كاظم حبيب
البصرة الحزينة .. البصرة المنتفضة .. فما العمل؟
منذ إقامة النظام السياسي الطائفي الفاسد في العراق عام 2004/2005 والبصرة الفيحاء بشعبها الأبي المقدام والمسالم والمحب للحرية والحياة الديمقراطية والعاشق للمسرات والموسيقى والغناء والطرب عموماً، والرافض للعنصرية والطائفية والتمييز بمختلف صوره، البصرة بشبيبتها الأبية المتسمة بالحيوية والابداع والحركية الفاعلة، وبمبدعيها المثقفين من علماء وأدباء وشعراء وفنانين تشكيليين ونحاتين ومسرحيين وموسيقيين ومطربين، البصرة الباسلة تعاني مع شعبها من حزن عميق متراكم عبر السنين، من حزن تسبب به الاستبداد والحروب والحصار من جهة، والتدين المزيف والأجوف والطائفية المقيتة ومحاربة الفنون الإبداعية من جهة ثانية، ثم الهيمنة الإيرانية، بأحزابها الإسلامية السياسية الشيعية وميليشياتها الطائفية المسلحة، بالحرس الثوري وفيلق القدس القادمين من وراء الحدود من جه ثالثة، بعملائها وجواسيسها العراقيين والعراقيات وعيونها المبثوثة في كل مكان، بحسينياتها الطائفية الداعية للفرقة والفتنة، ومكاتبها الاقتصادية والتجارية النهابة للثروة العراقية، بجماعات الجريمة المنظمة المهربة للمخدرات عبر العراق وللعراق ذاته، بعلاقتها بمقامات حكومية متخصصة في إيران، إضافة إلى فرق الاختطاف والسجن والتعذيب والاغتيال للمدنيين والمدنيات النشطاء والعلماء والنقابيين والصحفيين والإعلاميين المعارضين للوجود والدور الإيراني المهيمن على سياسات وقرارات الدولة العراقية، أو قيام هذه القوى بنقل المختطفين إلى إيران ووضعهم في سجون خاصة لأغراض أخرى من جهة رابعة. هذا هو الواقع المهيمن على المسرح السياسي العام في محافظة البصرة وفي ذي قار وغيرها من محافظات الوسط والجنوب وبغداد، إضافة إلى الصراعات العشائرية التي تثيرها قوى بعينها والمقترن بالسلاح المنفلت على نطاق واسع.
هذه الهيمنة التي بدأت بتسهيلات وفرَّها رئيس الوزراء الطائفي الأجوف و”الفيلفوس!” إبراهيم الأشيقر “الجعفري”، وسكوت صارخ من المستبد بأمره بأول بريمر، تفاقمت في فترة حكم الطائفي بامتياز والمناهض لوحدة الشعب العراقي وعزته وكرامته، نوري المالكي، حيث تحول العراق كله إلى بلد تابع فعلياً لطهران وسياسات علي خامنئي وقراراته وفتاويه. وأصبحت البصرة ومناطق حدودية شرقية أخرى ومناطق في كردستان مثل السليمانية وحلبچة معبراً أساسياً للجماعات الإيرانية وأسلحتها وجواسيسها إلى العراق والتحكم به في فترة حكم الجزار عادل عبد المهدي.
منذ فترة مبكرة بعد وقوع الاحتلال الأمريكي البريطاني على العراق وتحقيق المساومة بينهما مع إيران على إقامة النظام السياسي الطائفي المحاصصي، وتسليم قيادة الحكم بيد الأحزاب الإسلامية الشيعية الطائفية الفاسدة، كتبت مقالاً عن البصرة الحزينة ودور الحرس الثوري والمخابرات والأمن الإيراني في البصرة وعموم الجنوب وحذرت من عواقب ذلك لا على محافظة البصرة فحسب، بل على العراق كله، وهو الذي برز بشكل جلي لا يرقى له الشك في فترة حكم الجزار الخبيث عادل عبد المهدي، ولم يختف في فترة حيدر العبادي.
لم يتغير الوضع في العراق عموماً والبصرة والجنوب خصوصاً، عما كان عليه مع مجيء مصطفى الكاظمي إلى السلطة، إلا شيئاً واحداً وصارخاً برز في نهج وسياسات إيران وأتباعها في العراق، وأعني به: ** التحدي العلني والتهديد الصريح والمستمر من قبل ميليشيات طائفية شيعية مسلحة تابعة مباشرة لإيران وموجهة للحكومة الجديدة ورئيسها مصطفى الكاظمي، منها مثلاً ميليشيات كتائب حزب الله الإيرانية في العراق؛ ** إطلاق المزيد من صواريخ الكاتيوشا من قبل ذات الميليشيات ضد مواقع قريبة من القوات الأمريكية الموجودة في العراق باتفاق مبرم بين الحكومتين العراقية والأمريكية، وهو تحدٍ صارخ للحكومة وتحرش مستمر ومباشر بالقوات الأمريكية بهدف إخراجها من العراق لتخلو الساحة لإيران؛ ** تزايد عمليات الاغتيال في مدن العراق ضد الناشطين المدنيين، وأبرزها حالياً في البصرة وبغداد، من جانب ذات الميليشيات التابعة لإيران بفرق اغتيال متمرسة ومدربة في إيران؛ ** استمرار نهب ثروات العراق من منافذ حدودية كثيرة واستمرار مزاد العملة الذي ينقل العملة الصعبة العراقية إلى إيران بمختلف الطرق غير الشرعية، إضافة إلى استمرار نهب النفط العراق من جانب ذات الميليشيات ومكاتبها الاقتصادية والمتمثلة في أغلبها، بل كلها ضمن قوات الحشد الشعبي؛ ** قطع المياه القادمة من الأراضي الإيرانية عن الروافد التي تصب في العراق كعقوبة ضد العراق وضد سعيه للحصول على الطاقة من السعودية، أو زيارة الكاظمي للولايات المتحدة الأمريكية والاتفاقيات الكثيرة التي عقدها معها.
وماذا فعلت حكومة الكاظمي بعد مرور كثر من 100 يوم على وجودها في السلطة في مجال الأمن الداخلي واحتكار السلاح بيد الدولة وإزاء ما يجري في البلاد من خطف واغتيال؟
في زيارة مصطفى الكاظمي إلى البصرة اجتمع بالمحافظ والسياسيين المدنيين والقادة العسكريين وأجهزة الأمن والحشد الشعبي، فماذا كانت المخرجات؟ * عدم الاستجابة وتأييد مطلب الجماهير بإقالة المحافظ المتعاون، كما يصرح به المنتفضون، مع الميليشيات الطائفية المسلحة والساكت عن الاغتيالات في المحافظة؛ * تفعيل اللجان المختصة بالتحقيق في جرائم الاغتيالات؛ * إعادة الثقة بين أجهزة الأمن والجماهير الحزينة والمنتفضة؛ * اعتقال من يحمل السلاح من المتظاهرين، مع سلمية المظاهرات، باعتبارها حق مشروع. هل من جديد في كل ذلك؟ أبداً، ليس هناك من جديد. يقول الناس في العراق بحق: إن أردت أن تقتل شيئاً فشكل له لجنة! هكذا كان منذ 15 عاماً، وهكذا حصل مع استشهاد العشرات بل المئات من المناضلين المدنيين، ومع قتلة د. هشام الهاشمي وتحسين أسامة ود. رهام يعقوب مثلاً! والسؤال العادل: هل حقاً لا يعرف رئيس الحكومة ورئيس جهاز المخابرات، أو لا يريد أن يعرف ولا يريد أن يشخص القتلة المجرمين ومن يقف وراءهم، لكي لا يُحرج نفسه ويعجز عن اعتقالهم، لأن الحشد الشعبي بميليشياته الولائية لإيران سينزل إلى الشارع ويطلق سراح المعتقلين، تماماً كما فعل مع الجماعة التي اعتقلت بعد قصف مواقع عراقية-أمريكية بصواريخ كاتيوشا بعد فترة وجيزة من وجود الكاظمي على رأس الحكومة، أو مع الضابط ومساعده اللذين استخدما بندقية صيد لقتل المتظاهرين!!
يبدو للناس في العراق وخارجه أن هناك عملية ضحك على ذقونهم. وحين يرى الشعب بأن الحكومة لا تفعل شيئاً حقيقياً لوقف نزيف الدم ووقف نهب المال العام ووجود كبار الفاسدين في كل مكان، يبدأ غضب الناس في التحول إلى فعل مباشر كما حصل في البصرة حيث تم حرق مكاتب في البرلمان البصري، أو ما حدث في الناصرية حيث تم تجريف مقرات أربعة أحزاب وميليشيات متهمة بعدائها للانتفاضة واعتداءاتها المستمرة ضد المتظاهرين في ساحة الحبوبي. إن الشيء الوحيد الذي يوقف مثل ردود الفعل هذه، يكمن في اتخاذ الحكومة إجراءات فعلية ضد القتلة المجرمين ومن يقف وراءهم، وليس تشكيل لجان لا تصل إلى النتائج المرجوة والواقعية أبداً، في حين يمتلك رئيس جهاز المخابرات كامل المعلومات عن القتلة الفعليين والقوى الموجهة لهم، لكنه لم يجرأ حتى الآن على اتخاذ الموقف اللازم اتخاذه. إنها محنة الكاظمي، وهي في الوقت ذاته محنة الشعب معه!
لن يقبل الشعب المنتفض بعدم معالجة الحكومة للمشكلات القائمة بجرأة ومروءة، ولن يقبل بأنصاف الحلول التي كما يقول المثل العراقي “لا تطير ولا تنكض بالإيد”، التي تبقي على القتلة والفاسدين ومطلقي صواريخ كاتيوشا يسرحون ويمرحون ويمارسون مهماتهم الجبانة والمريعة التي كلفوا بها من إيران بكل حرية وفي وضح النهار ودون أدنى خوف من اعتقال أو محاسبة!!!
للصبر حدود يا رئيس مجلس الوزراء، الحزن البصراوي يتفاقم يوماً بعد أخر، وينتقل يومياً إلى أنحاء أخرى من العراق ليتحول من جديد إلى غضب عام وعارم، لتنطلق الانتفاضة السلمية الباسلة ومن جديد بكل قوة وحزم وإصرار، رغم وباء كورونا، لتعيد ترتيب الأمور مجدداً. فالشعب لا يمكن أن يقبل استنزاف قواه بالقتل اليومي لأبرز نشطاءه المدنيين وقادة الحراك الشبابي، كما حصل للسيد الشهيد تحسين أسامة وللسيدة المقدامة والشهيدة البطلة الدكتورة رهام يعقوب، بنت الفيحاء المغدورة. إن قوة الانتفاضة الشعبية في عدالة القضية التي تناضل من أجلها وفي سلميتها، وفي تعاظم الجماهير الواعية الملتحقة بها، وفي قدرتها على تغيير ميزان القوى لصالح القوى الساعية لتغيير النظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع إلى نظام سياسي حر وديمقراطي، نزيه وعادل، يحترم الإنسان المواطن والمواطنة وحقهما في الحياة والعمل والكرامة والمساواة.