أبو كَاطع : تشارلز ديكنز “العراقي”
عبد الحسين شعبان
كاتب وناقد عراقي
I
إذا لم تسنح الظروف لـ ” شمران الياسري” “أبو كَاطع” الذي تمرّ ذكرى رحيله الـ 39، للدراسة النظامية والأكاديمية، فإنّه تمكّن من فكّ رموز الحرف بفضل والدته وفيما بعد استطاع أن يعلّم نفسه بنفسه، ولأنه عصامي واعتمد على قراءاته الذاتية، فقد أخذت عوالم عديدة تتكشّف أمامه، وكان كلّما توغّل في القراءة والتهام الكتب ومطالعة الصحف والمجلّات، ازداد خزينه من الصور والحكايات والقصص، تلك التي كان يطعّمها بما يستقيه من حياته، ليقوم بتمليحها وتزيينها بخياله الخصب وبما كسبه من ثقافة ومعرفة، وسرعان ما بدأ حبره يسيل، خصوصاً بعد أن اكتظّ قلمه بالأسرار والأخبار والنوادر.
وتدريجياً أصبحت علاقة ذلك الفتى الفلاحي وثيقة بعالم الحرف، بل إنه كان قد عقد نوعاً من الصداقة المديدة بينه وبين القلم، لم يفرّقه سوى الموت اللعين، لدرجة أصبح مدرسة خاصة في الإعلام والرواية يُشار إليه بالبيان والتميّز والفرادة.
وكانت البداية العملية لاقتحامه ميدان الإعلام هو برنامجه الإذاعي “احجيه بصراحة يبو كَاطع” (أي قلها بصراحة…)، ومروراً بعموده في جريدة “طريق الشعب”، وصحف أخرى قبلها، ووصولاً إلى روايته الرباعية: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميّد، والتي طبعها على نفقته الخاصة، وباع نسخاً عديدة منها قبل صدورها تحدّياً للسلطة التي رفضت طبعها، لذرائع واهية كما هو معروف ، ثم رباعيته الثانية التي لم تكتمل “قضية الحمزة الخلف” والتي صدر جزءها الأول بعد وفاته.
وبين هذا وذاك، هناك عشرات الأقصوصات والحكايات والخواطر ذات النكهة القصصية أو “الحكواتية” التي كان “خلف الدواح” راويته الشهير يصدح بها، وتأتي على لسانه طازجة وشهيّة، وكان قد جمع منها عدداً صدر بكرّاسات في أواسط السبعينات وغالبيتها مقالات في الصحف والمجلات، ثم صودر العدد الأخير منها من المطبعة. وظنّ كثيرون إن “خلف الدوّاح” شخصيته الأثيرة، إنما هو اسم وهمي حتّى نشرت صورته لأول مرّة في كتابي ” على ضفاف السخرية الحزينة” قبل عقدين ونيّف من الزمان ، كما نشرت اسمه الحقيقي والصريح “كَعود الفرحان“، وهو الذي ظلّ ملازماً لـ “أبوگاطع”، يسير معه مثل ظلّه، خصوصاً وقد أصبح رديفاً له ولقلمه.
II
عاش أبو كَاطع ظروفاً قاسية، فهو الفلاح الذي انتقل إلى المدينة، حيث عمل لاحقاً موظفاً في وزارة الإصلاح الزراعي، وبعدها مقدّماً لبرنامج إذاعي، ثم سجيناً بسبب دعوته للسلم في كردستان، ومختفياً في الريف لبضع سنوات، ثم لاجئاً غير سياسي على حد تعبيره، إثر ملاحقته بتهمة كونه “تاجر أسلحة”، وإحالته إلى “محكمة الثورة” في حينها، وكان “الحكم” المنتظر حسب تهكّماته ” أقلن .. أقلن الإعدام”، )أي إن أقل حكم هو بالإعدام( وهو ما عُرفت به المحكمة المذكورة من إصدار أحكام غليظة وبصورة اعتباطية.
وإذا كان قد أفلت من “الذئب اللئيم” على حدّ تعبير الشاعر الجواهري الذي ظل يترصّده لسنوات عديدة، فإن الأخير كان له بالمرصاد في المنفى، فتمكّن من اصطياده في 17 آب (أغسطس) العام 1981 في حادث سير غاشم، حين كان ينوي زيارة نجله الأكبر “جبران” وهو متوّجه من براغ إلى بودابست، وقد نُقل جثمانه إلى بيروت ليوارى في مقبرة الشهداء الفلسطينيين.
وإذا كان غائب طعمة فرمان بحق هو روائي المدينة بكل خفاياها وخباياها وشوارعها وأزقتها وعاليها وسافلها كما يُقال، فإن أبو كَاطع كان روائي الريف بكل تناقضاته، ناقلاً حديث الدواوين والمضايف والمجالس، ليجعل منه مادة للرواية والأقصوصة والحكاية والعمود الصحافي، وكان يقوم بتقديم كل ذلك بصورة مجسّمة تلك التي تخصّ حياة الريف الحقيقية بما لها وما عليها، أي حياة الفلاحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق المحرّم والحب واللوعة والظلم والقسوة، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية، مسلطاً الضوء على الزيف والخداع والاستغلال.
يمكنني القول إن “أبو كَاطع” كان رؤيوياً، أي أنه ينظر بعيداً، حتى إنّ جزءًا من عقله كان يعيش وكأنه للمستقبل، وكانت رؤيته واقعية وليس تجريدية أو نظرية، لأنها كانت تنطلق من حياة الناس وتعود إليهم، وهي رؤية تمتاز بالصفاء والوضوح، خصوصاً وقد مزجها بقيم تتطلّع إلى الحداثة والجمال والسلام والمساواة والعدل .
وقد وجد أبو كَاطع في أسلوب القص، الحكاية أو الأقصوصة أو الرواية وسيلة يستثمر فيها كل ما اختزن في ذاكرته من حياة الريف أو ما استحضره من خيال وما كان يحلم به من رؤى، وبقدر ما كانت الرواية قبل أبو كَاطع تنقل عن واقع الريف أو تلامسه، إلّا أن رؤيتها ظلّت مدينية أو أنها تعبّر عن رؤية المدينة، لكن أبو كَاطع تمكّن من نقل حياة الريف من داخل الريف وليس عنه، إلى المدينة، لأنه لم يكن طارئاً أو متطفّلاً عليه، بل كان من صلبه، وحاول أن يعكس حياته بما لها وما عليها، في حين كانت كتابات أخرى سبقته تمثّل نظرة المدينة للريف، ولم تكن قادرة على تصوير حياة الريف كما هي، فقد بقيت “برانيّة” ولم تستطع نقل أجوائها “الجوانية”.
لم يكن أبو كَاطع متفرّجاً على ما يجري في الريف وحياة القرية في إطار مشهد خارجي، بل كان من الريف وكتب عن البيئة الريفية، مقدّماً لنا إيّاها على قدرٍ من التشويق والتوتّر والانفعال بكل تناقضاتها وتعقيداتها.
III
وإذا كان طه حسين في كتاب “الأيام” قد قدّم الشاب الريفي القادم من قرية “المنيا” المتشبّع بالثقافة الأزهرية كنقيض للحضارة الغربية التي تخيفه، وفعل الطيب صالح في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” حين جسّد علاقة الريفي بالمدينة الأوروبية، حيث وضعه بين سيقان فتاة شقراء مضيفاً تناقضاً وازدواجية جديدة على أصوله الفلاحية “ذات المسحة السوداء” وحاضره الانكليزي، إلّا أن رواية أبو كَاطع في الرباعية حاولت كسر هذا الاحتكار في التحدّث عن الريف من خارجه، بعد أن رسم صورة ضاحكة جديدة لابن المدينة أيضاً، وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه، تارة باستعارة “حكمة” الريف وتراثه، وأخرى بالسخرية منه لسذاجته وأوهامه، دون أن يسقط بالأحكام المسبقة والإرادوية التي وقع فيها أبناء المدن في روايتهم المدينية عن الريف، وسواء جاءت مباشرة أو تلميحاً، فإن الكثير من الروائيين العراقيين كانوا أبناء مدن مثل محمود أحمد السيد وسليمان فيضي وجعفر الخليلي وذو النون أيوب، وبعدهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وفاضل العزاوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد خضير وغيرهم.
لقد ظلّ أبو كَاطع وباستثناءات محدودة يعتمد الأسلوب المباشر والخطاب ذو التوجّه الأيديولوجي الصارخ في التعبير، مثلما فعل في برنامجه أو في عموده الصحافي أو في رباعيته، لكنه بدأ وإنْ كان ببطئ وبالتدرّج إلى الترميز والدلالة، وهو أسلوب حاول أن يعتمده في السنوات الأخيرة، خصوصاً بنضج تجربته واكتمال أدواته الفنية وإن ظلّ صوت الآيديولوجيا قوياً في داخله، وبالطبع فإن ذلك يضعف العمل الفني، لكن تلك النبرة الآيديولوجية الصارخة خفّت كثيراً في رواية “قضية الحمزة الخلف” التي صدرت بعد وفاته في بيروت عن دار الفارابي، وفي بعض الأقصوصات مثل “موت الكلبة مرزوقة” و“حكاية الضبع الأكبر” التي نشرتها لأول مرّة، وقد يكون قد تأثّر بها بجورج أورويل وروايته “مزرعة الحيوان“.
IV
لقد استخدم أبو گاطع اللهجة الشعبية أو المحكيّة بأسلوب باذخ كما فعل الشاعر مظفر النواب في قصيدته الشعبية، دون أن يلتفت إلى ما قيل بشأنها من انتقاص للغة العربية أو للفصحى ، لأنه كان يريد إحداث التأثير المطلوب في وعي المتلقّي، ناهيك عمّا تحمله من دلالات أحياناً، ليس بإمكان اللّغة الفصحى التعبير عنها. وأصبحت استخداماته “مقبولة” في تضمين بعض النصوص بالعامية العراقية، وإنْ استمرت الاعتراضات الشديدة بشأنها.
وكان مبرّره إنه يجدها أحياناً أكثر تعبيراً عمّا يريد أن يقوله، وإنْ حاول المحافظة على اللغة العربية وجمالها وتنوّع مفرداتها، لكنه في الوقت نفسه كان يلجأ إلى العامية لتطعيمها ويجد في ذلك وسيلة مناسبة لمخاطبة جمهور أوسع. وحاول في حكاية ” يوم القيامة أو يوم الحساب أو شيء قريب من هذا “ استخدام اللهجة السورية التي كان يتمازح بها مع صديقه السوري “عصام”، وظلّت كلمات مثل “تقبرني” أو ” العَمَه” أو “لكان” لازمات يردّدها بمتعة شديدة، لأنه يعتقد إن ذلك يملّح نصه ويعطيه مقبولية أكثر.
لقد ظلّ أبو كَاطع في المضمون أو الشكل عراقياً صميمياً ومحلياً إلى أبعد الحدود، ومن هنا نستطيع أن ندرك ماذا يعني الأفق اللغوي، خصوصاً حين يسعى المبدع لتخطّي حدود المكان إلى عالم أكثر شساعة، وهو ما طبع روايات غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومحمد خضير وفاضل العزاوي وعبدالرحمن مجيد الربيعي وآخرين الذين وإن كانت روايتهم محلية، لكنها في الوقت نفسه عربية بأفق عالمي.
V
أفلح أبو كَاطع إلى حدود كبيرة جداً في استخدام السخرية، بل إنه من القلائل الذين امتازوا باختيار هذا الأسلوب، وحسب كارل ماركس فالموقف من السخرية يعني اتخاذ موقف جاد من الحياة، وهي سلاح ثقيل الوزن وشديد الفعالية، لا يخشاه الحكام والمستبدون بشكل خاص فحسب، بل البيروقراطيون أيضاً من الحزبيين المسلكيين والإداريين، الذين اعتادوا على نظام الطاعة وقبول الأوامر. والسخرية أقرب إلى مدفعية بعيدة المدى، لاسيّما إذا أُحسن استخدامها ، فإن مفعولها كبير جداً، وقد استخدمها “أبو كَاطع” بأسلوب راقي ومبرّر، مصحوبة بحِكَمٍ وأشعار وأمثال شعبية.
وأتذكّر أنني بعد اغتيال ناجي العلي (العام 1987) كتبت عموداً في “صحيفة المنبر” قارنت فيه عمود أبو كَاطع برسومات ناجي العلي، وحنظلة بخلف الدوّاح وقلت فيه: كان عمود أبو كَاطع يعطي ما يكفي من الفرح والسخرية، وكان قلمه وشخصيته المملّحة “خلف الدوّاح” مثل ريشة ناجي العلي وشخصيته الأثيرة ” حنظلة”، تلك الريشة التي كانت تمتلك ذلك السحر الآخّاذ الذي يثير في النفس خيالات خصبة جديرة بكل من يتوق إلى الحريّة والتجديد.
وعندما تقول حنظلة فإنك تعني خلف الدوّاح، وعندما تستذكر أبو كَاطع فأنت تحي ذكرى ناجي العلي أيضاً الذي استشهد في لندن، ولا يمكن تصوّر حنظلة من دون فلسطين، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدوّاح دون الحديث على الريف العراقي والعراق كلّه.
هي السخرية في الحالتين: وجوه ومؤخرات، زهور وتوابيت، حمامات وبنادق، ظالمون ومظلومون، أبطال وأدعياء، حقيقيون ومزيفون… هي السخرية حين ينتصب أمامك الواقع العربي بكل تناقضاته وبؤسه وتشويهاته: إنها السخرية المشتركة والهوّية المشتركة للمضطهدين والمنفيين وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات، مثلما هي الهوّية المشتركة للظالمين والطغاة والفاسدين.
إن ظاهرة أبو گاطع أصيلة، لأنها ظاهرة إبداعية ، فلم يقلّد أحداً ممن سبقوه ، بل إنّ ميدانه كان بكراً، كما أنّ من حاول تقليده فشل، ونتذكّر ظاهرة طالب الفراتي ” أبو سباهي” وعلي الأطرش “كَعود”، باستخدام اللهجة الشعبية، لكنها لم تستطع التعويض عن ظاهرة “أبو كَاطع” وكارزميته وحكاياته المؤثّرة وبرنامجه الأثير، وظلّت صيغة مستعارة ومستنسخة.
لقد كان أبو گاطع مدرسة حقيقية في فن النقد والتحريض والتعبئة فيها الكثير من عناصر الجذب والإقناع، خصوصاً باستخدام السخرية والدعابة والضحك، ولا أدري إلى أي حدٍّ يمكن أن نستذكر معه الروائي تشارلز ديكنز صاحب رواية “قصة مدينتين” A tale of two cities ، فقد امتاز هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاذعة، وصوّر جانباً مهماً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.
فلنستعد للاحتفال بما يليق بذكرى رحيل الروائي والصحافي أبو كَاطع ولتكن الذكرى الأربعون (2021) مناسبة جديدة لتكريم أبو كَاطع على مستوى العراق ولنعدّ ما نستطيع لتلك المناسبة العطرة.