العراقيون بين الداخل والخارج ـ في سيكولوجيا التعصب الأعمى
لا زلت غير مقتنع في التقسيم المتحجر الذي يقسم الشخصيات العربية او الأسلامية او التقسيم القائم على اساس جغرومناطقي الى شخصيات ذات ثبات شبه مطلق وغير قابل للتغير أو التأثر بالظروف او الفترات والحقب التاريخية التي تنتج شخصيات مختلفة في مراحل سياسية وتاريخية مختلفة، وبالتالي عندما نتحدث عن الشخصية المصرية، او الشخصية العراقية، او اللبنانية او المغربية وغيرها يجب ان يكون الحديث مقترنا بسلامة منهجية تعبر عنها الظروف المحيطة والتغيرات السياسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعيىة لكل حقبة زمنية أنتجت شخصيات مختلفة، حتى وأن سميت بأطرها الجغرافية المكوناتية العرقية، وبالتالي يمكن القول أن ما كان عراقيا او مصريا او لبنانيا أن يتبادلا المسميات عندما تتشابه الظروف التي يمرون بها، فما هو عراقي يمكن ان يكون لبناني او مصري او مغربي وبالعكس.
وهنا اتفق نسبيا ان ثبات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر حقب مختلفة ينتج بالضرورة ثباتا نسبيا في الصفات السيكولوجية للشخصية وقد تتأصل الكثير من الصفات السلوكية والشخصية بفعل عوامل التعزيز الدائم والدعم المحيط بما يترك انطباعا اوليا انها صفات وراثية وذات طبيعة تأصلية ويصعب تغيرها او يستحيل حتى اذا تغيرت الظروف التي انتجتها” طبعا هذا غير صحيح ” والصح هو ان هناك بطئ شديد او عدم توافق وتطابق دينامي بين التغيرات الحاصلة في البنية الاقتصادية والاجتماعية وبين منظومة القيم والصفات الشخصية حيث الاخيرة تتخلف عنها نسبيا بفعل ارتباطها في البعد الشخصي ومدى تفاعله مع التغيرات الموضوعية الحاصلة على الارض، ولكنه لا يستمر طويلا حتى يلتحق بتلك التغيرات ويكتسب افرازاتها السايكولوجية وحتى بما تفرزه من منظومة اخلاقية.
ما اريد الحديث عنه بتلك المقدمة هو ما افرزته الظروف السياسية في العراق حاليا بعد 2003 وبتأصل جذورها الى مرحلة النظام السابق هو الدعاوى الباطلة والفاقدة للسند العلمي والاخلاقي هو تقسيم العراقيين الى عراقيي الداخل وعراقي الخارج والتفضيل المفتعل لعراقي الداخل على عراقي الخارج، والذي وصل الى مطالبات تفتقد الى الحس الانساني والتي تدعو الى الخلاص او اسكات صوت عراقي الخارج، هذه الدعاوى المبطنة لها جذورها في موقف النظام السابق من المعارضة العراقية ودعواه للخلاص منهم وتصفيتهم وخاصة عندما رفعوا شعار الكفاح المسلح لأسقاط النظام الدكتاتوري، وفشلت اغلب محاولاته لترويض المعارضة العراقية في الخارج وخاصة ذات المزاج والتوجه اليساري، في محاولة منه لأستغلالها في كسب الرأي العام العالمي لدعم النظام وبقائه وفك العزلة الدولية عنه.
وللأسف الشديد ان هذه الدعاوى اليوم امتدت وبأشكال مبطنة الى بعض مجاميع الحراك الجماهيري وبشكل خاص الى جماهير انتفاضة اكتوبر العراقية والتي اندلعت في الاول من اكتوبر للعام الماضي ولا تزال مستمرة، بل وصل الأمر الى ما هو الأسوء ان يتجاوز بعض من ” المثقفين او الاساتذة ” على عراقي الخارج ويدعوهم الى السكوت عن المطالب العراقية المشروعة في العيش الكريم او تحت دعاوى مبطنه تحت شعار ” دعوا شعب الداخل وشأنه ” ولا اريد التشكيك بتلك الدعوات إلا من منطلق من استفاد الكثير منهم في اكمال دراساته في ظل النظام السابق والجميع يعرف ضغوطات النظام السابق على ذوي الدراسات العليا وغيرهم، فأن لم يكون مع النظام عليه توقيع تعهد براءة من العمل السياسي المعارض، وفي تلك الاشكالية قد تفسر بعض من عقدة كراهية عراقي الخارج، واليوم في هذا الظرف عندما يحضروا هؤلاء كناشطين مدنيين او دعاة تغير فأن التلوث الأسقاطي اشد حضورا في سلوكياتهم الأضطرابية.
عراقيو الخارج كما يحلو للبعض ان يطلق عليهم هم عراقيون ليس من حق احد ان ينتزع منهم وطنيتهم وولائهم للوطن وليس من حق احد ان يوزع الوطنية كيفما يشاء وينتزعها ممن يشاء. كما لا يمكن أن يُأخذ ستة ملايين عراقي في الخارج بجريرة حفنة أساؤوا التصرف، فليس من العدل ان يجردوا من وطنيتهم، ويتم الهجوم عليهم وكأنهم خونة أو متآمرين. ولو قارن المواطن النبيه والفطن: كم من فاسد سياسي قادم من الخارج ساهم في الحكم بمن هم فاسدين من عراقي الداخل، ومن اعلى درجة وظيفية الى ادناها !!!.
ان افتعال الفرقة بين العراقيين و تقسيمهم الى داخل وخارج وزجهم في معركة خاسرة خطيئة بحق الوطن، فالعراق عراق الجميع، وما تحدث به بعض المسؤولين أو سياسين او من المشعوذين ” المثقفين ” بأن العراق للعراقيين في الداخل هي كلمة حق يراد بها باطل. ان في عراقيي الخارج كفاءات كبيرة وطاقات مهمة، يقومون بدور فاعل في بناء البلدان التي يعيشون فيها ولهم سمعة طيبة، فاقصائهم هو مؤامرة مقصودة، وانا هنا لا اعني السياسيين بل، الكفاءات العلمية والاكاديمية والطبية والهندسية والفنية والادبية الأبداعية وفِي بقية المجالات، ان دول العالم تدفع الأموال الضخمة وتقدم الإغراءات الكبيرة من اجل استقدام العقول والطاقات ونحن في العراق وللاسف نمارس وبجهل طرد العقول البناءة من ابناء الوطن. أن فاسد سياسي قادم من الخارج وينتمي الى حزب لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة لا يمكن تعميمه على عراقي الخارج، ففي ذلك جهل وفتح بوابة جهنم لتشتيت شمل العراقيين في الداخل والخارج.
يجب على كل شعبنا ومثقفيه وطلائعه السياسية الخيره ان تقف بقوة ضد هذا التصنيف المفتعل: عراقيو الخارج وعراقيو الداخل، وان هذا التقسيم والتجزئة للجسد العراقي الواحد قد يحمل في طياته بوادر سيئة لقتل وتصفيات متبادلة بين مكونات شعبنا وقد تفقده اكثر الناس كفاءة ونزاهة، وفي مجملها تصب في خدمة الأسلامويين غير المؤمنين بالديمقراطية والتعددية، وبقايا ثقافة البعث المنهار وتعيد انتاج العنف المجتمعي بين شرائحه النوعية والأكثر وفاء للوطن.
وبهذا السلوك الاقصائي بين عراقي الداخل والخارج فهو سلوك أناني سلبي قائم على تعميمات وأوهام ومشاعر وانفعالات تجعل المتعصب من عراقي الداخل يتصرف على نحو عاطفي غير منطقي، يتنازعه دافعان متناقضان، الحب الأعمى للذات من جهة، والحقد الأعمى للآخر من جهة ثانية. وكما يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا فرديا، يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا جماعيا، باعتبار الجماعة المتعصبة هي مجموع الأفراد المتعصبين المكونين لها. ولذلك يعد التعصب، بهذا المعنى، مرضا نفسيا واجتماعيا في آن معا. وذلك بالنظر إلى كونه إنتاجا للفرد والجماعة معا، يتأثران به معا. ومن المعاني التي ترتبط بالحقل الدلالي للتعصب التقوقع والتزمت والعمى والعنصرية والتمييز والإقصاء والاستبعاد والتطرف. وهي كلها معاني سلبية. هكذا نجد أن التعصب داء يصيب الأفكار والقناعات والمشاعر فيؤثر سلبيا على معقولية وجودة وحكمة التصرفات التي تصدر عن المتعصب.
في هذا التعقيد من النزوع جراء تعقد الاوضاع الداخلية في العراق، ولكي نكون براء من تلك النزعة اللاانسانية علينا نحن عراقي الداخل ان نكون اكثر وعيا في تشخيص مواطن الضعف واسباب الانهيارات الكبرى في مجتمعنا وان نكون اكثر بعدا عن الانفعالات المدمرة للذات العراقية الواحدة في تجزئتها الى عراقي داخل وخارج، أنها ازمة حضارية ومعبرة عن عزلة شعبنا عن العالم الخارجي لعقود ماضية، تلك ثقافة النظام المقبور والاسلامويين الذين يعزفون على الانفعالات المريضة في محاولة للخلاص من ازماتهم، وبالتالي فأن شعبنا امام مهمة معقدة ومتشابكة وهي الخلاص في ثقافته من التعصب الديني والمذهبي والابتعاد عن الهويات الفرعية الضارة وعدم تجزئة شعبنا الى شعب في الداخل وشعب في الخارج، انها هجمة مفبركة ضد أي تغير مرتقب في الاوضاع الحالية للعراق، بل انها دعوى لأقصاء النخب السياسية النزيهة، بل وللأنفراد بشعبنا مجددا واقحامه في آتون الطائفية والمناطقية والفرعية والمذهبية والشوفينية العرقية.
اعتقد ان تلك التجزئة والفرقة بين عراقيي الداخل والخارج هي ردة فعل حضارية حملها النظام السابق بعزلته العالمية والحضارية عن العالم الخارجي والتي وضع فيها العراقي في موقع القوي المفتعل شكليا ولكنه ضعيفا امام متغيرات الحضارة الانسانية وضعيف الاستيعاب امام ما يجري من منجزات في الفكر والثقافة والعلوم المختلفة، ومن ثم كان مجيئ الاسلامويين اشد وقعا في اعادة انتاج التخلف وفهم ظروف العصر والانفتاح واعادة انتاج خطاب القرون الوسطى الذي لا يصلح للحياة، وعلى شعبنا ان يدرك اللعبة بأمعان وان يستفيد من خبرة اليسار العراقي بكل اطيافه في استعادة اللحمة الوطنية والابتعاد عن خطاب التفرقة والتراجع الى الخلف، فأن العودة الى الصفر يعني ضياع العراق !!.
د. عامر صالح