من الكسندرا نجار إلى «ملوك الطوائف» في لبنان: رحيلكم هو الحل الوحيد!
منذ 26 ثانية
أمس كانت بيروت صغيرة جداً، وكانت عيناها واسعتين، تتمرجحان بين العسلي والبني الفاتح والبني الداكن، تخرج منهما سفن محملة بأحلام ووعود كثيرة. كانت رموشها الطويلة نسيجاً واسعاً من المحبة تهب فيها الرياح لتدفع بتلك السفن بعيداً في إبحارها.
أما شعرها الكستنائي فهو دفء المدينة المبعثر، ذو حمرة لطيفة تصيب ناظرها بحنان مفاجئ، تتموّج فيه بعض الخصل الشقراء في كل مرة تستفيق فيها الشمس باكراً لتطبع قبلة فوق جبينها.
ابتسامتها، ماذا أقول عن ابتسامة بيروت وهي منارة الشرق ونبضه، تبتسم تلك الصغيرة لتضيء كل ليل حزين، لتعيد للقمر وهجه في السماء الحالكة.
ولأنها صغيرة جداً لم يتعد عمرها الخمس سنوات ، كانت ترى القمر أكبر من حجمه بكثير في سماء تتمدد مع الطيور المحلقة بعيداً في آفاق لا متناهية.
إنها الكسندرا نجار طفلة لبنان التي لن تكبر. نعم لن تكبر. ربما حتى نستفيق من غيبوبتنا. ويكبر الألم فينا فتصغر الأشياء ونفقد القدرة على الأحلام. حينها نقف موحدين ضد الفساد. ضد زعماء الوهم. ضد مجرمي الحرب وأمرائها. ماتت الكسندرا لتكسر حاجز الخوف حتى نقفز فوقه. ماتت بيروت لتوحدنا ضد مجموعة من البائسين والمجرمين والمتخلفين الذين سطوا عليها لسنين طويلة ثم ذبحوها من دون أن يرف لهم جفن. الآن ما عاد الموت يرهبنا. لقد متنا جميعاً بموت تلك الصغيرة.
هكذا تناقل صورتها رواد مواقع التواصل الاجتماعي في العالم أجمع، وأصبحت حديث الفضائيات لأنها بيروت الصغيرة أو أليكسو، كما يحلو لأهلها أن ينادونها.
رحلت أليكسو لتنطفىء معها كل انعكاساتنا. لقد دفنوا بيروت ولكنها ستنهض من جديد. ستنهض لأننا صحونا جميعاً ولو متأخرين!
ستنهض لأنها ستولد آلاف المرات. ولادات من قلب الموت.
ففي اللحظة التي انفجرت فيها المدينة وأضاءت العالم بوجعها، ولد طفل سليم بالرغم من الإصابات التي تعرضت لها الأم ومعها الطبيب. ولد الطفل من بين الزجاج المتناثر وهو يبكي لتغرد الحياة فوق الجثث المرمية على أرض المستشفى.
لن ينسى لبنان الطبيب البطل الذي انتشل ذلك المولود الجديد، وهو ينظر إليه وكأنه عجيبته الأخيرة. لقد شهد الطبيب ولادة الحياة في حضن الموت وارتفاعها فوقه.
لقد شهد ولادة بيروت.
وفي مستشفى آخر لم تكن لحظات الانفجار أقل حدة. لقد تحطم كل شيء. المعدات والأسرة والزجاج. وكانت الدماء تغطي كل الممرات والغرف. ولكن بطلة جديدة كانت نقية مثل ثوبها الأبيض ارتفعت عن أنانيتها لتنقذ ثلاثة أطفال حديثي الولادة. هنا أيضاً ولدت بيروت ثلاث مرات. حملتها تلك الممرضة ومشت أكثر من نصف ساعة لتجد مستشفى آخر لم يتهدم من الكارثة. هناك نامت بيروت بأمان لتعيد لنا شيئاً من الأمل.
تلك الممرضة الشابة لم تكن حديث الفضائيات العربية فقط بل ذاع صيتها حتى في الأوساط العالمية.
بيروت لم تولد فقط في لبنان. إنها في قلب كل مدينة تحبها. في الكويت كانت تبكي طفلة كويتية وتقول لوالدها: أنا حزينة جداً لأن بيروت تتألم. أليست تلك الطفلة بيروت أيضاً. ومن الإمارات العربية انتشر فيديو لطفل يتحدث عن بيروت وعن حبه لها باللغة الانكليزية. وهو يطلب من أطفال لبنان أن يبقوا أقوياء. أليس هو أيضاً صوت بيروت وروحها؟
كم مرة قتلتم بيروت بانفجارات متتالية وكم مرة بعثت من جديد؟
تستقيلون؟ لن نفرح باستقالاتكم، لأننا نريد رحيلكم جميعاً. «كلن يعني كلن»!
نريد نظاماً آخر مبنيا على المواطنة والكفاءات الشابة. بعيداً كل البعد عن الطوائف والمناطقية والحزبية والتبعية.
نريد وطناً يسعنا جميعاً.
لقد علقوا لكم المشانق لأنكم قتلة وبائسون. وحمل الشباب المكانس ليس فقط ليكنسوا الطرقات. بل أيضاً ليكنسوا كل أثر لكم في وطننا الحبيب.
ارحلوا جميعاً، فبرحيلكم ستنبت بيروت آلاف المرات من دماء شهدائها وتتفتح وروداً جورية، كما كانت قبل أن تجيئوا.
لا مكان لكم بيننا. ارحلوا لأن سماء بيروت غاضبة. أنجبت ثورة لن تهدأ ولن تستكين حتى تعود المراكب الراحلة إلى عيني أليكسو الصغيرة.
*كاتبة لبنانيّة