في العراق: مسن يأكل من النفايات وطبيب يجري العمليات مقابل الخبز والحلوى!
انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة البرق فيديوهات مؤلمة لمواطنين عراقيين يأكلون من حاويات النفايات. ظاهرة تكاد تتكرر من بلد عربي إلى آخر. فالمشهد نفسه رأيناه في شوارع بيروت واليمن وسوريا وليبيا وغيرها.
ما أن نضغط على الفيديو حتى يقابلنا رجل مسن، في منطقة الأعظمية في بغداد، ذو لحية بيضاء تركها تتكاثر علها تغلب موجة السواد المحيطة بحياته. يحاول أن يتماسك وهو على شفير الانهيار فيسند يده على الحاوية ويمد الأخرى ليلتقط بها فضلات الطعام المرمية أمامه.
يأكل وهو ينظر حوله وكأنه خائف أن يعرفه أحد. أو ربما يخاف أن يأتي من يمنعه من تناول بعض اللقيمات المغموسة بالوسخ والتراب والقهر. لقيمات رغم عفونتها ونتانتها، ولكنها تسد جوعه وتعفيه أن يمد يده للآخرين.
كثيرون لجأوا لأكوام النفايات بعد أن جاء وباء كورونا ليزيد وضع البلاد سوءاً.
العراق الذي يعتبر من أغنى البلاد العربية بثرواته النفطية والطبيعية أوصله السراق والمتآمرون والمليشيات المسلحة إلى الحضيض. نسبة الفقر تعدت 31 في المئة، كما ارتفعت بشكل ملحوظ نسبة البطالة..
اليوم تعاني آلاف العائلات العراقية من الفقر ومنها من لا يستطيع حتى معالجة أطفاله وتأمين الدواء.
عراقي وأفتخر
ولكن العراقيين هم كطائر الفنيق، مهما قست عليهم الحياة يجددون أنفسهم بأنفسهم ويولدون من جديد من رماد احتراق أجسادهم.
هناك دوماً من يضيء بقنديله عتمة للآخرين.
من الأعظمية إلى مدينة النجف، حيث قام طبيب عيون بإجراء عملية لطفلتين صغيرتين من عائلة فقيرة جداً مقابل خبز وحلوى. قصة انتشرت بصورة كبيرة على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي.
لقد جاءته الأم وهي لا تملك النقود لإجراء العملية لابنتيها. ولم يكن بحوزتها سوى كسرات خبز وبعض الحلوى.
هكذا أخرجتها من كيس كانت تحمله بعفوية ونقاء ووضعتها على الطاولة أمام الطبيب قائلة إنها لا تملك سواها. فما كان من الطبيب إلا أن قبل عرضها وقام بالعملية معيداً البصر للطفلتين.
نعم العراق يعاني ولكنه غني بمحبة أبنائه وأخلاقهم العالية وإصرارهم على الحياة.
هنا تحضر أغنية «أنا عراقي وأفتخر» كلمات رامي العبودي وألحان محمود التركي:
اني عراقي وافتخر
وبلادي بالروح
بيه عشق يعراق الك
للموت ميروح
باقي بغرامك باقي
للموت ياعراقي
ينحلف بيها اخلاقي
مخلوق من الغيره
إنه العراق مهما جار عليه الزمان فعشاقه كثر. من منا لا يتمنى أن يكون ابناً لبغداد، التي ترتفع فيها آذان الشعر والفنون والتاريخ والحضارة؟
ألم يقل نزار:
عيناك يا بغداد، منذ طفولتي
شمسان نائمتان في أهدابي
لا تنكري وجهي.. فأنت حبيبتي
وورود مائدتي وكأس شرابي
عاشقة بغداد
من بين العشاق الكثر للمدينة عاشقة تدعى هيللا يفيس ناشطة ألمانية في حقوق الإنسان، تعيش في بغداد منذ أكثر من خمس سنوات. ويدلعها العراقيون بهيلة أي حبة الهيل. وهل هناك دلع أجمل؟
تدير برامج فنية ومعارض وورشات لتحفيز الفنانين العراقيين الشباب. ترتاد المقاهي الشعبية وتتنقل بطلاقة كعصفورة تتباهى بحريتها وهي تقود البيسيكلات. لقبها الفنانون العراقيون بعاشقة بغداد..
كم نحسدها على هذا اللقب!
هيلة، اختطفت من قبل مسلحين أمام أعين الشرطة ولم يحركوا ساكناً. اختطفت تلك العاشقة، كما يختطف كل ما هو جميل في بلادنا. ولكنهم لا يعرفون أن عشاق بغداد لا نهاية لهم. في كل زاوية من هذا العالم الكئيب عاشق أو عاشقة تخفق قلوبهم حين تندههم بغداد من بعيد.
بغدادنا لن تسقط أبداً وإن اختطفتم وقتلتم وشردتم وجوعتم الشعب بأكمله، لأن المحبة رفعتها عالياً.
إنها هناك على مقربة من السماء.
«كن عراقياً تكن شاعراً» كما قال محمود درويش.
كاتبة لبنانيّة