صوت الشّعر العربيّ الحرّ و سبعة و تسعين عاماً على الميلاد
نازك الملائكة .. توأمي الذي وُلد قبلي ب ثمانية وستين عاماً مع اختلافٍ بسيط في الجهات على الخارطة الكونيّة بين بغداد و دمشق
اعتمدتُ القراءة بكثبٍ منذ زمن طويلٍ كمنهجٍ مدروسٍ بإتقانٍ بغية تعزيز ثقافتي و معارفي بشكل عام ، ودعم مهارتي الأدبية واللغوية بشكل خاص ، وكنتُ قد اطّلعتُ على الأدب الغربيّ و لاسيما الرواة الأشهر عالمياً أمثلة فولتير و موليير و ألبيرتو مورافيا و ألبيركامو و جوزيه ساراماغو و غيرهم .
ولكنني لا أنكر أبداً أنني تعمّدت التّركيز على الأدب العربيّ بمجمله و نتاجاته في قراءاتي ، ليس بسبب تخصّصي الجامعي فحسب ، بل قرار اتّخذته مع ذاتي بعد اعترافي لنفسي و تصالحي المطلق مع ما أحبّ أن أقرأ وما أحبّ أن أكون .
و بدأتُ منذ سنواتٍ تُحسبُ أنّها طويلة قياساً بعمري البيولوجي الذي لم يكمل الثلاثين حتى الآن ، بالقراءة بنهم لا يشبهها نهم ، فأذكر كم تقاعستُ عن واجبات بسبب التزامي بقراءة كتاب كنت قد وضعته ضمن خطّتي السّنوية ، وأذكر صديقاتي كم غضبنَ مني مراراً بسبب تهرّبي من نزهاتنا سويّة بسبب رواية كنتُ كنت عاهدتُ صفحاتها أن أنهيها بيومين مثلاً .
بعد تخرّجي من الجامعة في سوريّة و حيازتي على بكالوريوس الأدب العربيّ من جامعة تشرين ، و أثناء متابعتي لمرحلة الماجستير في الأدب المقارن ، كنتُ قد عملتُ في إحدى مدارس العراق لسنتين متتاليتين ما زلتُ أذكرها بشوقٍ ، فأذكرُ عندما عيّنتُ مدرّسةً للغة العربيّة هناك للمرحلتين الإعداديّة و الثّانويّة ، وقد كانت أعمار الطّلاب تتراوح بين الثانية عشر و الثامنة عشر .
ليس من السّهل أبداً أن تدرّس الشّعر العربيّ لأبناء العراق ( أرض الشّعر ) ، فكثيراً ما كنتُ أخوض النقاشات مع طلابي في قصص حياة الشعراء و الأدباء العرب و نتاجاتهم بأسلوب يحبّب إليهم المطالعة كفكرة مبدأية في حياتهم العلميّة و الشخصيّة .
و لأنّني كنتُ أصغر أفراد الطّاقم التدريسيّ في المدرسة ؛ كنتُ أحظو بحبّ الطلبة و صداقتهم حتّى غدوت بيت أسرار بعضهم وما زلتُ سعيدة و فخورة بذلك حتى يومي هذا .
و أعترف أنني قمتُ باستغلال محبّتم الكبيرة لي استغلالاً مشروعاً حسب اعتقادي ، فحوّلت دروس التّعبير الإنشائي التي كانت دروس فراغ و تسلية لهم يتمتعون بها بالنوم الهنيء على المقاعد أو بالتهام الطعام المُخبّأ في الحقائب ، إلى دروسٍ جديّة مخصّصةٍ لدراسة الأعمال الأدبيّة العربيّة في العصر الحديث ، فكنتُ على سبيل المثال أوكل إلى كلّ من طلاب الصّف الواحد كتابة بحث بعدّة صفحات عن كاتب عربيّ أحدّده لهُ مسبقاً ، و كنتُ شديدة جداً في هذه الدروس مما أثار ريبة الطلّاب ، فقد كسرتُ أحلامهم التي عقدوها على ملء حصة التّعبير باللهو و المزاح .
حتى قال لي أحدهم ذات مرّة ” ست نحن لسنا طلاباً متخصصين بدراسة الأدب العربي ، ولسنا طلاب جامعة ، نحن طلاب مدرسة فقط “
فأجبته ” لكنّك تحمل الهويّة العربيّة و من العار أن تُسأل ذات مرّة عن رموز الأدب في بلادك و تقف صامتاً بلا جواب و أنت ابن أرض المتنبي و الجواهري و أحمد مطر و بدر شاكر السيّاب ”
و بعد مرور بضعة أشهر لعملي في المدرسة هذه و اطّلاعي على المنهاج العراقيّ للمرحلتين الإعدادية و الثّانويّة ، لمستُ قوّة المنهج الأدبيّ و اللّغويّ ، و رأيتُ بعيني متانة سلسلة دروس القواعد العربيّة التي تدرّس لطلاب الثّالث الثّانوي بفرعيه العلميّ و الأدبيّ .
غصّة دفينة كانت تملأ قلبي كلّما تصفّحتُ كتاب ” الأدب ” للثالث الثانوي ، لم أستطع الخروج من جلد الأنوثة مهما حاولتُ ، فكنتُ أبحثُ مراراً في الكتاب عن قصيدة ما لشاعرة عربيّة زاحمت الرّجال في السّاحة الشّعريّة .
كنتُ أبحثُ عن عربيّة ثائرة على التقاليد البالية و الجهل الذي يغزو منطقتنا العربيّة ، تصرُخُ ضدّ معاناة المرأة العربيّة كما صرخ سميح القاسم و محمود درويش ضد الصهيونيّ .
كنتُ أبحثُ عن شاعرة عربيّة تدافع عن حقّها في الحبّ بصوت جهور ، ليقيني أنّه حين تُقيّد المرأة عن الحبّ تُقيّد عن حبّ الحياة و الأشخاص . عن شاعرة أُنثى يقرؤها طلّابي في كتبهم ، تعلّمهم حبّ الوطن و الحريّة و القوّة بصوتها العربيّ الدافئ .
نازك الملائكة هي الصوت الأنثوي الوحيد مع فدوى طوقان الذي وجدته في منهج الثالث الثانوي في قسم ” مدرسة الشعر الحرّ ” ، قصيدتها ” مرّ القطار ” مطلعها :
اللّيل ممتدّ السكون إلى المدى
لا شيء يقطعه سوى صوت بليد
-سبق و أن شبّهني أصدقائي و أساتذتي بنازك ؛ لتقاطُعنا في المسيرة الدراسية و لتشابُهنا في الحساسية المفرطة المتعبة على حسب وصفهم .
فقد كانت بكر والديها كما كنتُ أنا أيضاً ، نشأت في عائلة مولعة بالأدب و القراءة ٢٣ أغسطس ١٩٢٣ ، نازك التي أراها مثالاً للمرأة التي أشتهي أن أكون ، كانت قد سُمّيت باسمها تيمّناً بالثّائرة السّوريّة ” نازك العابد ” التي قادت الثوار السوريين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في ذات العام ، لتولدَ ثائرة على التخلّف بعون والدها الأديب و مدرّس اللّغة العربيّة الباحث صادق جعفر الملائكة . عندما كنتُ أحدّث طلابي عن سيرة نازك و حياتها و جدتُ نفسي أروي الكثير من سيرتي ، فكان لها أمّاً كاتبةً درّبت ابنتها على جميع عروض الشّعر وأوزانه كأمّي ، لتبدأ نازك كتابة الشّعر و هي في العاشرة .
درست في قسم اللغة العربيّة في بغداد ، كما درستُ أنا ذات اللغة التي عشقتُ في اللاذقية ، و كما أكملت الملائكة ماجستير الأدب المقارن في أمريكا ، أكملتُهُ أنا في موسكو .
وعندما تحدثتُ عن رفض نازك مصطلح الأدب النسوي ، بكلّ صدق كنت أتكلّم عن قناعاتي التي مازلتُ مليئة بها ، فالأدب أدبٌ و لن يتجزّأ يوماً إلى نسويّ أو ذكوريّ ، فالأدب أدب الإنسان و الانسانيّة فقط .
رأينا كيف اكتفت نازك بالتوصيف الفنيّ الذي وصفت له الأرضيّة النقديّة بنفسها حين كتبت كتابها النّقدي “قضايا الشّعر المعاصر “
و رأينا كيف سار على نهجها النقديّ كلّ من جاء بعدها من شعراء قصيدة التّفعيلة .
نازك المقاتلة ضدّ التقاليد البشعة صرخت بوجه الظّلم فقالت :
إنّ قيدي عار
و جمودي انتحار
-كما يروي جميع من عرف نازك أنّها كانت وجدانيّة حدّ الإفراط ، فهي إنسانةٌ أوّلاً ، و عربيّة ثانياً ، اختلطت روحها بآلام الأمّة العربيّة فعاصرت ثوراتها و أيّام تحرّرها ، كما اختلطت روحي أنا بحزني على دمشق و وجعي على ذكرياتي التي ضاعت مع رائحة الياسمين الشّامي في حارات دمشق القديمة .
نازك التي كانت ملهمةً لكلّ الذين عرفوها نشرت مجموعتها الشّعريّة الأولى ” عشّاق الليل ” عام ١٩٤٧ ، فكتبت قصائدها على الشّكل العموديّ ، فكانت ردّة فعل هادئة على توحّدها الخاص مع الطبيعة .
وفي نفس العام نشرت قصيدتها الأشهر ” الكوليرا ” إزاء تفشيّ مرض الكوليرا في مصر وارتفاع عدد الوفيات به ، فقالت ” خلال ساعة واحدة انتهيت من كتابة القصيدة ، وركضت مسرعة إلى بيت أختي إحسان ، فقلتُ اها لقد كتبتُ شعراً مختلفاً من حيث الشّكل و سوف يسبّب جدلاً كبيراً ” . نعم صدقت نازك فلقد أثارة قصيدتها هذه سخرية والدها و استهزائه متوقّعاً لها الفشل ، فردّت عليه ” قُل ما شئت أن تقول ، إنّني واثقة من أنّ شعري سوف يغيّر خارطة الشّعر العربيّ ” .
كانت رؤيتها صحيحة فها قد غدا الشّعر الحرّ هو الأشهر و الأحبّ لقلوبنا ، و بالرّغم من أنّها أوّل من كتب شعراً حرّاً لكنّنا لا نستطيع اعتبارها قائدة لهذه المدرسة وحدها ، فكثير من الصحف العربية و العراقية تحدّثت عن حرب اشتعلت بين نازك و بدر شاكر السيّاب حيث قام السيّاب بنشر قصيدته ” هل كان حبّاً ” عام ١٩٤٦ أي قبل نازك بعام ، لكنّ نازك عادت و اعترفت أنّ لها محاولات شعريّة بالشّكل العموديّ منذ عام ١٩٣٢ .
عام ١٩٣٢ ألقت محاضرة في نادي الاتحاد النسائي بعنوان ” المرأة بين قطبي السلبيّة والأخلاق ” حثّت فيها المرأة العربيّة على رفض السلبيّة التي تعيشها في المجتمع العربيّ ، و في قصيدة ” غسلاً للعار ” تطرّقت إلى جرائم الشّرف فنالت انتباه الإعلام العالميّ و أسّست جمعيّة للنساء اللواتي يرفضن الزواج . قالت فيها :
وانبجث الدم واختلج الجسم المطعون
والشعر المتموِّج عشش فيهالطين
(اماه) ولم يسمعها إلا الجزار
وغداً سيجيء الفجر وتصحوالأوراد
والعشرون تنادي والأمل المفتون
فتجيب المرجة والأزهار
رحلت عنا… غسلاً للعار
-استمرّت نازك بالكتابة حتى آخر لحظاتها في القاهرة حيث دفنت ٢٠/٧/٢٠٠٧ ، فكتبت أكثر و أكثر عن الذات و امتازت كتاباتها بالرومنسيّة الفرديّة ، فكانت لها فلسفتها الذّاتيّة ، و تحدّثت عن تجربتها مع الاكتئاب ضمن سيرتها الذاتية عندما كتبت ” كما أذكر لقد غصتُ عميقاً في التّحليل النّفسي ، و قد اكتشفتُ أنّني لا أجسّد او أعبّر عن أفكاري و مشاعري كما يفعل الآخرون من حولي ، لقد اعتدتُ الانسحاب و أن أكون خجولة ، و قد اتّخذت القرار بأنّني سوف أنتقل من هذه الطّريقة السلبيّة في العيش ” .
لقد كان الحزن صديق طفولتها بعد وفاة والدتها التي كانت صديقتها الوحيدة فقالت ” بعد وفاة والدتي بقيت أبكي ليل نهار حتّى صار الحزن مرضي و تجاوز ذلك إلى حدّ الاكتئاب ” .
لقد غدت نازك صوت المرأة العربيّة البكماء عنوةً و غصباً ، فجعلت للأنوثة العربيّة دوراً أساسيّاً في اللّغة ، أضافت للحداثة لوناً نسوياً جذّاباً ، وكسرت الحدود بين ما يُقال عنهُ شعر أنثويّ و ذكوريّ .
* كاتبة وباحثة سورية مقيمة في موسكو