في مصر: طفل يحرق نفسه كي يؤمن اللقمة لأخوته وطبيب ينذر حياته للمساكين
في الأرياف المصرية، هناك حيث تشتد زرقة السماء مع اشتداد الفقر، وتتسع الأرض وتطيب حين تمتد وترتفع سنابل الفلاحين. الحياة جميلة ببساطة أهلها وبعفويتهم ونقائهم، الذي يمنح الهواء نقاءه وقدسيته.
هناك تغني محاصيل القمح والخضراوات للفقراء. وترقص لهم أشجار الزيتون والفاكهة بكافة أنواعها.
وتكون الدواجن والماشية أصدق وأنبل وأكثر عطاء من كثيرين يعتلون المناصب. فهي تؤمن الألبان والأجبان والبيض والحليب من أجسادها للأطفال الفقراء.
في الريف تتغلغل المحبة وتتكاثر مع ازدياد العوز.
هكذا جاء ولد فقير جداً، مصاب بمرض السكري في العاشرة من عمره يطلب من أمه أن تحضر له إبرة الأنسولين قائلاً: «يا ماما هاتيلي حقنة الأنسولين بقالي يومين ما خدتش وحموت».
أجابته: «يا ابني لو جبتلك حقنة الأنسولين أخواتك مش حياكلوا العيش والطعمية»!
فما كان من الولد إلا أن صعد فوق السطوح وأشعل بنفسه النار وقال وهو يلفظ آخر أنفاسه:
«ماما أنا موّت نفسي عشان ياكلوا أخواتي».
في تلك اللحظة جاء طبيب شاب وكأنه ملاك أرسل من السماء. وكان في ذلك الوقت في بداية خدمته في الأرياف. راح يركض نحو الولد وهو يحاول أن يحضنه ويلفه في شرشف كي ينقذ حياته، لكن الولد توفي.
أما الطبيب فلم ينس تلك الحادثة، التي هزته وحطمته من الداخل لتعيد تشييد إنسانيته التي ارتفعت مع الأيام عالياً وسيخلدها التاريخ إلى الأبد.
طبيب الغلابة
إنه الدكتور محمد عبد الغفار المشالي، أستاذ متخصص في أمراض الباطنية والحميات والأطفال. عُرف بـ«طبيب الغلابة». لقب نادر أو قد يكون فريداً من نوعه. لم نسمع به من قبل في هذا العالم القبيح بمادياته وحكامه.
ضجت الفضائيات العربية والأجنبية ووسائل التواصل الاجتماعي بقصة الطبيب البطل، الذي عمل لسنوات طويلة كجندي مجهول في عيادته المتواضعة جداً. عيادة عبارة عن غرفة صغيرة كل شيء فيها قديم جداً، المروحة والتلفزيون والطاولة، التي يجلس عليها ليعاين مرضاه. والكراسي التي أكل عليها الزمن وازدادت تشققاتها باشتداد شيبته. غرفة قديمة جداً ولكنها تتجدد يومياً بإنسانية الطبيب، الذي أفنى عمره في خدمة أبناء مصر. وما زال يعمل بصمت وهو في الثانية والسبعين من عمره. يتقاضى من مرضاه عشرة جنيهات فقط، يعني ما يقارب نصف دولار، فيما يتقاضى زملاؤه في المهنة على الأقل مئتين جنيه من كل مريض.
مسيرته تختصر بالشهد والدموع. وما أجمله من اختصار.
ربما اكتسبت تلك المسيرة لقب الشهد، لأن صاحب المسيرة عمل كنحلة طوال حياته، يتنقل من عيادة إلى أخرى لينقذ حياة الفقراء والمساكين، بعد أن أوصاه والده بهم قبل مماته. فدكتور الغلابة نشأ في بيئة فقيرة جداً. وما كان ليدخل كلية الطب لولا إصدار الرئيس الراحل عبد الناصر قراراً بأن يصبح التعليم في البلاد مجانياً.
أما لقب الدموع فربما يعود لتلك اللحظات، التي جفف فيها دموع الأطفال. والبكاء ليس إلا مطهراً للنفس. فكم عين بكت أمامه لتضيء ماءها.
يقول وهو يشعر بسلام داخلي ينير وجهه:
لقد أعطتني الدنيا أكثر مما أتمنى. راضي عن نفسي وراضي عن ما قسمه الله لي.
لقد وصل طبيبنا إلى مقام الرضا والتسليم.
زهد بالحياة وما فيها ليسكن المحبة وتسكنه. اكتفى بذلك، حتى أنه لم يقبل أن يسمى شارع باسمه لأنه يعتبر خدمة الناس هي واجبه كطبيب.
جاءه أحد الأشخاص من الإمارات لمساعدته مادياً من خلال برنامج «قلبي اطمأن» ولكن طبيب الغلابة رفض أي مساعدة. يتكلم فتشعر كأن نبعاً من التوكل والزهد يخرج منه ويحيط بالمكان. فهو لا يهتم إلا بإرضاء الله عز وجل وضميره. وكأنه ثمرة من ثمرات المحبة. نضجت حتى أبهرت كل من حولها.
كان في إمكانه أن يقبل عروضاً كثيرة مغرية تكسبه المال الكثير، ولكنه كان مقتنعاً برسالته التي خلق لأجلها وهي خدمة الفقير، والعمل المتفاني لشفاء علل الفقير.
يقول في إحدى المقابلات معه:
بحلم إنو مصر تبقى كبيرة. وكل المصريين يكونوا في أحسن مستوى أخلاقياً واجتماعياً ومادياً.
لو تمعنا بترتيب المفردات لوجدنا أن حرصه الأول يتعلق بالأخلاق، والمادة تأتي في آخر الجملة وكأنها زائدة.
ما أجمل تلك الأرض التي أنجبت طبيب الغلابة. لقد رحل ولكن ترك خلفه إرثاً كبيراً من العطاء وآلاف المحبين.
رحل لتضيء روحه كل القناديل العتيقة المنسية في البيوت القديمة.
هناك فوق تربته ستنبت آلاف الورود لترسل عبيرها رسائل حب لفقراء الأرياف وأبنائهم.
كل ما اشتدت الظلمة وفقدنا الأمل يأتي رسول محبة مثل الطبيب محمد المشالي ليعيد لنا إيماننا بالخير والحياة.
هنيئاً لك يا مصر بابنك… طبيب الغلابة.
*كاتبة لبنانيّة