مصطفى الكاظمي وأجندة الدولة العميقة
فرات المحسن
في خضم المشهد السياسي العراقي الملتبس، تتضارب التحليلات دون الوصول لنتائج حاسمة، أو الأحرى تتوقف عند أطراف ونتف من الحدث، لتبني عليه روايات واستنتاجات وقصص ما أتى الشيطان بها من سلطان. ولكن فضاء وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام تمنحها زخما يجعل الكثير منها حقائق قابلة للتصديق، لا بل مسلم بها عند جمهرة واسعة.
لازالت جذوة قضية اغتيال الخبير الأمني والباحث هشام الهاشمي مستعرة وتتفاعل بين أوساط الكثير من المهتمين بالحدث العراقي. ففي الوقت الذي تربط صحيفة الواشنطن بوست عملية اغتياله بتصاعد حدة الصراع الأمريكي الإيراني، وتلمح لكون عملية الاغتيال كانت جزءا من الرد الإيراني على أقدام أمريكا على قتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وذراعه الأيمن أبو مهدي المهندس قائد فصائل الحشد الشعبي العراقي، وكان قد قتلى عند أطراف مطار بغداد الدولي بهجوم نفذته طائرة مسيرة أمريكية. وهناك من يرجح أن تكون عملية اغتيال الهاشمي تدخل في باب قص أجنحة رئيس الوزراء الكاظمي وقضم مصادر معلوماته، ووضعه في عزلة لا يجرأ بعدها على اتخاذ قرارات تصطدم بالحشد الشعبي، وترفع من سقف علاقته بالأمريكان وتنفيذ رغباتها في شأن الحشد،وظهر هذا المؤشر إثر اتهام الهاشمي بعمالته للطرف الأمريكي.
ومثلما كانت رسالة مقتل الهاشمي ومن ثم اختطاف الألمانية الجنسية مديرة القسم الثقافي في معهد غوتا السيدة هيلا لويس، واضحة المغزى والأبعاد، وموجهة مباشرة لرئيس الوزراء وحاشيته، فقد سبقتها حوادث أخرى كانت اشد وقعا وخطورة وقسوة على مركز الرئيس وقدرته على اتخاذ القرارات.ونستطيع القول أنها كانت ضربة مباشرة لمركزه وأدواته وحتى مكانته السياسية ، ولازالت تداعياتها مؤشر لاستكانة رئيس الوزراء وخضوعه لإرادة الحشد الشعبي وفصائله المنفلتة. فالاستعراض الذي سجلته عدسات الكاميرات لمجموعة سيارات ذات دفع رباعي تتجول داخل المنطقة الخضراء، ومن ثم طوقت مقرات رئاسة الوزراء ومكافحة الإرهاب. استعراض القوة هذا والتطويق،كان ردا مباشرا وحاسما على عملية جهاز مكافحة الإرهاب، الذي بادر ونفذ أوامر الرئيس الكاظمي، باقتحام مقر حزب الله في المنطقة القريبة من الدورة جنوب العاصمة بغداد، وتم اعتقال مطلقي الصواريخ. وكان حزب الله وبعض الفصائل الموالية لإيران يتخذون من المنطقة وطبيعتها الريفية، مراكز لمقراتهم ولعمليات التدريب على مختلف أنواع الأسلحة ومنها الصواريخ الثقيلة وبعيدة المدى وطائرات مسيرة. والمنطقة بحد ذاتها تمثل الجزء الجنوبي لقوة الصدمة للحشد الشعبي وواحدة من أهم مناطق طوق بغداد الأمني، الذي فرضه الحشد تحسبا لمستقبل مرتقب. وكانت حملة الكاظمي وجهاز مكافحة الإرهاب بقيادة الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، محاولة لكبح جماح المليشيات وردع عملياتها المستمرة بقصف المنطقة الخضراء ومطار بغداد والسفارة الأمريكية بالكاتيوشا.
ولكن نتائج الاعتقال لبعض رجال الحشد من قبل قوات مكافحة الإرهاب، ومن ثم عملية دخول عجلات الحشد الولائي إلى المنطقة الخضراء وتطويقها لمقرات السلطة،وامتناع قادة حرس المنطقة الخضراء عن المواجهة مع الحشد، أضطر الرئيس الكاظمي الاستعانة والطلب من رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ليأمر بفك الحصار وإبعاد قوات الحشد عن مقرات الحكومة وهي رواية موثقة. كل ذلك يدل على هشاشة موقف الكاظمي وضعف إمكانياته وخضوعه لاملاءات تفرض عليه، ولا يملك القدرة على مواجهتها أو عدم تنفيذها، ولا حتى الاعتراض عليها. فالرجل محاط منذ ما قبل ترشيحه لمركز الرئاسة، بشبكة من عتاة السياسيين والشياطين، تمتد علاقاتهم وأذرعهم إلى ما خلف الحدود العراقية، ويمثلون شبكة واسعة من روابط ومصالح، ليس من السهل الإفلات منها أو تفكيك حتى بعض حواشيها وأطواقها، دون المجازفة والحزم وهي الخاصية الغائبة عن رجل لا يملك رصيد من القوة ولا القدرة على صناعة الحدث.
من المناسب وبشكل عام معرفة طبيعة بعض قوام هذه الشبكة . وفي ذات الوقت القول، من الصعب الوصول إلى عمق هذه الشبكة، وحتى كشف بعض أذرعها. فكثير من المناصب الحكومية ومؤسسات السلطة المدنية والعسكرية، باتت بشكل حاسم وناجز تخضع لمقدرات هذه الشبكة، وتدار حسب مقرراتها وتنفذ أجندتها. وهناك وشائج ظاهرة ومخفية تربط حلقات وحواشي هذه الشبكة مع بعضها البعض، وفي الأغلب الأعم فإنها تملك مصالح ورؤى مشتركة لمسيرة الحدث العراقي. ويحتمي أعضاؤها وإداراتها بفصائل مسلحة بغطاء مسمى الحشد الشعبي، وهي من ينفذ عمليات تطويع الآخرين وإجبارهم على القبول بما تفرضه مافيات الاقتصاد والسياسة، التي تمثل المكاتب الاقتصادية والسياسية للأحزاب الداخلة في العملية السياسية ومن هو قريب منها. ومجمل ذلك الحراك يرتبط أيضا بمصالح الدول الإقليمية وتأثيرها في الوضع الاقتصادي والقرار السياسي العراقي، وينوخ تحت ضغط علاقتها وتأثيرها على أطراف الشبكة المافوية الداخلية المسيطرة والمنفذة.
لم يحظى الكاظمي مصطفى بالقبول والرضا للحصول على مركز رئيس الوزراء إلا بعد نيله موافقة الأطراف المتنفذة والمهيمنة على الجزء الأكبر من الشبكة السياسية الاقتصادية للسلطة، والمتمثلة بقائمتي الفتح لهادي العامري وسائرون لمقتدى الصدر. ورغم المناورات التي أجريت مع الزرفي و توفيق علاوي ومن ثم مع الكاظمي للتمويه على مجمل العملية وإعطائها طابع اللعبة الديمقراطية بين القبول والرفض. ولكن في نهاية المطاف وافق الكاظمي على جميع شروط أطراف اللعبة، وقدم لها حقائب وزارية حسب خياراتها. فنال رضا الكرد بمنحهم ثلاث وزارات وأجبر على قبول فؤاد حسين كوزير للخارجية . وكان بقاء فالح الفياض بمركزه مطلبا ملحا للفتح كون الرجل يمثل قوة المافيات الساندة للقرار الاقتصادي والسياسي لمجموعة هادي العامري وحلفاؤه. وكانت مجموعة مقتدى الصدر المسماة سائرون قد نالت مرادها دون عناء بالحصول على العدد المناسب من وزارات الدولة . ولكن موقف سائرون كان شديدا وحاسما لا يقبل المناقشة أو التسويف، حول وجوب وضرورة الإبقاء على الأمين العام لمجلس الوزراء حميد نعيم الغزي في المركز الذي حصلت عليه مجموعة مقتدى على عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي.
ووظيفة الغزي تمثل الرديف لرئاسة الوزراء، ويصب عمله في التنسيق مع الوزارات وإعداد جداول بسياق عمل مجلس الوزراء وتنسيق أعماله، وترأس لجان وزارية عديدة، والتوقيع باسم رئاسة الوزراء للعديد من المذكرات والاتفاقات بين الحكومة وبلدان أخرى. ولمعرفة قوة مركز أمين مجلس الوزراء، يمكن الرجوع إلى الأوامر الإدارية التي صدرت من مجلس الوزراء خلال عهد عادل عبد المهدي ومن ثم العهد الحالي، بتعيين وتدوير الكثير من المدراء العامين، وتوج كل ذلك بإصداره أمر إعادة موفق الربيعي للوظيفة وتعينه سكرتيرا للجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية، وأغلب تلك الأوامر كانت بتوقيع الغزي وليس غيره، ولم تجد اعتراضا من رئيس الوزراء.
لن يستطيع مصطفى الكاظمي ولا غيره الانعتاق والخلاص من الطوق المحكم الذي بنته وفرضته تلك الشبكة الواسعة من المصالح الاقتصادية للأحزاب الحاكمة. وإن افترضنا حسن النية في السيد مصطفى الكاظمي وجردناه من علاقاته بتلك المنظومة الفاسدة وعصابات المافيا، وأنا اشكك بمثل هذا، وأعد الكاظمي شريكا في كل ما جرى ويجري منذ ما كان رئيسا لجهاز المخابرات العراقي.
إن الذي يحدث من عمليات اغتيال وخطف لنشطاء الحركة المدنية، والتفجيرات في المعسكرات وأمطارها والمنطقة الخضراء وبشكل دوري بقذائف الكاتيوشا، والاعتداء وقتل المتظاهرين، ما هو إلا حلقات متتالية وعمليات ممنهجة، الغرض منها ليس فقط استهداف وزعزعة الثقة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، وإنما غايتها إفشال مهام الكاظمي والطعن بالوعود التي قطعها على نفسه بعد تكليفه برئاسة الوزراء. ويأتي كل ذلك باستخفاف واضح وإذلال علني لسلطته وحاشيته، ولن تتوقف تلك الأفعال لحين اقتناع الكاظمي بفشله وخذلانه وإعلان تخليه عن المهام التي أراد تنفيذها، وخضوعه التام وقبوله بكلية ووحدانية شروط الدولة العميقة وشبكتها التي تدير شؤون السلطة في العراق .