العلوم الإنسانية وإعادة الاعتبار
عبد الحسين شعبان
أثارت الموجة العنصرية الجديدة التي اندلعت في الولايات المتحدة إثر مقتل جورج فلويد، وامتدت إلى عدد من بلدان أوروبا، ردود فعل غاضبة ليس بالاحتجاج فحسب، وتدمير التماثيل التي ترمز إلى الماضي العنصري؛ بل ذهبت المسألة أبعد من ذلك لإعلان «فشل» الديمقراطيات الغربية، لاسيما في ظل الشعبوية «الأوليجارشية» التي هيمنت على العديد من دول العالم الغربي ابتداء من وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017، وصولاً إلى عدد من دول أوروبا الشرقية والغربية.
لقد كشف تفشي وباء كورونا هشاشة الأنظمة الصحية والاجتماعية والرعائية للعديد من المجتمعات، وكان الأمر مريعاً للفئات المحدودة الدخل والطبقات الفقيرة، فبجرة قلم جرى تسريح ملايين العمال وصغار الموظفين من أعمالهم، ليجدوا أنفسهم في وضع معاشي وصحي ونفسي لا يحسدون عليه.
وإذا كانت مبادئ المساواة والعدالة، تشكلان معيارين أساسيين لأي نظام ديمقراطي، فإن واقع الحال يكشف الهوة السحيقة بين النظرية والتطبيق، خصوصاً بارتفاع وتيرة العنصرية والعنف والإرهاب والنزاعات والحروب على المستوى العالمي، بما ينعكس سلباً على التنمية البشرية بكل أبعادها، ليس في الغرب وحده، وإنما في بلدان العالم الثالث بشكل خاص، ومن ضمنها بعض البلدان العربية، فكيف يمكن عبر العلوم الإنسانية، رد الاعتبار للتفكير بطرق عقلانية جديدة متنوعة لتجاوز الأزمة الراهنة، ومواجهة التحديات الكبيرة والعميقة.
وثمة حقائق جديدة أفرزها التطور في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويتطلب ذلك إعادة النظر في العديد من المنطلقات؛ بل يستدعي اقتراح سبل جديدة تتناسب وتوسيع حضور وتأثير العلوم الإنسانية لتتساوق مع المتغيرات الكونية في مجالات العلوم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية «الديجيتال»، خصوصاً في ظل الطور الجديد من الثورة الصناعية الرابعة.
كما يترافق هذا التطور المتسارع مع ارتفاع نسبة الشباب المنفصلين عن مجتمعاتهم، والذين يشكلون بيئة خصبة للتعصب والتطرف والعنف والإرهاب، لا سيما في ظل مناهج دراسية وتربوية يكاد يكون فيها حيز التسامح معدوماً أو محدوداً على أقل تقدير، إنْ لم يكن نقيضه سائداً، حيث يرتفع منسوب اللاتسامح وتتسع دائرة الإقصاء والإلغاء والتهميش، في ضعف أو غياب مبادئ المساواة وشح الحريات، وهزال الشعور بالمواطنة، واستمرار نهج التمييز ضد المجموعات الثقافية الدينية والإثنية واللغوية والسلالية، وكذلك التمييز ضد المرأة والفئات الضعيفة.
وكنت قبل سنوات قد شاركت في مؤتمر دولي انعقد في مدينة سوون (كوريا الجنوبية)، وهو امتداد لمؤتمر إقليمي التأم في جبيل (بيبلوس/لبنان) لمناقشة مستقبل العلوم الإنسانية في محاولة ل«إعادة الاعتبار للإنسانيات»، وذلك بما هو متصل بالمناهج والمقاربات والإنتاج العلمي وغيرها، وشملت موضوعات مختلفة مثل: الحق في الأمل واللغات، والثقافة والتاريخ، وكان ذلك بتحضير من اليونيسكو، ومساهمة جهات محلية ودولية، حيث ارتكزت رؤيتنا على ثلاثة أهداف رئيسية، أولها: التفكير في رؤية عربية لمستقبل الإنسانيات، وثانيها: تنمية العلاقة بين الأكاديميين العرب والمؤسسات الوطنية والإقليمية، وثالثها: توفير إطار للمبادرات وخصوصاً في الجامعات، مع التركيز على التعاون العلمي الدولي، بهدف زيادة فاعلية دور العلوم الإنسانية على المستوى الكوني، كما انصب النقاش على قضايا الفلسفة والتاريخ والفنون والآداب والأنثروبولوجيا والتراث الثقافي ووسائل الإعلام.
وحيث تشغل الفلسفة والتاريخ حيزاً كبيراً في بحث العلوم الإنسانية في المنطقة العربية، فإنها منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، وخلال قرن من الزمان شهدت ثلاث صدمات تاريخية أولاها «صدمة الاستعمار» وتأثيراتها المستمرة، و«رد الفعل» الذي أعقبها، خصوصاً في الموقف من الحداثة ومتفرعاتها (العقلانية والليبرالية والعلمانية)، وصدمة النكبة بعد تقسيم فلسطين وقيام «إسرائيل» عام 1948، وصدمة النكسة في 5 يونيو/حزيران عام 1967، لجهة عسكرة بعض المجتمعات العربية، ومقايضة التنمية والديمقراطية بمواجهة العدو، وقاد ذلك إلى التعصب والتطرف وبعض الاتجاهات اللاعقلانية، ولم يكن ذلك بعيداً عن العامل الخارجي الذي بقي يتشبث بمواقفه ومحاولاته لفرض هيمنته، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
لقد اعتمدت ثقافتنا على الفكر التبشيري التلقيني التقليدي الذي عطل دور العقل التساؤلي النقدي في المقاربات الإنسانية والمجتمعية، بما في ذلك نقد الذات والآخر؛ أي نقد تراثنا والتراث الاستشراقي، وهو ما يحتاج إلى مراجعات ضرورية لتقديم رؤية متحررة واستشرافية، بتوفر أجواء من الحرية، وخصوصاً حرية البحث العلمي، والتوجه إلى إنتاج المعرفة من خلال التواصل مع العالم، والاستفادة من كل المنجز الحضاري الكوني، لبناء جيل جديد من الأكاديميين العرب المختصين في الإنسانيات.