غادة السمان .
وم كتبت روايتي في فترة الحرب الأهلية اللبنانية وسميتها (كوابيس بيروت) وتمت ترجمتها إلى أكثر من عشر لغات، منها البولونية والروسية والألمانية (3 طبعات) والإنكليزية والإيطالية وسواها، كنت أحدس أنه لا ضرورة لكتابة الجزء الثاني للرواية، لأنها ستكتب نفسها بنفسها كما يحدث الآن. وثمة صورة في الصفحة الأولى من جريدة «القدس العربي» فجرت أحزاني وذكرتني بكوابيس بيروت. الصورة أرسلها الصحافي سعد إلياس مراسل الصحيفة في لبنان، وفي الصورة لبناني يفتش في حاوية القمامة بحثاً عن الطعام! ألهذا الدرك انحدرنا؟ إنها صورة مذلة لكل عربي. ولكن، ما الذي سيحدث لنا الآن بعد الانفجار المروع وتشريد 800 ألف هدم الانفجار بيوتهم وجرح 5000 وقتل 150 من الأبرياء؟
«كوابيس بيروت» واقعية بلا خيال أدبي!
لعل الكاتب ليس بحاجة إلى استعمال الخيال حين يكتب عن الموت في لبنان «لا حرب أهلية» تدور بعد! لكنها الفاقة والظلم وإذلال التسول والانفجارات.
هذا رجل شاهده روائي معروف (لص؟) دخل إلى الصيدلية مع طفليه و»سحب مسدساً من وسطه ووضعه على الطاولة» وطلب – ببساطة – حليباً للأطفال ورفض أن يمد يده إلى صندوق المال، وقال: أنا لست سارقاً ولكن من أجل الأطفال!!
هذه الحكاية وحدها تصور مأساة كوابيس لبنان، فما الذي سيحدث الآن بعد الانفجار الهائل الذي وصلت رجته حتى إلى جزيرة قبرص كزلزال.
لا تنتحر، سيقتلونك فاطمئن!
كي أكتب أنا أو سواي عن «كوابيس بيروت» هذه الأيام لست بحاجة إلى استعمال سلاح الخيال.. فالحقيقة الأليمة صارت تكتب الكوابيس بنفسها.. وانتقلنا من «زمن القناص» الذي كان يصطاد الناس في «كوابيس بيروت» إلى قنص المرء لنفسه ألماً وجوعاً. ونشاهد (بدون رواية) وفي الحياة الواقعية، رجلاً لبنانياً ينتحر بطلقة من مسدسه في رأسه احتجاجا على الوضع المعيشي، ولم ينس أن يكتب شهادته (الوصية): «أنا مش كافر بس الجوع كافر»، لقد كان هارباً إلى الموت من الفقر، ولم يكن بحاجة إلى عناء الانتحار: لأن الانفجار سيقتله! ألا يشعر بالحرج الذين تسببوا في هذا الوضع للبنان، كي لا أقول بالخجل والعار النفسي؟ أليس الانفجار المروع امتداداً لما سبق من إهمال للمواطن للانشغال في نهب البنوك؟
«كوابيس الهجرة» بعد كوابيس بيروت!
تصرخ امرأة تهدّمَ بيتها في الانفجار الرهيب: لم يعد بوسعي الحياة هنا! ويتحدثون في وسائل الإعلام اللبنانية عن الهجرة من لبنان، وبين الذين يفكرون بذلك أسماء لامعة، عطاء وإعلامياً، منذ عشرات السنين.
وأعترف أنني أرفض أن أسمي نفسي «مهاجرة» على الرغم من أنني أعيش في باريس منذ هجري لبيروت قبل أربعة عقود، حيث عشت في جنيف السويسرية عامين ثم في باريس. فما زالت بيروت تقاضي قلبي كما دمشق. حياتي في جنيف أوحت لي برواية «كوابيس الغربة» بعد «كوابيس الوطن» وعنوان الرواية: ليلة المليار. وعلى الرغم من ضخامة حجمها، صدرت ترجمتها بعدة لغات منها عن «منشورات جامعة سيراكيوز الأمريكية» الشهيرة، وفي طبعة ثانية عن منشورات الجامعة الأمريكية في القاهرة، وحاولت فيها أن أرسم، روائياً، كوابيس الغربة بعد كوابيس الوطن.. فللغربة أيضاً أحزانها وكوارثها وضياعها بغض النظر عن فقر المهاجر أو عن ثرائه والحل الحقيقي في الوطن، ولكن كيف في مغارة «علي بابا» التي تنفجر وتنهدم على رؤوس الجميع؟
ذلك الوطن المرمي على الشاطئ!
لن ننسى يوماً صورة ذلك الرجل الذي يفتش في حاوية القمامة البيروتية عن طعام، وستجرحنا صورته دائماً كطعنة خنجر. لكننا أيضاً لن ننسى صورة ذلك الطفل السوري إيلان، المرمي على شاطئ في الغربة وقد لفظ أنفاسه الأخيرة، حيث غرق مركب الغربة وبركابه، وها هي بيروت بأكملها مرمية مثله مثخنة بجراحها.
صورة الطفل الغارق إيلان، وصورة ذلك الرجل اللبناني يبحث في حاوية القمامة عن لقمة، هما صورتان متشابهتان! كلاهما لم يجد في الوطن لقمة.. أحدهما هاجر مع أسرته ورحل وغرق، وآخر يهاجر إلى الخزي في حاويات القمامة وسيزداد عدداً بعد الانفجار المروع. والوطن بأكمله يعيش كوابيس بيروت (الجزء الثاني من الرواية) التي كنت أتمنى أن أموت قبل أن أفكر بكتابتها.
واليوم أضحى الحديث عن الهجرة من لبنان أليماً في نظري.. لكنني لن أقوم «بالتنظير» الوطني وأنا مقيمة في باريس! لذا، سأصمت حزناً لما يدور واحتراماً لأرواح القتلى في الانفجار المروع.
«صخرة الانتحار» في الروشة
في بيروت، مقابل الشاطئ اللبناني في «كورنيش الروشة»، ثمة صخرة شاهقة جداً تدعى «صخرة الانتحار»، أو هكذا كانت تدعى يوم وصلت من دمشق إلى بيروت.
وقيل لي إن العديد من المنتحرين كانوا يتسلقون هذه الصخرة الشاهقة ليرموا بعدها بأنفسهم عنها إلى البحر والصخور وينتحرون.. وكنت أتساءل: لماذا الانتحار إذا كانت لديهم تلك الطاقة الحيوية لتسلق تلك الصخرة الشاهقة. ثم وعيت أن المنتحر يريد شهوداً على سبب هربه من الحياة. وأظن أنه على الذين تسببوا في «انتحار لبنان» عن صخرة الانتحار الشهيرة في الروشة، الشعور ببعض الخجل، ناهيك عن المسؤولية عما يدور.. بدءاً بالناس الذين دمروا بالانفجار المهول مؤخراً.
ويقال إن سببه الإهمال، ولكن تقال أشياء أخرى أكثر سوءاً من الإهمال! ولها صلة ببعض الأحزاب! لا.. لبنان لا يستحق ميتة كهذه.. ترى من له مصلحة في اغتيال عاصمة الحرية الفكرية العربية، ودفعها إلى الانتحار أو الهجرة؟ لا تدعوا لبنان يقفز عن صخرة الانتحار إلى الموت، لا تدعوا أحداً يدفعه إلى ذلك، لا تدعوا لبنان يقتل أو ينتحر؛ ففي موته لعنة للوطن العربي بأكمله. ولست خائفة من هول انفجار مهول حدث، بل خائفة من هول ما سيأتي بعده!