لبنان.. هل يمكن بقاء القديم؟
عبد الحسين شعبان
أعاد الانفجار المروّع الذي حصل في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الجاري، أزمة الدولة اللبنانية إلى الواجهة، وإن كانت هذه الأزمة قديمة، ومعتّقة منذ التأسيس قبل نحو 100 عام، إلا أنها تفاقمت على نحو متسارع خلال العقود المنصرمة، خصوصاً بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، إلّا أنها ترافقت هذه المرّة مع ثلاثة أحداث كبرى مهمة:
أولها- استمرار وباء «كورونا» منذ فبراير/ شباط الماضي، وارتفاع نسبة الإصابات في الأسبوعين الأخيرين ما قبل الانفجار.
وثانيها- استمرار معاناة اللبنانيين بتهديد وجود الدولة اللبنانية، والمسألة تتعلّق بالعقد الاجتماعي، وشرعية نظام الحكم، سواء بدستور عام 1943، أو بميثاق الطائف عام 1989 الذي جاء بعد حرب أهلية دامت نحو 15 عاماً.
وقد عاظمت كارثة مرفأ بيروت من معاناة اللبنانيين، إضافة إلى أزمات النفايات، والمازوت، والبنزين، والكهرباء، وتلوث المياه، وعجز المصارف، وانهيار سعر الليرة اللبنانية، لدرجة أصبح نصف اللبنانيين في خط الفقر، ودونه، وقد اضطرت محال تجارية وخدمية وسياحية إلى الإغلاق، كما تم الاستغناء عن خدمات 400 ألف عامل، فضلاً عن أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى.
وثالثها – استمرار انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولعلّ أهم مطالبها تنحية الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود بسبب فشلها، وفسادها، والتوجه صوب عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية، ويؤسس لدولة المواطنة، وهذا يتطلب تعديل الدستور، وسن قانون انتخابي جديد على أساس النسبية.
وإذا كانت مثل هذه المطالب صعبة، وبعيدة المنال، بل تكاد تكون مستحيلة، خصوصاً إعادة الاعتبار للدولة، وهيبتها التي ينبغي أن تعلو على الجميع، فإنه بعد التطورات الأخيرة واستقالة الحكومة أصبحت مطروحة على بساط البحث، وإنْ لم تتحقق هذه المطالب كلها دفعة واحدة، لكنها أصبحت في برامج أوساط وقوى سياسية، وطيف واسع من اللبنانيين، وقد يمهّد ذلك لتغييرات تدرّجية، وعلى مراحل، إذْ لم يعد يحتمل استمرار الوضع على ما هو عليه.
ولا يمكن للبنان الخروج من عنق الزجاجة ووصوله إلى المعافاة الحقيقية، لاسيّما كسب ثقة المجتمع الدولي من دون إجراء إصلاحات جذرية، وجوهرية، ومحاربة الفساد، والمفسدين، واستعادة الأموال المنهوبة، والمساءلة على التقصير وسوء الإدارة، والعبث بحياة وممتلكات الناس وحقوقهم، وهو ما لمّح إليه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبيروت ومن المفترض عودته أوائل سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقبل أن يكون التغيير مطلباً للقوى الخارجية فإنه حاجة لبنانية ماسة، وهو بيد اللبنانيين أولاً، لاسيما إذا بادروا إلى عقد اجتماعي جديد، فإن الدول الشقيقة، والصديقة، والمجتمع الدولي، يمكنها حينذاك أن تقدّم لهم الدعم المطلوب. وبالطبع، ثمة عقبات وضغوط كبيرة على هذا الصعيد، منها التهديدات «الإسرائيلية» المستمرة، وتحديات القوى الإقليمية، والدولية، التي تريد أن يكون لها حصة مؤثرة في التوافقات السياسية، سواء إبقاء القديم على قدمه، أو إجراء تغيير يصب في مصلحتها.
وبتقديري، فإن لبنان بالمواطنة والتنمية المستدامة وعلى أساس الهويّة الجامعة، مع الإقرار بالتنوّع واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، يمكنه تجاوز محنته الراهنة، وسينهض كطائر الفينيق من الرماد، مزدهراً، معافى في محيطه العربي ودوره الثقافي والحضاري كجسر للقاء الثقافات، وامتداداتها، واعداً بسلام حقيقي وعادل، لما يملكه شعبه من نشاط وإبداع، وحيوية، وطاقة، ومبادرة.
إن المدخل الأول لحل الأزمة اللبنانية، وإنهاء الانقسامات المجتمعية هو التمسّك بالمواطنة العابرة للطائفية لتحقيق التنمية المستدامة بجميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية، وغيرها، وضمان عيش المواطن وحقوقه الإنسانية، في ظل دولة تعلو مرجعيتها جميع المرجعيات الدينية، أو الإثنية، أو المناطقية، أو السياسية، أو الحزبية، أو العشائرية، أو غيرها.
والطريق نحو هذه الدولة لا بدّ أن يمرّ بمصالحة تاريخية بين الدولة، والمواطن، بحيث يشعر الأخير بأن الدولة هي دولته، وراعية لمصالحه، والحكومات تأتي وتذهب لخدمته، وليس لسرقته، ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد لتحسين الأوضاع الصحية، والمعيشية، والخدمية، وتوفير فرص عمل وضمانات اجتماعية وتقاعدية، وضمان للشيخوخة، بما يعزّز من وعي المواطن وثقته بالدولة من جهة، ويُشعِر المسؤول الحكومي بأنه جاء لخدمة الناس، وليس لتنفيذ مصالحه الخاصة، أو المذهبية، أو الفئوية، على حساب مصالح الشعب.