كورونا بين التداعيات والدفاعات السيكواجتماعية والحرب الباردة
د.عامر صالح
لايزال كوفيد ـ 19 يفاقم قلق الحضارة الانسانية بفعل المخاطر الجدية والكارثية لتداعياته, وتكمن مصادر القلق الأساسية فيما اصاب العالم من خسارة في الارواح, سواء على مستوى الاصابات الكلية أم الوفيات, والتي بلغت حتى كتابة هذا المقال اكثر من 23 مليون اصابة وتجاوز فيها عدد الوفيات اكثر من 800 ألف حالة وفاة, وطبعا تقابلها حالات شفاء تجاوزت 15 مليون حالة, وتتصدر الأصابات في دول تتصدرها أمريكا ومن ثم تباعا البرازيل والهند وروسيا وجنوب افريقيا والبيرو والمكسيك وهكذا تباعا الى العراق في تسلسل 21 عالميا.
ومن دواعي القلق المضاف هو الخسائر الأقتصادية الكبرى في اغلب القطاعات الانتاجية والخدمية, وتقطع الاوصال بين الدوال وغلقها الحدود بين وجه بعضها للآخر, ومن ثم العزلة الاجتماعية في داخل البلد الواحد او المجتمع المحلي, والمكوث في المنازل والتباعد الاجتماعي قسريا والحد من الطقوس والممارسات الاجتماعية المختلفة, الدينية منها والترفيهية العامة وحتى السياسية ذات الطابع الجماعي, وقد رافق توقف وتعثر الانشطة الاقتصادية داخليا وبين الدول تفاقم ظاهرة البطالة الوطنية والعالمية, وانقطاع الأرزاق وتدهور الحياة المعيشية, وخاصة في البلدان التي لايمتلك مواطنيها ضمانات الحد الادنى من الدعم الاجتماعي, وعلى خلفية ذلك أستشرى العنف الاسري والمنزلي بمقاييس اكثر مما سبق كورونا, وارتفاع نسب الطلاق والهجر والأعتداء والعنف الجسدي والنفسي, وألحاق الأذى بالطفولة والمراهقة لمكونات الأسرة, ثم فرض آاليات التعامل عن بعد في التعليم والصحة والمعاملات المختلفة, وكذلك العمل من داخل المنزل عبر شبكة الأنترنيت كبديل عن السياقات اليومية المعتادة في الخروج من المنزل الى العمل يوميا وفي توقيتات منتظمة, ويكون الأمر اشد صعوبة في الدول التي لا تملك بنية تحتية معلوماتية وتقنية متطورة تحتوي التغيرات التي فرضتها كورونا.
ومما يفاقم القلق المشروع لدى المجتمعات الانسانسية هو عدم توفر علاج او عدم العثور على لقاح حتى اللحظة تجمع عليه منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي, ثم ما ترسمه المنظمة الدولية من آفاق لحركة فيروس كورونا في الزمان يضيف على المشهد مزيدا من ضيق الأفق القريب للخلاص او الحد من كورونا, ففي وقت قريب وفي هذا الخصوص أكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس وأشار الى بعض الحقائق وذكر أن أول 100 ألف إصابة كانت في 67 يوما، وأن ثاني 100 ألف إصابة كانت في 11 يوماً، وثالث 100ألف إصابة حدثت في 4 أيام، ورابع 100 ألف إصابة تمت في يومين.
وهذا يعد مؤشرا خطيرا على ان المجتمعات العالمية لم تزل تعيش الذروة ولم تتمكن من الوصول الى خط الأمان الذي بموجبه تشعر بالراحة وأفق الأمل بعد التداعيات الجسدية والنفسية والسلوكية المؤذية التي سببها الفيروس حين اخذ بالانتشار بصورة مفاجئة، ما سبب ازمة حقيقية لدى الجهات الصحية المتصدية منذ اليوم الأول لدخوله حدود البلدان المختلفة ولم تتوانى لحظة عن تقديم الخدمات العلاجية للمصابين, ولكن المشكلة هي مشكلة كفاءة النظم الصحية ووضوح السياسات الصحية.
وقد قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم جيبريسوس”، إن المنظمة تأمل في انتهاء فيروس كورونا في غضون أقل من عامين. وأضاف جيبريسوس، أن الأنفلونزا الإسبانية التي انتشرت في عام 1918 انتهت في عامين. وتابع: أنه “في وضعنا الآن ومع مزيد من التكنولوجيا، وبالطبع في ظل مزيد من التواصل بين الناس، أمام الفيروس فرصة أكبر للانتشار لأن بإمكانه الانتقال بسرعة”. وشدد على أنه “في نفس الوقت لدينا التكنولوجيا والمعرفة لوقفه”. وفي السياق، قالت ماريا فان كيرخوف عالمة الأوبئة في منظمة الصحة العالمية إن “هناك حاجة لمزيد من الأبحاث بشأن تأثير التحور على فيروس كورونا”, وأضافت خلال إفادة في جنيف شكلنا فريقا خاصا لرصد التحورات وندرس كيف يمكننا أن نفهم بشكل أفضل عملية التحور وتأثيرها.
ومن مؤشرات نشاط الفيروس مجددا هو ان الدول التي اتخذت خطوات الانفتاح النسبي على العالم عادت وانتشرت فيها الأصابات مجددا مما حدى بها الى العودة مجددا الى بعض الاجراءات القسرية السابقة في العزل والتباعد الاجتماعي وفرض ارتداء الكمامات بصورة عامة او جزئية في حالات السفر والتنقل في الوسائط الجماعية. ومما يثير القلق ايضا قالت منظمة الصحة العالمية إن على الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 12 عاما فأكثر وضع الكمامات للإسهام في التصدي لوباء كوفيد-19 بنفس الشروط التي تنطبق على البالغين، في حين ينبغي للأطفال ما بين سن السادسة والحادية عشرة وضعها حسب منهجية قائمة على مواجهة المخاطر.
وذكرت منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في وثيقة نشرت على موقع منظمة الصحة تحمل تاريخ 21 أغسطس آب، أن الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 12 عاما فأكثر يجب عليهم بالذات وضع الكمامات في الأماكن التي لا يكون فيها ممكنا ضمان الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي لمتر واحد، وعندما يكون هناك انتقال للعدوى واسع النطاق في المنطقة. وهذا تدارك او مؤشر جديد ان قضية الأصابة بأختلاف الفئات العمرية واردة وممكنة ايضا.
وبعيدا عن الافرازات السلبية لكورونا على مستوى الجبهات الداخلية للمجتمعات المحلية ألا انها أحيت مفهوم التضامن والتكافل الداخلي والتعاون المشترك في زمن الأزمات, فقد ساهمت في تجنيد الطاقات الانسانية كافة في ايجاد حلول ميدانية لمشكلات كورونا وتداعياتها على مختلف المستويات, فقد جندت فيها كل الطاقات والموارد الاقتصادية والمالية والطبية والتعليمية والامنية للأستجابة لحالة الطوارئ التي فرضها كوفيد ـ 19, سواء في البحث عن حلول تعليمية بديلة, كالتعليم عن بعد وغيرها, أم الانخراط في معالجة المصابين واعمال الوقاية, او المساهمة في تطبيق الحظر وتوفير بيئة ملائمة للوقاية من اخطار الفيروس وانتشاره, او في توفير ضمانات الحد الادنى من العيش جراء أزمة الاعتكاف في المنزل التي فرضتها كورونا, او تسهيل مهمات العمل عن بعد, الى جانب الدور الكبير الذي قامت به الأسرة والوالدين في تحمل اعباء كورونا, رغم التفاوت في الأداء والأنتكاسات, وكما جرى على الصعيد المجتمعي استنفار لكل الطاقات البحثية الطبية والعلمية وتوجيهها صوب فهم طبيعة كورونا والعمل على العثور لعلاج او لقاح يقي المجتمع الدولي, وخاصة في الدول المرجعية, كدول الاتحاد الاوربي وامريكا والصين وروسيا وغيرها.
أما على صعيد السياسات الخارجية لأحتواء ازمة كورونا بين الدول وخاصة ذات القطبية السياسية, امريكا وروسيا والصين وحتى بين دول الاتحاد الاوربي ذات الانسجام النسبي في التوجهات فلم تكن بمستوى خطورة الازمة وتداعياتها على مستوى العمل المشترك لدرء الأخطار, فقد انسحبت امريكا من منظمة الصحة العالمية وعن دعم المنظمة ماليا وهي في احلك الظروف وكانت المبررات هو تواطئ المنظمة العالمية مع الصين, ثم دخول امريكا في مواجهات مع الصين على خلفية الكثير من العوامل التي سبقت كورونا والتي في جوهرها تعكس الصراع من اجل الحيازة التكنومعلوماتية المتطورة, ثم تهمة امريكا للصين بأخفائها حقيقة المعلومات الاساسية عن كورونا في بداية انتشاره ” والتي لم تتأكد بعد “, حتى وصل الحد بترامب ان يطلق على كورونا ” بالفيروس الصيني “. ويعلم الجميع ان الصين تشكل عصب الأقتصاد في السوق الرأسمالية وفي مقدمتها دول الاتحاد الاوربي وامريكا وبريطانيا, الى جانب الاسواق العالمية الاخرى في مختلف قارات العالم, وان الدخول معها في هكذا معارك في هذا التوقيت قد يضعف جبهة الحرب ضد كورونا.
أما الصراع مع روسيا فهو امتداد لحقبة الحرب الباردة ولم يهدأ يوما, والتي لازالت امريكا تنظر الى روسيا كنظاما شيوعيا, وهو صراع على مناطق النفوذ في العالم وأشكال التسويات المفروضة في الصراعات العالمية التي يراها كل من القوتيين العظمتين, ولكن ما اثار غضب الامريكان في عز ازمة كورونا هو الأعلان الروسي عن اكتشاف لقاح ضد كورونا والذي اطلق عليه ” سبوتنيك في ” واعتبرت روسيا أن اللقاح يعد “انتصاراً كبيراً للبشرية على فيروس كورونا” وأطلقت عليه اسم “سبوتنيك في “تيمناً باسم القمر الصناعي سبوتنيك 1 أول قمر صناعي يسبح في الفضاء الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي عام 1957.
وبعد أيام على إعلان روسيا عن التوصل للقاح مضاد لفيروس كورونا الجديد، المسبب لوباء كوفيد-19، ذكرت تقارير إعلامية إن الصين منحت براءة اختراع للقاح جديد مضاد للفيروس الذي أصاب أكثر من 23 مليونا وتسبب بوفاة أكثر من 800 ألفا آخرين. وبعيدا عن كفاءة اللقاحين الروسي والصيني واستيفائهم للشروط العالمية وفي مقدمتها شروط منظمة الصحة العالمية” على الرغم من اقبال دول عالم كثيرة لحيازة اللقاح الروسي تجاوزت عشرين دولة وبلغت جرعات اللقاح المطلوبة اكثر من مليار”, إلا انه ما يعنيننا سياسيا هو ما سببه اللقاحين وخاصة الروسي من مفاجئة لأمريكا وكان احد دوافع التشكيك في اللقاح وعدم كفائته, هو على ما يبدوا أن لقاح كورونا امريكيا كان ورقة انتخابية بيد ترامب لأعلان سبق تصنيع لقاح امريكي ضد كورونا في ذروة التصعيد الانتخابي في امريكا وفي زمن يقرره ترامب, إلا انه لم يفلح في ذلك.
وعلى العموم فأننا نترك البعد العلمي في جدوى اللقاحين الروسي والصيني الى ذوي الاختصاص وخاصة منظمة الصحة العالمية التي تبدوا في حيرة من امرها بين صراع الاقطاب المتنافرة, ولكن ما يعني البشرية جمعاء هو ان الازمات الكونية كنموذج كورونا يجب ان تبقي النظم السياسية والاقتصادية المختلفة في دائرة الحس المرهف لمعاناة الانسان في الكوارث والمحن الجماعية, فلا قيمة لهذه النظم مهما بلغت عدالتها بغياب صحة الانسان وفنائه, ولا مبرر لأنانية تلك النظم وصراعها بغياب الانسان المحرك لتلك المنافسة بين المجتمعات العالمية المختلفة, فجميع النظم السياسة في العالم تدعي خدمة الانسان الفرد او خدمة المجتمعات المحلية او التضامن مع المجتمعات العالمية, وكورونا هو من الاختبارات ذات الكفاءة العالية لقياس مصداقية النظم العالمية ومواقفها من مكانة الانسان ودوره في صنع الحضارة العالمية.