عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار
عبد الحسين شعبان
الحلقة السادسة
“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي
قرار عقد الجبهة الوطنية
كان قرار عقد الجبهة أممياً أكثر منه عراقياً، وكانت نصائح القادة السوفييت تُضخ لنا من خلال الجهاز الحزبي، وكلّها مشجعة ومحبّذة على عقد التحالف على الرغم من الهجوم ضد الحزب واعتقال المئات من أعضائه العام 1970. وإذا كان عقد الجبهة الوطنية تحصيل حاصل، لاسيّما بعد إضعاف الحزب، فإن التعاطي مع حزب البعث بعدها كان موضع نقد الشيوعيين وجمهورهم دون أن يسمع أحد اعتراضاتهم، فقد كان بعض “القياديين” قد وضعوا كلّ بيضهم في سلّة “الحليف” وأخذوا يتغنّون به، ويقمعون أي رأي يخالف ذلك، لدرجة أن محاضر الاجتماعات الحزبية كان فيها فقرة ” لا يوجد رأي مخالف“، وقد أصبحت تلك من صلب الإنجازات الحزبية، التي يتباهى بها البعض.
وبعد الانقلاب على الجبهة من جانب حزب البعث وإعدام 30 عسكرياً بحجة أن لديهم تنظيماً شيوعياً في الجيش، انسحب الحزب بشكل غير منظم، وترك مئات، بل آلاف الشيوعيين بلا غطاء إذا جاز لي التعبير، ولعلّ عبارة “دبّر حالك” كانت أقرب إلى السيف الذي اقترب من رقبة الكثير من الشيوعيين، يوم سادت مسألة التعهد بموجب المادة 200 السيئة الصيت.
إذا كان الحزب قد قرّر الانسحاب، فكان لا بدّ من خطّة طويلة الأمد وتكتيكات وتراجعات لكي يتم حماية ظهر الحزب المنكشف والذي سلّم كل أوراقه أو غالبيتها الساحقة إلى السلطة، لاسيّما عندما تعهّد بعدم العمل في القوات المسلحة وحلّ تنظيماته الجماهيرية في الطلبة والمرأة والشبيبة، وقَبِلَ بدور ثانوي وتابع لحزب البعث مراهناً على السلطة مُسقطاً أي خيارات أخرى، بل أن “القيادة” كانت ترفض حتى مناقشة الأمر أو الاستماع إلى أية وجهة نظر خارج ذلك، الأمر الذي جعلها تهرب إلى الأمام.
وأعتقد أن عزيز محمد بصفته الأمين العام للحزب و”إدارته” هي الأخرى كانت مسؤولة عمّا حدث دون تقليل من مسؤولية حزب البعث وأجهزته الأمنية التي هي المسؤولة الأساسية عن الانتهاكات والارتكابات ودفع البلاد إلى عجلة الانفراد والتسلط والدكتاتورية السوداء والمغامرات الرعناء لاحقاً، لكن واجب “إدارة الحزب” وأمينها العام كان يقتضي البحث بمسؤولية عن حدوث مثل تلك الاحتمالات وبالتالي توقّع مثل تلك النتائج.
وإذا كانت غالبية “إدارة الحزب” قد غادرت العراق من مطار بغداد، فإن العشرات، بل المئات من الكوادر راحوا ضحية الملاحقة وطحنت عظام البعض منهم دون رحمة، وحتى لم يجدوا قبوراً لهم بينهم د.صفاء الحافظ ود.صباح الدرّة وعايدة ياسين التي كانت في الخارج ورجعت بقرار لإعادة ” بناء التنظيم” وألقي القبض عليها وغُيبت مع آخرين.
كيف تصرّفت “القيادة” في الخارج؟
وفي الخارج تصرّفت “القيادة” على نحو عشوائي وردود فعل ومزقتها الصراعات، ولاسيّما محاولة الاستحواذ على المناصب والامتيازات، فانخرطت سريعاً في جبهة وطنية جديدة، حتى قبل أن تجف “دماء” الجبهة السابقة، تلك التي أبرمت في سوريا باسم، “جوقد” (1980) التي رضي بها الحزب لكنها لم ترضَ به (رضينا بالبين والبين ما رضه بينا)، فتم تجميد الحزب فيها، وذلك بسبب انضمام الحزب إلى جبهة جديدة هي جود التي تم تشكيلها في كردستان بعد أسبوعين من الجبهة الأولى، ثم انضم الحزب إلى جبهة التسعة عشر حزباً في طرابلس (1983) التي أعلنت على عجل بدعوة من الزعيم معمّر القذافي ووقع الحزب على بيان مع جهة مجهولة لم تعلن عن نفسها ولم يرغب الحزب في الإفصاح عنها، ولكن دور هذه الجهة جاء بعد غزو الكويت العام 1990 وبواسطتها تم اختراق جهاز دولي عريق للحزب فيما يتعلق بحادثة ثابت حبيب العاني، أحد أشجع الشيوعيين العراقيين وأنبلهم وأكثرهم إخلاصاً، وقد كتب مهدي الحافظ حينها مقالة في “صحيفة المنبر” يجلي فيها صورة ما حدث، ويحمّل الجهات المتنفذة في إدارة الحزب مسؤولية الحفاظ على حياته، التي كانت مهدّدة.
وأصبح الحديث عن الجبهة الوطنية بقدر ما هو مأساة، فقد كان ملهاة أيضاً، ونوع من الكوميديا السوداء أو السخرية الحزينة، وكأنها هي الهدف وليست الوسيلة. وأتذكّر أن أبو كَاطع (الروائي والإعلامي شمران الياسري) كان يطلق عليها إسم “الجبحة” أي “الكبوة” أو “الانكفاءة”، وباستثناء جبهة الاتحاد الوطني العام 1957، فلم تكن الجبهات التي دخلها الحزب واستمات أحياناً من أجل عقدها بما فيها الجبهة الكردستانية العام 1988، سوى تحميله المزيد من الأعباء، واضطرّ في غالب الأحيان إلى خسارة استقلاليته أو فقدانه جوانب منها ، خصوصاً تحالفاته ما بعد الاحتلال.
ومثلما كان بإمكان الحزب عدم إبرام جبهة العام 1973 والبقاء في موقع الناقد والمعارض للحكم، حتى وإن كان بأساليب غير عنفية ومن موقع الحرص والمسؤولية، فقد كان بإمكانه أيضاً وبحرية أكثر عدم الانخراط في جبهات ورقية أو هوائية أو طارئة ومؤقتة، كما اندفع الحزب في تحالفات سريعة كان ضحيتها مجزرة بشتاشان التي ارتكبتها قوات الاتحاد الوطني الكردستاني “أوك” ضد الحزب الشيوعي وراح ضحيتها أكثر من 60 شيوعياً في العام 1983 وكان سبب اندفاع “أوك” إلى ذلك هو مقايضة التحالف مع المعارضة بالتحالف مع بغداد حينها، حيث استمرت المفاوضات حتى أواسط العام 1984، ولكنها لم تثمر عن نتيجة بسبب تعنّت الحكم، فعاد وفد الاتحاد الوطني الكردستاني، وتدريجياً انتقل للتحالف مع طهران بدلاً من بغداد.
ومع أنني من الذين يميلون إلى التسامح، لاسيّما إذا كان فيه مصلحة الوطن ومصلحة إعادة العلاقات الودية بين الأحزاب والقوى السياسية وذلك كأفق سياسي، لكن الضحايا لم يتم تعويضهم، ولعلّ من حقهم أو ذويهم المطالبة بتعويض مادي ومعنوي، كما أن من حقهم ملاحقة المرتكبين قانوناً، والأمر يحتاج إلى جبر الضرر، بما فيه اعتذار رسمي من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني يقدّم للحزب الشيوعي العراقي ولعوائل الشهداء، فضلاً عن إحياء ذكراهم، وهكذا دائماً يتم نسيان الارتكابات حين وقوعها أو بعدها بقليل، وفي الوقت نفسه يجري استذكارها بعد حين، عندما يصبح الأمر بعيداً، أو حينما تسوء العلاقة مع الطرف المرتكب مجددًا.
خضوع وتطرّف
لقد تمّ السكوت عن جرائم 8 شباط (فبراير) 1963 خلال سنوات الجبهة (1973-1979) لكننا اندفعنا بعد ذلك نستذكر كل شيء وبتفاصيله لاحقاً بمناسبة وغير مناسبة أحياناً، وسكتنا ولا زلنا نتوخّى الصمت أو ننشد النسيان عن جرائم اغتيال 12 شيوعياً من جانب عيسى سوار(حدك) أو جرائم قتل 60 شيوعياً من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) في بشتاشان الأولى، وسمعنا من يتغنى بأسماء بعض من كان مسؤولاً عنها، طالما هم في موقع المسؤولية، وسترى كيف تكال التهم بعد تبدّل الحال؟
إن دعوتي هنا لا تستهدف إثارة الكراهية أو الثأر أو الانتقام، بقدر ما هي نقد الماضي وأساليبه ونقد السياسة، ودعوة جادّة إلى عقد اجتماعي سياسي جديد بين القوى السياسية لا يجيز استخدام السلاح ويمنع اللجوء إلى العنف لحلّ الخلافات، تلك التي ينبغي أن تعتمد على الطرق السلمية ووفقاً للقوانين والأنظمة المرعية، فضلاً عن الاعتبارات الأخلاقية.
النسيان ليس حلاًّ، والمقصود بالتسامح أن تبقى تلكم الإرتكابات في دائرة الضوء، بهدف عدم تكرارها، ولعلّ ذلك عبارة عن “مصل مضاد” لكي لا تنتقل عدواها ويعاد تدويرها ، بل لا بدّ من تهيئة المستلزمات لوضع حد لها، بما فيها إصلاح النظام القانوني وتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً وجبر الضرر وغير ذلك.
لقد اندفعت “إدارة الحزب” وجرّاء نهج التراجع السابق، ولاسيّما غير المنظم بالاتجاه المعاكس، فرفعت أشدّ الشعارات تطرّفاً، مضحّية بالعشرات، بل والمئات من كوادر وطاقات وكفاءات في معارك لم تكن مبرّرة في معظمها، خصوصاً وقد دارت بين الأنصار أنفسهم من القوى المختلفة.
ثقافة الشروال والجمداني
لعلّ هوى “الجملة الثورية” استولى على عقول البعض فتصرّفوا على نحو غير مسؤول بتجنيد الحزب كلّه في محاولة لعسكرته وسادت ثقافة الشروال والجمداني والجبل محلّ الثقافة الشيوعية الحداثية المدنية الراقية، وهكذا اضطرّ المئات إلى الالتحاق بقوات الأنصار دون قناعة لدى الكثيرين منهم، ولكن خوفاً من سوط العقوبات والاتهامات بالجبن وحفاظاً على عضويتهم أحياناً، حيث كان التهديد الأساسي يبدأ منها، لتبدأ معاناة لا حدود لها في موضوع العمل أو السكن أو الإقامة أو الدراسة أو العلاج أو التزكية السياسية، وهكذا، وهناك أمثلة لا حصر لها.
أقول ذلك لأنني أعرف العشرات، بل المئات من الحالات التي كان يمكن الاستفادة منها في ظروف مناسبة كشخصيات وكفاءات لتكون ذخيرة للحزب في المجالات المختلفة، الأمر الذي شجّع على روح التملّق والخضوع والسكوت عن الحق، مقابل التهميش والإقصاء وصولاً للفصل، خصوصاً للعديد من أصحاب الرأي.
وكان النقاش قد احتدم بشأن موقف الحزب من الحرب العراقية- الإيرانية، وهو الموقف الذي لقي نقداً شديداً من كوادر قيادية كثيرة، فضلاً عن قاعدة الحزب، وكذلك حول أساليب الكفاح وحول التحالفات، ولاسيّما ضياع هويّة الحزب ولونه الخاص، حيث سيطرت بعض الاعتبارات القومية الكردية الضيقة على إدارات الحزب وملاكاته، أشير إلى هذه الظاهرة التي تكرّست بفعل وجود الجسم الأساسي للحزب في كردستان وتشتّت مراكزه القيادية، علماً بأن الجميع يعرف موقفي الثابت من مبدأ حق تقرير المصير وحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة، والأمر له علاقة أيضاً بالعلاقات الداخلية بين الشيوعيين التي ساءت إلى أبعد الحدود، فضلاً عن اعتزازي برفاقي الأنصار وبطولاتهم وتضحياتهم التي سبق لي أن كتبت عنها ، لكنني أقارب المسألة من زاويتها السياسية، بمعيار الخسائر الفادحة التي منينا بها، ليس لأعداد الشهداء فحسب، بل حالة الفوضى التي عمّت الحزب والأساليب البيروقراطية والإكراهية التي استخدمت في معالجة مثل هذه القضايا.
يتبع