعد الثورة، التي ابتدأت عهدها بالقتل والسحل، وكغيرها من الثورات بدأت تأكل رجالها. وإذا كنتُ اليوم أميل للتطور والتراكم التدرّجي، فإن الأمر لا يتعلّق بالرغبات، خصوصاً عندما يحتدم المشهد ويصبح التغيير بالقوة أحياناً أمراً لا مفرّ منه، لكن القوة لا تؤسس الاّ لنقيضها قوة أخرى وهكذا .

سجون ملكية وأخرى جمهورية

إذا كنتُ منخرطاً كما أشرتُ عاطفياً ووجدانياً وعائلياً وثقافة ومزاجاً ضد العهد الملكي، لكنني لا يمكن أن أنكر بعض إيجابياته، خصوصاً مقارنته بما حصل لاحقاً في العهود الجمهورية، وبقدر تطوّر العلم والتكنولوجيا تطوّر القمع أيضاً. أنقل هنا حواراً دار بين حسين جميل وابن أخيه ماجد مكي الجميل (من القوميين العرب) الذي اعتقل في العام 1970  ثم أطلق سراحه ودار الحديث التالي بينهما: قال العم حسين أن سجني أقسى من سجنك حتى لو كنت في “قصر النهاية” الرهيب. أجاب ابن الأخ: ولكن كيف يا عم كانت تصلكم الصحف والمجلات ولديكم راديو، قال العم: ولو، فإن سجني أقسى، لأن النظام الذي سجنني يحتكم  إلى  دستور مهما قيل عن سلبياته وهي كثيرة، وهو منتخب حتى ولو تم تزوير الانتخابات، أي أن فيه شيئاً من “الشرعية” و”الممارسة القانونية”، أما من سجنك فليس لديه مثل هذه الشرعية، وأن الذين سجنوك جاءوا بانقلاب عسكري والدستور مؤقت وإرادة الحاكم هي الأساس.. ألا ترى كيف يحصل الأمر والمقارنة؟

وكنتُ قد استعرتُ موسوعة التحقيقات الجنائية التي صدرت العام 1950 وما بعدها من الاستاذ حسين جميل، في أواخر العام 1968 وهي تحتوي على إفادات واعترافات القيادات والكوادر الشيوعية، فأرسلها لي قائلاً مع رسالة خاصة شفوية نقلها لي ماجد الجميل: إذا كنتم قد قلبتم الدنيا على بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية في العهد الملكي واعتبرتموه “جلاّداً” و”سفّاحاً”، فعليكم اليوم لا الرحمة على روحه حسب، بل ذكره مع شيء من التبجيل والتقديس، لأن الزمن الحالي والقادم سيكونان عسيرين عليكم، وقد قصد بذلك تولّي ناظم كزار منصب مدير الأمن العام وشروعه بتعذيب المعتقلين وافتتاح سجن قصر النهاية،الذي استقبل أعداداً كبيرة من الشيوعيين بجناحيهم (أي القيادة المركزية واللجنة المركزية) والقوميين والناصريين والبعثيين اليساريين (جماعة سورية) وآخرين.

وبالمناسبة وعلى الرغم من مساوئ العهد الملكي، لكن القسوة كانت أقل بما لا يُقاس، بل إنها كانت مقننة، وبقيت بعض الاعتبارات التي لا بدّ من مراعاتها، فيوم اعتقل عمي شوقي شعبان في النجف بعد تظاهرات العام 1956 تدخّل حينها متصرف كربلاء لإطلاق سراحه، بل إن قاضي التحقيق جاء بصحبة عمي د. عبد الأمير شعبان لهذا الغرض، وعلى الرغم من تحفّظ مفوض الأمن فقد اضطّر إلى  الرضوخ، ولكنه كتب البرقية التالية إلى  بهجت العطية: في الوقت الذي نلقي القبض على الشيوعيين الخطرين، تلعب الواسطات دورها في إطلاق سراحهم!!

وبعد نحو عام احتاج عمي شوقي إلى شهادة عدم محكومية لإصدار شهادة جنسية كما أعتقد، فأخذه خاله عبد الرضا شعبان عضو غرفة تجارة بغداد وهو نسيب بهجت العطية إليه لاستحصال الموافقة اللازمة، وإلتفت العطية  إلى  الشاب شوقي شعبان ممازحاً حينها: لا تكَول (لا تقول) نحن رجعيين وعملاء للإنكليز، وسأطلعك على برقية مفوض الأمن، التي أشرت إلى  مضمونها، ثم وضع توقيعه على الوثيقة التي يريدها مع علمه بانتمائه إلى الحزب الشيوعي ونشاطه، فهكذا كانت تسير الأمور.

ومع كل ذلك فإذا سألتني هل كان ينبغي تغيير النظام الملكي؟ سأجيبك بنعم، لأن جميع الطرق أصبحت غير سالكة، وكان لا بدّ من الإطاحة بالنظام الملكي، خصوصاً بعد موقفه المخزي من العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي الإسرائيلي على الشقيقة مصر ومن ربط العراق بمشروع آيزنهاور وحلف بغداد ونظام الكتلة الاسترلينية وتحوّله  إلى  مصدر تآمر وعداء لكل ما هو تقدمي. أما إذا أعدت السؤال عليّ: هل كان يفترض أن تتم الإطاحة به بالسيناريو نفسه؟ فسأقول كلاّ وألف كلاّ، وإنني لا أبرر العنف من أي أتى، وكان لا بدّ من الاحتكام  إلى  القانون لكي يأخذ مجراه، ولا بدّ من إدانة ذلك.

ولا زلت أتذكّر مشهد الأمير عبد الإله معلّقاً وعارياً من سطح أحد فنادق الكرخ،  (قرب ساحة الشهداء) وكلّما مرّ ذلك بخاطري، أشعر بالحاجة للتقيؤ، ولعلّ موقفي من العنف كان سبباً آخر في خلافات لاحقة مدوّنة ومكتوبة مع قيادة الحزب الشيوعي، لاسيّما مقاربتي لتفاصيل أحداث الموصل وكركوك، وهو الموقف الذي أقوله من باب النقد الذاتي دون مواربة أو تبرير ودون محاولة إلقاء كل شيء على الخصم، الذي يتحمل مسؤولية كبيرة وأساسية، لكن علينا أن نعترف بمسؤوليتنا أيضاً فيما حصل من ارتكابات وأخطاء، وتلك مراجعات أقدمت عليها منذ نحو أربعة عقود من الزمان.

وكنتُ قد ناقشت الأمر مطوّلاً مع عامر عبدالله، القيادي المخضرم ودوّنت ذلك لاحقاً في مطالعتي عنه وبعض حواراتي معه في مادة مطوّلة نشرتها في كتاب بعنوان ” عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل، دار ميزوبوتيميا، بغداد،2014 لاسيما بخصوص مجزرة الدملماجة في الموصل ومذبحة كركوك بحق التركمان، وقضايا أخرى ، فضلاً عن مطارحات مع آرا خاجادور وباقر ابراهيم وعزيز محمد وعدد آخر من جماعة الصندوق “عناصر الطاقم الإداري” السابق للحزب الشيوعي، تضمّنت سجالات حول إشكاليات شيوعية ذات طابع فكري وتاريخي إلى قضايا راهنة ومستقبلية.

وإذا كنت قد هتفت آنذاك عاطفياً بسقوط حكومة نوري السعيد ، وأنا فتى يافع، بل صبي في أول طلعته كما يُقال، تأثّراً بأجواء العائلة والثقافة اليسارية التي كانت تعيش في بيتنا، فإنني سأهتف هذه المرّة بوعي وإدراك ومسؤولية، ومثلما عارضت الحركة الوطنية “حلف بغداد” الاستعماري فكان عليها بالقدر نفسه معارضة الاتفاقية الأمريكية- العراقية، وهو ما كرست له كتابين من كتبي الأول بعنوان : “المعاهدة العراقية- الأمريكية: من الاحتلال العسكري الى الإحتلال التعاقدي”، المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، عمان، 2008. والثاني بعنوان:” بغداد – واشنطن: أي مقايضة للاحتلال العسكري؟- في حيثيات الاتفاقية العراقية- الأمريكية”، إصدار مركز العراق للدراسات، بغداد، 2011.

نوري السعيد  والحنكة السياسية

لا يمكن نكران بأن نوري السعيد كان سياسياً محنّكاً ومناوراً بارعاً امتلك دهاءً وحيلةً كبيرتين، لكنه بالمقابل كان دموياً بالقدر نفسه، وجرّب ربط العراق بالغرب، الاّ أنه ليس رخيصاً  إلى  الحد الذي يجعله موظفاً لدى الدوائر الاستخبارية الغربية أو يعمل بصفة وكيل أو جاسوس فقد كان أكبر من ذلك بكثير، مثلما كانت تلك قناعاته، وكان لا يتوانى عن التعبير عنها، كما كانت خصوماته جريئة وواضحة ولديه فروسية حتى في خلافاته، أما اليوم فهناك من يتحدّث عن مشروع وطني، لكنه كان يعمل تحت الطاولة وبتوافق كامل مع الاحتلال وذيوله، بل ويأتمر بأمرته، ولولا دعمه  له لما كنّا سنسمع عنه.

شخصياً أحترم من يقول أنه يرى مصلحة العراق بالتعاون مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من معارضتي  الشديدة لهذه الفرضية التي لا تصمد بأي مناقشة جادة وهو ما يدوّنه سجل الولايات المتحدة إزاء الشعوب، ولكنني لا أمتلك سوى النظر إليها من باب الاجتهاد السياسي، بعيداً عن التخوين أو التجريم، ولكننا نجد أحياناً من يتعامل بصفة أدنى، ففي حين يرفع نبرته بالتنديد، بعبارات غامضة ومبهمة، نراه بعد مقابلة مع موظف صغير في سفارة دولة متنفّذة يغيّر رأيه بالكامل، ولعلّ ما نحتاج إليه هو الشفافية والصراحة، وهي نادرة وقليلة، وأعرف بعض السياسيين الذين يمتلكون وضوحاً وثقة بالنفس حين يقولون إن مصلحتنا في التعامل مع واشنطن أو طهران، ويبررون ذلك، سواءً عندما كانوا في المعارضة أو حينما أصبحوا في السلطة أو مشاركين في العملية السياسية، لكنني لا أشعر باحترام إزاء من ينفّذ ما تريده  العاصمتان سرًّا،  ويأتي من يرفع صوته علناً بالضد من ذلك، والأمر لا ينطبق عليها، بقدر انطباقه على المشهد السياسي، بما فيه للواقع الإقليمي ولبعض دول الجوار.

عصر الكبار

نوري السعيد سياسي سبق عصره، على الرغم من أن ذلك العصر “عصر كبار”، مثل فاضل الجمالي وصالح جبر وأحمد مختار بابان وياسين الهاشمي وغازي الداغستاني وتوفيق السويدي وخليل كنّه وآخرين وقبل هؤلاء الملك الجليل فيصل الأول صاحب الحكمة وبُعد النظر، مثلما كانت المعارضة والحركة السياسية والوطنية كبيرة بأسماء مثل فهد ومحمد رضا الشبيبي وكامل الجادرجي وجعفر أبو التمن ومحمد حديد وحسين جميل وعزيز شريف وعبد الفتاح ابراهيم ومحمد مهدي كبه وفايق السامرائي وصدّيق شنشل وهديب الحاج حمود وفؤاد الركابي وسعد صالح  وابراهيم أحمد ومصطفى البارزاني وغيرهم.

ومهما قيل من سلبيات في العهد الملكي، فلم تنقطع لغة الحوار بينه وبين المعارضة الرسمية، وحتى المعارضة السرية كانت تجد لها بعض المنابر العلنية لإيصال رأيها. وفي حديث خاص مع عبد الفتاح ابراهيم في العام 1972 وبحضور موسى أسد الكريم قال: كنّا شباباً وذهبت أنا ومحمد زينل حين كنّا ندرس في بيروت وصباح نجل نوري السعيد، لزيارة نوري السعيد في مصيف برمّانا، حيث كان يقضي فترة إجازته في الصيف، وكان ذلك العام 1924  والكلام للمفكر الماركسي الكبير عبد الفتاح ابراهيم، وكان هدف الزيارة هو الاعتراض لدى السعيد على معاهدة العام 1922 الاسترقاقية، وإلتقينا في مكان سكنه وكان يلبس الدشداشة البيضاء وبيده كأس العرق ” الزحلاوي” وسألته لماذا وقّع العراق على المعاهدة؟ فشرح لي السعيد مبررات قبول المعاهدة حتى ولو كان فيها بعض الإجحاف، خصوصاً والعراق يخرج من التبعية العثمانية، وهو بحاجة إلى  حليف قوي، ويعتقد أن بريطانيا بشكل خاص والغرب بشكل عام هما حليفاه القويان، وحين تترسخ الدولة العراقية، يمكن للعراق أن يعيد النظر ببعض جوانب المعاهدة، كما لم يكن يخفي مصلحة العراق في التحالف مع بريطانيا.

يقول عبد الفتاح ابراهيم وهو مؤسس جماعة الأهالي العام 1932 مع عبد القادر اسماعيل وحسين جميل ومحمد حديد، ثم انضم إليها الجادرجي وأبو التمن، وهو كاتب رسائل الشعبية العام 1933: لم أكن مقتنعاً بكلام السعيد واعتبرته من باب التبرير، وأعدت عليه رأيي بأن المعاهدة مجحفة ومذلّة وستلحق ضرراً بمستقبل العراق، فضلاً عن حاضره، ولكن السعيد استمر في دفاعاته، وقد اختتم السعيد كلامه، مع رشفة عرق بالقول:إن مشكلة الموصل لم تحلّ بعد ونحن ننتظر معاونة حليفتنا بريطانيا بدعمنا في عصبة الأمم، ولم يقنع مثل هذا الكلام عبد الفتاح ابراهيم.

وهنا خاطبه السعيد: “تكبرون وتعقلون وتتعلمون”، وهو ما اقتبسته عند حديثي عن الاتفاقية العراقية – الأمريكية، حين قلت في ختام مداخلتي في ندوة دعا إليها مركز كارنيغي  لعدد من الخبراء والأكاديميين، وكانت غالبية الحاضرين مع تجديد المعاهدة واستمرار القوات الأمريكية في العراق من القوى الدينية والقوى التي تحتسب على اليسار. أما رأيي فقد عبّرت عنه بأن المعاهدة المذكورة مجحفة ومذلّة وغير متكافئة وكذلك اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وهما تعقدان بين طرفين غير متكافئين أحدهما قوي والآخر ضعيف ، الأول محتلٌ والثاني محتلة أراضيه، ناهيك عن أنهما يرتهنان حاضر العراق ومستقبله سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً للولايات المتحدة الأمريكية، واتفاقية العام 2008 لا تختلف عن معاهدة العام 1930.

جدير بالذكر، أن هذه الاتفاقية “مهربة”، أي أنه لم يتم الاستفتاء عليها كما تم اشتراط ذلك، ومرّت بصمت وتواطؤ من جانب من أبرمها ومن الجهات المستفيدة منها بالضد من مصالح العراق وشعبه، لاسيّما  بتحويل “الاحتلال العسكري” إلى “احتلال تعاقدي” لتنفيذ متطلبات الاحتلال الأول، وقد أغفل أو تغافل مجلس النواب عن ذلك، لكنه عاد تحت تأثير صدمة بعض القوى بمقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ليتخذ قراراً بعد عقد ونيّف من الزمان بسحب القوات الأجنبية كافة من العراق، لكن هذا القرار اتخذ دون مشاركة من التحالف الكردستاني وما يطلق عليه القوى السنّية، ومع ذلك ظلّ القرار عائماً وسيطويه النسيان مثل الكثير من القرارات.

وكنت قد تناولت مسألة الاتفاقية  العراقية – الأمريكية من زاويتين الأولى- قانونية والثانية فكرية وسياسية في ضوء فهمي المادي الجدلي (الماركسي) ووضعت هذه الرؤية في كتابين حول الاتفاقية وهو ما سبق أن أشرت له . ولعلّ زاوية النظر تختلف برؤية مصالح العراق وليس برؤية مصالح فئوية أو طائفية أو سياسية أنانية ضيقة.

أعتقد أن كلام نوري السعيد حول معاهدة العام 1922 وإن كنت أخالفه، لكنني أرى أن فيه قدراً من الصدقية والقناعة والرقي، على عكس التبريرات الواهية التي قيلت حول الاتفاقية العراقية- الأمريكية أو اتفاقية الإطار الاستراتيجي ، التي لا يزال البعض يتشبث بها باعتبارها مكسباً أو إنجازاً، حتى بعد أن انتهى مفعول الأولى في أواخر العام 2011 وحصل الانسحاب العسكري، مع الإبقاء على قواعد عسكرية وقوات مؤهلة، “بطلب” من الحكومة العراقية لغرض استكمال مهمات التدريب والتأهيل للجيش العراقي أو لمواجهة التحدّيات الخارجية وحماية حدود البلاد أو ضد “الإرهاب” كما تم تبريره (بعد احتلال داعش للموصل العام 2014) وهي طريقة تتبعها الولايات المتحدة ، حيث يوجد لديها أكثر من 143 قاعدة أمريكية خارج حدودها، من كوبا “الثورية”  إلى  ألمانيا “الأوروبية” ومروراً بدول الخليج “العربية”، وصولاً إلى  كوريا والفيليبين “الآسيوية”، ناهيك عن قواعد ممتدة في البحر وفي المحيط مثل ديغوا غارسيا وغيرها.

حافظوا على مَلِكِكم

أتذكّر أنني زرتُ عبد اللطيف الشوّاف (الوزير في عهد عبد الكريم قاسم والقاضي المعروف) في القاهرة عندما كنت أحضر ندوة احتفالية بمناسبة ميلاد جمال عبد الناصر (15 كانون الثاني/يناير 1971) في جامعة القاهرة أي بعد ثلاثة أشهر ونصف تقريباً من وفاته ( 28 أيلول/سبتمبر/1970) وكان قد زاره أحد السعوديين وأحد الأردنيين، وعلى الرغم من حذره قال معلّقاً ومقارناً بين أوضاعهم وأوضاعنا: ولكن أترون كيف حالنا وماذا حلّ بنا بعد القضاء على الملكية، وخاطبهم: “چلچلوا” على مَلِكِكُم، وعندما استفسرا منه عمّا تعني كلمة “چلچلوا” أجابهم (أي حافظوا عليه) لكي لا تنتقل عدوانا إليكم، وضحك الجميع.

وبعد مغادرة ضيوفه سألته أكان بإمكاننا الحفاظ على الملكية، أم أنها هي التي لم تحافظ على نفسها، لاسيّما اندفاعات نوري السعيد وسياساته المعادية للشعب؟ فعلّق قائلاً :هنا المشكلة، ولعل هذا ما استعدته مع القيادي البعثي السابق والقيادي الناصري لاحقاً عبدالله الركابي، وكذلك مع السياسي فيصل فكري.

لقد كان نوري السعيد رجل دولة حقيقي بكل ما للكلمة من معنى ، بغض النظر عن كل ما ذكرته عنه، قادراً على اتخاذ القرار وتحمّل مسؤولياته أخطأ أم أصاب، فقد كان مجتهداً وله قناعاته الخاصة، وكان يعرف مزاج العراقيين وحساسيتهم، حيث كان مهندس السياسة العراقية منذ العام 1930 على أقل تقدير ولغاية العام 1958 كما كان الممثل الأول للغرب في المنطقة وإن لم يكن يتطابق معهم أحياناً، رغم أن حلف بغداد الاستعماري أقيم على أكتافه، إضافة إلى مهمة مكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط، وكان شديد الحماسة لمحاربة الحركة القومية العربية وقيادة جمال عبد الناصر.

وبقدر ما كان مخلصاً للملكية ومحاولاً بناء دولة عصرية لكن السياسة التي اتبعها في سنوات الخمسينات قلّصت قاعدة الحكم الاجتماعية وجاءت بنتائج عكسية ومغايرة لما أرده بعد أن شحّت الحريات وامتلأت السجون وتقلّصت الهوامش المتبقية، وهو الذي مهّد لاحقاً لانهيار الملكية باندلاع ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 هذه الثورة سرعان ما استدارت بالبلاد إلى دكتاتورية فردية بدلاً من الانتقال إلى الحياة الديمقراطية الدستورية .

وكنت قد سألت الشاعر الجواهري هل تعتقد أن عبد الكريم قاسم الذي فجّر الثورة كان ينبغي له الاستمرار في إدارة الدولة أم كان على العسكر العودة إلى ثكناتهم والانتقال إلى الحياة المدنية وإجراء انتخابات وإنهاء فترة الانتقال وإعداد دستور دائم، ثم أضفت على الرغم من أن قاسم كان نزيهاً وزاهداً ، فجاء تعليق الجواهري بعد أن هزّ برأسه : يوجد 500 تاجر في الشورجة كلهم نزيهون وأمناء وزاهدون ، فهل يصلح هؤلاء لإدارة البلاد وليصبحوا كلهم رؤساء وزارات؛ وكنت دائماً ما أستذكر هذا التعليق الطريف والعميق كلما تغيّر رئيس جمهورية أو رئيس وزراء طيلة العقود الخمسة الماضية.

{ باحث ومفكر عربي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com