إهداء
إلى الأشجار الباسقة، ذات الافياء .. والذكرى ودروس الأيام
ضرغام
4
مقدمة
تزرع الشعوب أشجار السنديان لھدفين: الأول من أجل صفھا على طرفي الطريق لغرض تعينھا كعلامات دالة على الدرب، بسبب ضخامة السنديان وارتفاع ھاماتھا وصعوبة زحزحتھا من موقعھا، ثم لسعة أفيائھا. ويقال أن نابليون كان يزرع السنديان لسير في أفيائھا الجنود ..! أما غابات السنديان فزرعت في العصور السالفة والمعاصرة لصلابة أخشابھا إذ تستخدم كسقوف للبنايات التي يراد أن تعمر طويلاً،
وحقاً فإني قد شاھدت شخصياً بيوت مشيدة من السنديان قد ع ّمرت لمئات السنين.
كنت قد كتبت في السجن القصة الأولى في ھذه المجموعة: لعبة الكريات الحديدية، وھذا العنوان لا علاقة له البتة برواية الكاتب الألماني ھيرمان ھيسه كما قد يتبادر على الذھن، فالتشابه مع رواية ھذا الكاتب العملاق لعبة الكريات الزجاجية، ليست سوى مصادفة كما سيتأكد القارئ بنفسه، وھي لعبة سيزف العصر، أينما كان وليس بالضرورة أن يكون ذلك في السجن، إني أقصد أن إنسان العصر يتعذب في السجون على أيدي المحققين الذين يحاولون عبثاً سلخ ھذا الآدمي عن آدميته، إن سلخ الإنسان عن قضايا
وطنه ھي عملية سلخ عن إنسانيته.
قصة نجمة في سماء بغداد، ھي قصة رفيقي وصديقي المناضل البطل عبد الودود عبد الجبار عضو قيادة المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي قضي في معتقلات التعذيب، وإني لم أبالغ قيد أنملة في وصف ودود الرفيق، الصديق، والأخ.
وكذلك قصص إسماعيل ميكانيك، العامل المناضل في تنظيمات المكتب العمالي للحزب، والمقاتل الأسطوري فائز سعود علوان الذي استشھد على مداخل الفلوجة 2005 . إن أبطال ھذه القصص ھم موجودون بيننا الأحياء منھم والشھداء، فھم سنديانات طريق شعبنا وأمتنا، إن الإنارة الحديثة ألغت الحاجة إلى المشاعل، ولكن الحاجة للسنديان أبدية، كعلامات للطريق وأعمدة للبناء وخشب بناء، وأفياء ينعم
بظلالھا الأطفال والعشاق، والمناضلون، وكل من يسعى للخير. العرب في البوادي يختارون أصلب الأعمدة لتكون عمود الوسط في الخيمة، ويطلقون عليه عمود الدار ..
ھؤلاء ھم أعمدة بيتنا … ھؤلاء ھم سنديانات طريقنا … إنني أقدمھم بتواضع لشعبنا… ولكن بفخر كبير ھؤلاء من قدموا حياتھم لنا ورحلوا بكبرياء تليق بالأبطال، إنھم رموز جيلنا، وعلامات للأجيال القادمة.
لم ولن ننساكم قط أيھا الرفاق والأخوة الأعزاء …! لم ولن نتخلى عن الدرب …! لم ولن ننسى تضحياتكم أبداً …!
المؤلف
5
1
النقيب رشيد صالح
تقعان كل منھما في طرف المدينة الشرقي والغربي، وشاءت الصدف أن توقفت السيارة بناء على إشارة مرورية، وفي تلك اللحظات بالذات، تصادف وقوف سيارة مدنية فاخرة بالقرب من سيارة الجيب، وفي الخلف كانت تجلس سيدة فاتنة الجمال، بالغة الأناقة، فيما يقود السيارة سائق يبدي الأدب في حضور
سيدته.
ورشيد اللطيف المحيا، والحسن الھندام، والذي يوحي مظھره بالجاذبية حليق الشارب، وذلك يمنح وجھه شيء من المرح، لم يكن ليقاوم فتنة السيدة الحسناء فأبدى بملامح وجھه علامة الإعجاب البالغ بالسيدة، وما أن أقلعت سيارتھا، لوحت بيدھا تلويحة خفيفة، وسبقت سيارتھا الفاخرة سيارة الجيب العسكرية، ولكن وباللدھشة وھو يصف ذلك بدقة بالغة، ولكل لفتة ھنا معانيھا العميقة، لاحظ أن السيدة قد أخرجت يدھا إلى ما بعد الرسغ من نافذة السيارة، وانتظرت لحظة، أو أكثر لتجلب الانتباه للسيارة العسكرية التي
كانت تسير خلفھم ثم فتحت كف يدھا المضمومة، فطارت منھا ورقة بيضاء.
أمر رشيد الجندي بإيقاف السيارة وترجل وتناول الورقة من الأرض، وعاد إلى سيارته، وھو يحاول إبداء الرزانة، ابتسم وقال للجندي، أنه يعرف صاحبة السيارة عائلياً، ولكن ذلك لم يكن يھم في شيء الجندي البسيط الذي يقود سيارة الجيب.
كان النقيب رشيد صالح الضابط في سلاح المھندسين في الجيش وتصادف أن خدما معاً مع الملازم نبيل، في منتصف الستينات، ورغم الفارق في السن والرتبة، إلا أن رفقة طيبة كانت بين الشابين، بحكم الثقافة والأفكار المشتركة، والفقرات التي كانا يختلفان فيھا لم تكن لتثير أي نوع من الجفاء، والنقيب رشيد كان ضابطاً ممتازاً،
ورائعاً كصديق وكمثقف.
ذات أمسية، في واحدة من محاولاتھما لإضفاء حياة ذات طابع ثقافي على الحياة الجافة للغاية في الموقع، أنطلق رشيد يتحدث عن حادثة ما تزال تلقي بغموضھا وسحرھا على حياته
وذكرياته.
كان الملازم رشيد قبل حوالي ثماني سنوات يقضي خدمة في إحدى حاميات العراق الكبيرة، وبينما كان ذات يوم يتنقل بسيارة الجيب العسكرية في شوارع المدينة بين مقر الحامية ومدرسة الھندسة العسكرية اللتين
6
فتح رشيد الورقة، فإذا بھا تتضمن ويا للدھشة رقم ھاتف ووقت مقترح للاتصال الھاتفي.
كان رشيد على جانب وافر من الثقافة والذكاء، وحسن التصرف والمعشر، وقد أمضى بعد تخرجه من الكلية العسكرية العراقية سنة كاملة في بريطانيا اتبع فيھا دورة في الھندسة العسكرية، وھو يتقن اللغة الإنكليزية بطلاقة، أضاف كل ذلك له المزيد من المعطيات لشخصيته الممتازة على الصعيد العسكري
والعام، فكان بحق رائع الشمائل واللفتات.
يستغرب رشيد فرص الحياة، فقد تبحث أنت طوال عمرك عن سمكة ذھبية تعج بھا الأنھار فلا تجدھا، وإذا بالسمكة تقفز إلى حجرك وأنت جالس على حافة النھر تفكر في أمر يشغل بالك إلى حد اللعنة في منھاج دورة الھندسة لضباط الصف، وھا ھي السمكة الذھبية، بل سيدة الأقمار السبعة، تقف في طريقك،
بل تمد يدھا لك بطريقة مذھلة
ما ھذه الأقدار …؟
السيدة كانت كما يصفھا رشيد … ليدي، ليدي بكل المعنى الأرستقراطي البريطاني للكلمة، زوجة رجل مشھور ذي موقع وظيف ّي عا ٍل، ومن أسرة باذخة الثراء مشھورة في عموم تلك المناطق. تح ّرى رشيد عن الرجل فعلم أنه يكبر زوجته سناً ببضعة سنوات، أي لا تشكل أھمية معينة، وھو لطيف وعلى جانب
من المرح ومحظوظ في لعب البوكر …….
اتصل بالسيدة، وتكررت اللقاءات العاصفة الحمراء، وأدھشت ُه جرأتھا، فھي كانت تزوره في منزله نھاراً، كانت نھراً جارفاً ھادراً من العواطف …
ـ لم أستطع أبداً معرفة ما لذي يدفع سيدة مثلھا لأن تبحث لھا عن عشيق غير زوجھا …
قال له رشيد، وعندما ألح عليه نبيل، وكان برتبة ملازم في قوات الحدود، كانت سيدة لھا استجابة رائعة مع كل لمسة، ترى أكان زوجھا يبخل عليھا باللمسات، ترى أنه لم يكن يفھم ھذه السيدة الرائعة ..؟
لم تكن تستحسن الاسترسال في الحديث عن حياتھا الشخصية، وجل ما قالته له: دعنا نعيش ما أمكن في الحب والود، ھي تعلم أنه كضابط سيغادر ھذا المعسكر الذي كغيره، محطة من محطات خدمته العسكرية ليس إلا ..
والتقاليد العسكرية تستبعد إقامة علاقة صداقة بدرجة رواية الذكريات بين ضباط من رتب متفاوتة، ولكن رشيداً وجد أن مشتركات عديدة بينه وبين الملازم نبيل، سيما وأنھما كانا يقودان موقع بعيد عن حياة المعسكرات، ويسيران لمدة ساعات في البرية الخضراء ذات الزھور الجميلة، والھواء الطلق يوحي
بالكثير من الانفتاح والانشراح..
ـ إذن فأنت لم تبلغ قرار تلك السيدة …
ـ أبداً… وإليك ما ھو أطرف .. فقد التقيتھا مرة في محلات أورزدي باك في بغداد )محلات فخمة من عدة طوابق( فما كان منھا إلا وسحبتني من يدي إلى سيارتھا التي تقودھا بنفسھا، وأخذتني إلى غرفتھا في أفخم فنادق بغداد، وأمضينا نھاراً يعادل نھارات طويلة …
ولكني لم أرھا بعد ذلك أبداً …
7
وفي جولاتھما في الھواء والبراري الخضراء، ورشيد كان مثقفاً، وذا شخصية متوازنة جداً، وقد أثر في التكوين الشخصي للملازم نبيل بلا شك، تحدثا عن مقتل الرئيس الأمريكي الشاب جون كندي، وعن تركه لأرملة شابة )جاكلين(، كان رشيد يلتقط الحصى من الأرض ويضرب بھا صفحة النھر، ويحاول
أن يجعل الحصاة تنطط أكثر من خمسة مرات فوق صفحة النھر، فالتفت وقال لنبيل ..
ـ انظر سوف لن يمضي وقت طويل حتى وتجد جاكلين لھا عشيقاً، قد يكون الحارس الشخصي لھا، تستبدله حين تمل منه، فالحياة بالنسبة لھا قد أصبحت حقلاً يانع الثمر من الجاه والمال والشھرة، وفوق ذلك جمالھا وتعطش لا ينتھي للحياة ..
ـ أمعقول أن تفعل ذلك أرملة رئيس أكبر دولة في العالم ..؟
ـ ولم لا ..؟ الرئيس مات، وھو الآخر كان يبحث بين النجوم على أسطع النجمات، ستجد ألف من يريدھا وستتخذ من يدخل عينھا وقلبھا عشيقاً ولو لساعات ..
ثم مضى يحدثه عن سيدات شھيرات، ملكات، ونساء جلسن على عروش أمبراطوريات، واشتھرن بقسوتھن، ولكنھن كن يذبن في فراش العشق ذوباناً، ولكنھا قد ترفس عشيقھا إن وجدت نفسھا قد أخطأت في تقييمه …!
وحدث أن التقى نبيل رشيداً بعد أن أذيع نبأ زواج جاكلين كندي من الملياردير اليوناني أوناسيس ..
ـ ھا .. قد تزوجت جاكلين أخيراً .. وودعت التقلب في فراش العشق والعشاق …! ـ لا …. لم يحدث سوى أن أوناسيس نجح بإقناعھا أوناسيس بضمھا إلى مجموعة تحفه .. وھي قبلت الدعوة بجدول عمل وشروط قبل به الطرفان، أن يتحمل طيشھا وفواتير مشترياتھا نظير أن يضم إلى
حريمه أرملة رئيس جمھورية الولايات المتحدة، ونظير أن تقبل ھي حمل اسمه… جاكلين أوناسيس….!
كان رشيد بحكم ثقافته، ورھافة مشاعره وإحساسه، يبلغ أعماق الشيء، ويجد له أصدق التعبيرات، كان يكبر الملازم نبيل بحوالي عشرة أعوام، وھي بحر تجارب واسع لرجل مثله، أبكر في خوض بحار الحياة، قرأ كثيراً، وسافر كثيراً وبذكائه كان يراكم المعرفة والتجربة لتصقل شخصيته، وھو وإن اختلف ربما في بعض التقييمات مع نبيل، إلا أن نبيل اعتبره من الشخصيات التي تركت بصماته على وعيه
وشخصيته.
تأثر نبيل بالنقيب رشيد، وكان حين يتحدث بالقضايا الاجتماعية والسياسية تشعر تماماً بموضوعيته، ورزانة طرحه، ويقترب منك، ولكنه يبقي بذكاء على المسافة الضرورية ….وللرتبة، كان نبيل يدرك تماماً أبعاد ھذه الشخصية، لذلك تواصلت صداقتھما لسنوات طويلة .. لم ينقطع نبيل عن مقابلة رشيد،
فھو يعتبره من أندر شخصيات حياته الحافلة….
??
8
لعبة الكريات الحديدية
تتألف السنة من 12 شھراَ، والشھر الواحد من 30 – 31 يوماَ عدا شھر شباط، الذي يتألف من 28 يوم?اً، عادة، إلا إذا كان حظك رائعاً مثل حظي، فتزيد يوماً واحداً لتص?بح 29 يوم?اً ولتص?بح الس?نة، آن?ذاك، س?نة كبيسة .
ثم أن الشھر الواحد يتألف، أكثر من أربعة أسابيع والأسبوع يتألف حتماً م?ن س?بعة أي?ام والي?وم الواح?د م?ن 24 ساعة، والساعة من 60 دقيقة والدقيقة من 60 ثانية، وبذلك تصبح أنت بلحم?ك الغ?ض أم?ام آل?ة ال?زمن المعقدة، التي تتألف من سنوات وأشھر وأسابيع وأيام وساعات، ودقائق وثواني، ريشة في مھب الريح.
وللزمن س?طوته وس?لطته، ف?لا تس?تطيع اس?تعادة ال?زمن الض?ائع، أو تجمي?ده، أو ت?أخيره، ول?ذلك علي?ك أن تكون دائماً في أتم اللياقة البدنية والفكرية، لكي لا تتأخر حضوراً أو فكراً.
ولكن من أنت؟… أنت ذلك المخلوق الذي ليس بوس?عه أن يعط?ل ق?دوم أي لحظ?ة ولا اس?تعجالھا، وبعب?ارة أخرى، ل?يس علي?ك س?وى الانتظ?ار والقب?ول بمع?ادلات الأم?ر الواق?ع س?واء كان?ت قاس?ية أم لا. ولك?ن لم?اذا لا؟… إنھا دائماً قاسية بدليل أنھا لا تستأذنك، بل أن الأحداث والوق?ائع تحص?ل ف?ي كثي?ر م?ن الح?الات م?ن دون تدخل مباشر منك، وقد يكون في حالات نادرة أو مصادفة لصالحك أو أنك قد تدخلت، بھذه الدرجة أو تلك، في صنع الأحداث، أو في م?ا ي?ؤدي إليھ?ا. ولك?ن ف?ي معظ?م الح?الات ف?أن الري?اح ت?أتي بم?ا لا تش?تھي
السفن. فما عليك سوى الانتظار وإبداء حسن الاستسلام وأدبه.
ًً
أم??ا إذا ك??ان حظ??ك رائع??ا، )وإن??ي س??أفترض ذل??ك لك??ي نمض??ي ف??ي القص??ة ق??دما( وتح??تم علي??ك أن تص??ارع
الفولاذ والزمن لمدة 20 عام?اً، فأن?ك، بع?د تأم?ل، س?تجد نفس?ك أم?ام آل?ة رھيب?ة م?ن الأرق?ام المخيف?ة، وھ?ي عب??ارة ع??ن معطي??ات مج??ردة لا ج??دال ف??ي دقتھ??ا وواقعيتھ??ا، علي??ك أن تتحملھ??ا ب??أي وس??يلة كان??ت، ب??ل أن مقدرتك وشجاعتك تعتمدان على تحمل معطيات ھذه الآلة، فأنت أمام عشرين عاماً من السجن، قضت فيھا السلطات بمصادرتك لأنك مصاب بعمى الألوان، أو لأنك دسست أنفك فيما لا يعني?ك، أو ربم?ا لأن?ك لس?ت
بمستوى الذكاء المطلوب… تصور المطلوب!…
والعشرون عاماً ھذه تمثل ثلث عمر الإنسان، وإذا اعتبرنا أن الثلث الأول من عمره 20 ـ 1 ھي سنوات تحضيرية ليس إلا، وأنت لست مؤھلاً فيھ?ا بع?د عل?ى خ?وض المع?ارك واتخ?اذ الق?رارات، ب?ين طفولة ومراھقة أما العمر الحقيقي فأنه يبدأ من سن العشرين فصاعداً، وھكذا فأن مدة الحكم 20 سنة تمث?ل نصف العمر على أساس أن الإنسان يعتزل العمل ويحال على التقاعد بعد سن ال،60 سنة ويرتك?ز نش?اطه
الحقيقي على مراجعة الأطباء والمستشفيات.
وإليك ھذه التفاصيل المزعج?ة )أذكرھ?ا ل?ك فق?ط لك?ي لا تؤخ?ذ عل?ى ح?ين غ?ره(: 20 س?نة = 240 ش?ھراً، وھ??ي أيض???اً = 1020 أس??بوعاً، وتس???اوي، 7200 يوم???اً )تص??ور س???بعة أض???عاف أل??ف ليل???ة وليل???ه(، و= 172,000 س??اعة و= 7,320,000 دقيق??ة، و = 199,260,000 ثاني??ة، ت??رى م??ا ھ??ي القيم??ة العملي??ة الواقعية لھذه المعطي?ات الفلكي?ة؟… ولم?اذا ھ?ذا الحس?اب ال?دقيق للس?نوات والأش?ھر والأس?ابيع والأي?ام؟…
9
?? ?????????????????طو????..
سنوات ؟… عندما استولت عليك السلطات وصادرتك باسم القانون، قالوا لك: تفضل رجاء، مج?رد خم?س دقائق!… ولكن لاحظ كم استغرقت ھذه الدقائق الخمسة، والمسألة ھي في النسبية!… كانت زوجة العالم الرياضي آينشتاين، تجھل ويا للغرابة مفھوم النظرية النسبية. وف?ي لحظ?ة ص?فاء وھن?اء مع زوجھا، قالت له: أليس من الغرابة أن تكون ھ?ي زوجت?ه، وأن لا تع?رف النظري?ة النس?بية، الت?ي وض?ع زوجھا أسسھا؟، وھنا احتار العالم الكبير، كيف له أن يوضح نظرية لا تخل?و م?ن التعقي?د، وبع?د ھنيھ?ة م?ن التفكيًر، قال لھا وھو يح?اول ب?الطبع أن يق?رب الأم?ر إل?ى أقص?ى درج?ة م?ن مس?توى تفكيرھ?ا ومص?الحھا أيضا!..
قال لھا متسائلاً إن كانت تذكر مرحلة خطوبتھما وكم كانت رائعة بالنسبة له قائلاً: كانت كل ساعة أقضيھا معك تمضي بسرعة وكأنھا دقيقة أو ثانية واحدة. ابتھجت زوجة العالم وأجابت مبتسمة، أن نع?م. فاس?تطرد آينشتاين قائلاً: ولكن بعد مرور سنوات طوال على زواجنا أصبحت كل دقيقة أقض?يھا مع?ك، تع?ادل س?اعة من الزمن. ومع أن ملامح الفرح والابتھاج غادرت ملامح الزوجة، إلا أنھا استوعبت بدقة النظرية النسبية التي أجاد زوجھا العبقري في شرحھا لھا. فزواجه منھا قد لا يبدو لي من نتائجه المنطقي?ة كارثي?اً، لكن?ه ق?د
تحول إلى ساعة زيتية ثقيلة. إذن، بماذا يمكننا أن نشبه حياة السجن؟…
سأقول لك، قولة المجرب العارف، ال?ذي ل?م يفق?د عقل?ه، إذ أن ھن?اك م?ن ي?رى ال?وھج الفت?ان، ولكن?ه يخس?ر
عقله فلا يقدر، بعد ذلك، على وصفه. وھناك من يقابل الوحش الخرافي، ولكنه ل?ن يق?در عل?ى وص?فه، لأن
ً
الوحش، ببساط، س?وف يلتھم?ه ول?ن يبق?ي من?ه ش?يئا. ولكنن?ي مازل?ت ص?افي ال?ذھن متق?د ال?ذاكرة، واض?ح
البصر والبصيرة، برغم أني أنھيت ثلاثة أرباع المباراة )16 جولة(.
دعني أشرحھا لك: السجن عبارة عن مطرقة ھائلة يحملھا وحش خرافي، ھل لاحظت، يوم?اً، ف?ي الأخب?ار
التلفازية صورة الكرة الحديدية الھائلة المستعملة في ھدم العمارات والأبني?ة، إذ تنھ?ال ھ?ذه الك?رة المطرق?ة
ًًًً
على من تصيبھم تھشيما وتحطيما وسحقا. وبقدر الصلابة )ذاتيا( في من تصيبھم المطرقة لمدة معلومة من
ً
السنوات )أتحدث ھنا عن عشرين عاما( وھن?اك م?ن ي?تمكن م?ن مقاوم?ة المطرق?ة أو يتفاداھ?ا، ولكن?ه ق?د لا
ينجح كلياً في مساعيه تلك، فيبدأ بالتداعي والتھشم، بع?د خم?س س?نوات أو عش?ر أو خم?س عش?رة، فيخس?ر
ًًًًً قدرا من تكوينه، كليا أو جزئيا وينتھي الأمر به محطما، كسيحا.
موضوعياً، يعتمد الأمر أيًن تقع ضربة المطرقة، فإن أصابت الضربة الأولى الرأس كان مستوى الضرر، الذي لحق بالمصاب كبيرا )وبالطبع أني أقصد بالرأس ھنا ما أقصد!!…( أو أن لا تصيب الضربات من?ك إلا الأطراف، الأيدي والأرجل، فيكون مستوى الضرر أقل، أو عندما ينجح الفرد بتغطية رأس?ه وأطراف?ه،
فلن تكون تأثير الضربات خطرة، فتنتھي المباراة )وبحسب عدد الجولات(، بأقل قدر من الأضرار.
لنفترض أن ھناك لوحة سريالية من فكر سيغموند فرويد وريشة سلفادور دال?ي، )ك?ان دال?ي مت?أثراً، فع?لاً،
بفرويد(، لنفترض أن الكرة الحديدية تروح وتعود في حركة بندولية رتيبة، ولكنھ?ا قاتل?ة، تزي?ل فيھ?ا دائم?اً
الص?ف الأعل??ى م??ن الج??دار )ط?ابوق أو حج??ارة أو بل??وك( ولكن??ك إذا كن??ت ذكي?اً أو خبيث??اً )لس??نا بص??دد ھ??ذا
الموض?وع الآن(، علي??ك أن ت??درس، بدق??ة متناھي??ة، آلي??ة عم??ل الك??رة الحديدي??ة الھائل??ة وحركتھ??ا، ث??م تس??جل
حركتھا بالثواني، أو ربما بأجزاء الثواني وقد تبدو لك العملية، لأول وھلة، معقدة وصعبة، وقد لا تخلو من
ًً
الملل أيضا، ولكن ما العمل؟.. أنك مرغم عل?ى ذل?ك ف?ي إط?ار الحف?اظ عل?ى ال?نفس والن?وع أيض?ا!.. فھن?اك
ً
مخاطر الانقراض للحيوانات النادرة، أو تلك التي لم يعد وجودھا شائعا!…
بعد أن تسجل بدقة، ومتناھية، كما قلنا، ستجد، لاحقاً، وبعد أن تعتاد على ھذه العملية المعقدة حتى من دون الاعتماد على الحاسوب، إنك قادر على الانتصار عل?ى ھ?ذه الك?رة الحديدي?ة الھائل?ة بس?ھولة وي?ا للعج?ب!..
10
ولك??ن ل??يس قب??ل أن تص??بح ف??ي قم??ة لياقت??ك البدني??ة والفكري??ة، بحي??ث أن??ك س??تجد أن م??ن المش??ين، أو المثي??ر للسخرية أن تدع ھذا الوحش ينتصر عليك، آلة حديد تنتصر على إنسان؟..
لنعد إلى الموضوع… ھا أنت قد أعددت تصوراً واضحاً، وجدول توقيتات مفص?لة ع?ن الحرك?ة البندولي?ة القاتلة للكرة الحديدي?ة، ووض?وح الھ?دف ودق?ة الخط?ة. أم?ران ف?ي غاي?ة الأھمي?ة لنج?اح خط?ة الإف?لات م?ن الوحش الحديد، وھدفك يتناقض مع ھدف الكرة الحديدية، أنت تريد أن تمض?ي ق?دماً ف?ي بن?اء الج?دار، فيم?ا ھدف الكرة ھو تقويض الجدار حتى الأساس، مبتدءاً من الصفوف العليا للجدار )م?ن رأس الج?دار، حس?ب أرقى نظريات التقويض(، وبإجراء عمليـة حسابية )ربما تستغرق بعض الوقت( تحسب فيھا ال?زمن، ال?ذي تقطعه الكرة الحديدية من أعلى ذروة لھا شمالاً إلى أعل?ى ذروة لھ?ا جنوب?اً، ولا ب?د أن يك?ون حاص?ل قس?مة الزمن على اثن?ين ھ?و أقص?ى م?دى تص?ل إلي?ه الك?رة ف?ي حركتھ?ا إل?ى الأس?فل، وھ?ي نقط?ة ملامس?ة الك?رة
لأعلى صف من الطابوق في الجدار. وھنا عليك أن تقيم سباقاً مع الزمن .
سباق مع الزمن؟… ھذا مصطلح لم يخطر على بالي ق?ط حت?ى عن?د ش?روعي بش?رح آلي?ات العم?ل المق?اوم للك?رة الحديدي?ة. إن ق??درات الإنس?ان تتض?اعف بنح??و مثي?ر وتف??وق التص?ور، والمھ?م ھ??و إرادة العم?ل. إن??ي لأرجو من القارئ الكريم أن ينتبه إلى مصطلح سباق مع الزمن، لأنني سوف أعود إليه بمزيد من التركي?ز
والتفصيل.
في السباق مع الزمن، وأنت الآن تتنافس في ذلك مع الكرة الحديدية الھائلة عليك أن تناضل من أجل تش?ييد صفين اثنين يومياً ليرتفع الجدار، فالكرة تزيل صفاً في صعودھا وصفاً عند نزولھ?ا، وإذا نجح?ت ف?ي بن?اء صف واحد فقط، فھذا يعني أنك سوف تخسر المباراة، بعد مدة معينة، بحسب ارتفاع جدارك أصلاً.
إلى ھنا يبدو الأم?ر مح?تملاً، ص?حيح أن?ك، تخس?ر م?ا تش?يده إلا أن?ك، بالمقاب?ل، ل?م تس?مح للآل?ة أن تحطم?ك
ً
نھائيا. ولكن لابد من الاعتراف أنھا أوقفت عملية النمو في جدارك. أما إذا شيدت ص?فين فأن?ك متع?ادل م?ع
الكرة الحديدية، أما إذا نجحت بتشييد ثلاثة صفوف، فستزيل منھا الكرة اثنين، فيبقى لك دائماً ص?ف جدي?د، أي أنك تسجل انتصاراً ولو بسيطاً في المباراة .
ولك??ن ھن??اك احتم??الات أخ??رى للوض??وح، أقص??د إيق??اظ ال??وعي، ھ??و أن??ك ل??و كن??ت عارف??اً بقواع??د الاقتص??اد السياسي فأنك ًستعلم أن ھناك مصطلحاً يسمى الإنتاجية، إنتاجية العمل، أي أن قدراتك الإنجازية يمك?ن أن تتصاعد تلقائيا، أو بالحث، مع إتقانك العم?ل. ف?ي ح?ين لا يحتم?ل أن تغي?ر الك?رة الحديدي?ة )أخلاقھ?ا( آلي?ات
عملھا وإيقاعه لأن في ذلك فساد نوعھا!..
وبناء على ذلك، فأن ارتفاع ًمعدلات الًتشييد أو الحذاقة ف?ي توزي?ع الجھ?د، ف?أن بن?اء ثلاث?ة خط?وط أو أكث?ر خلال حركة البندول صعودا أو ھبوطا، يكون معدل البناء أعلى من معدل التقويض، أي أن الك?رة لا تك?ف في الواقع عن التقويض، ولكنك لا تكف أيضاً عن التقدم وإحراز الانتصارات. أحقاً ذلك ممكن؟… نعم بالتأكيد ، أقولھا لك بلھجة الواثق المجرب.
ولكنني أريد أن أقول لك أمراً آخر، دعنا نشبه التجربة بشيء آخر. لنقل أن?ك ق?د حش?رت ف?ي زاوي?ة أم?ام رماة ذوي وجوه حجرية. وأنني إذ أسر لك نبأ الرجال ذوي الوج?وه الحجري?ة، ك?ي لا تض?ع أي ق?در م?ن الاحتمال بمناشدة ضمير الرماة أو رحمتھم. قلت لك أن وجوھھم حجرية وذلك م?ا يمكن?ك رؤيت?ه والتب?ين منه بوضوح، وما لا تراه ببصرك، ھو أن قلوبھم حجرية أيضاً وذلك مؤك?د بدرج?ة مماثل?ة، ل?ذلك، وكم?ا يفعل رياضيو اليوغا، لا تحاول التركيز على وجوھھم وضمائرھم، بل ركز على نفسك وضميرك، عليك أن تنس??ى، أو تح??اول نس??يان أن ھن??اك ش??عيرات حساس??ة وش??رايين ناقل??ة عب??ر ال??دماغ تجع??ل الم??رء يش??عر بالألم، عليك أن تغير الكثير من المفاھيم. ليس ھناك ما يدعو إل?ى الأل?م بفع?ل عوام?ل خارجي?ة. إن الأل?م،
11
باعتقادي، يحدث، فقط، عندما يشعر الإنس?ان بتأني?ب الض?مير، ھ?ذا ھ?و الأل?م فحس?ب، ول?يس ھن?اك ش?يئاً آخر، أما الوخـز والألم الخارجي، فھو محض ھراء .
أذن، فأنت أمام رماة ذوي وجوه حجرية، أو بالأحرى قلوب حجرية، وبأيديھم بنادق صيد رائعة، وك?لاب صيد مذھلة وكمي?ة ھائل?ة م?ن الخرط?وش. وكم?ا تعل?م ربم?ا، أن الخرط?وش يت?ألف م?ن عب?وة تحت?وي عل?ى ك??رات حدي??د، رصاص??ية، ص??غيرة أو كبي??رة، حس??ب عي??ار الخرط??وش فق??د تض??م الخرطوش??ة 12 ك??رة رصاصية أو أكث?ر، 24 أو 50 أو ربم?ا ثلاث?ة أو أربع?ة ك?رات فق?ط إذا كان?ت مخصص?ة لص?يد حيوان?ات
قوية مثل الفيلة أو الأسود والنمور.
والخرطوش له أسماء وأرقام كثيرة ومعرفتھا، ومعرفة آليات ًانطلاقھ?ا مھم?ة ج?داً لك?ي تخف?ف م?ن وقعھ?ا عليك. فھناك سنة بسيطة وسنة كبيسة وأسماء أثني عشر شھرا وسبعة أيام وأربعة فص?ول وأزمن?ة، س?اعة ودقيقة وثانية، ھل تعلم ما وقعھا عليك؟…
لن أغضب، إن كنت تجھلھا، فأنا نفسي، الذي أجلس في قدر الضغط الع?الي س?نوات طويل?ة، ل?م أك?ن أدرك حركتھا المحورية الدقيقة. وإلي?ك مث?ال عل?ى ذل?ك: ق?الوا ل?ك ي?وم الق?ي الق?بض علي?ك )ي?وم مص?ادرتك(، إن الأمر لن يستغرق أكثر من خمس دقائق، وھا ھم يعتصرونك، ويتعاملون معك وكأنك رقماً لا قيم?ة ل?ه ولا معنى ھنا للألم النفسي وتوجه لك الإھانات في مسرحية ھزلية لا نھاية قريبة لھ?ا، وأن?ت تنتظ?ر نھاي?ة ھ?ذه
المھزلة، مھزلة تعرضك إلى ألم خارجي تافه )ھم يعتقدون أنھم يلحقونھا بك(.
وقد ينھال عليك أحد الأوغاد مس?تخدماً، ك?القرود المتط?ورة، أطراف?ه العلي?ا والس?فلي، ھ?و إنس?ان ف?ي ھيئت?ه الخارجية، ولكنه تحول إلى حيوان متوحش ضار، بس?بب المھن?ة والتربي?ة والج?و المح?يط ب?ه، ربم?ا بس?بب إعجاب دفين بالمھنة وعداء كامن للجنس البشري، أو ربما بسبب خطأ عابر من الوالدة!!.. والله أعلم!..
ھا أنت تقف، الآن، أمام سد من سدود الرمي وميادينه، أمام دريئ?ة )إن كن?ت عس?كرياً، فس?وف تفھ?م معن?ى ھذه المصطلحات(، ويبدأ الرماة بالتصويب عليك، وينھال علي?ك الخرط?وش م?ن العي?ارات كلھ?ا، س?نوات، فصول، تمر عليك، أش?ھر، أس?ابيع وأي?ام وس?اعات ف?ي أوض?اع ومواق?ف كثي?رة، ودق?ائق طويل?ة.. طويل?ة،
وليس نادراً ثواني يكون فعلھا كالثواني، التي مرت على آينشتاين!…
ما العمل؟.. كيف تنجو من خراطيش مليئة بكري?ات حدي?د أو رصاص?ية كثي?رة م?ن الأحج?ام كاف?ة، ورج?ال حجريين، وبنادق ممتازة؟…
ھ?ل س?ترتدي س?ترة واقي??ة م?ن الرص?اص؟.. ك?لا، ب??الطبع، لأن?ك لا تمتل?ك واح?دة منھ??ا، ب?ل لأنھ?م فتش??وك، وجردوا مقتنياتك البسيطة ليتأكدوا أنك لا تمتلك شيئاً يجعلك قادراً على صنع طائرة مروحية!…
قلت لك قبل قليل، إن الألم الخارجي شيء تافه ووھم كبير. إن من يسلط عليك ھذا الألم يريد أن يوھمك أنه العنصر الأھم في العملية، في حين ينبغي عليك أن تس?توعب أن ذل?ك م?ا ھ?و إلا ف?خ ل?ك ولبص?يرتك، وھن?ا تكمن عناصر قوتك أن تتجاھل الألم الخارجي تماماً، وقدرتھم على توجي?ه الإھان?ة ل?ك، وأن تص?رفھا ع?ن ذھنك نھائياً وأن تفصل نفسك ومشاعرك وأخلاقياتك، بص?فة نھائي?ة، ع?ن ھ?ذا الوس?ط الم?نحط، ال?ذي ي?راد منه دفعك إليه، تجاھله تماماً، أنني سأجعلك تنظر إلى المسألة برمتھا بصفتھا لعبة، وكلما أتقن?ت ممارس?تھا
سيتوقف عليھا انتصارك أو اندحارك وھزيمتك.
12
لاحظ …إن معظم التقاويم الجدارية تتألف من ورقة واحدة، الأشھر فيھا مرتبة على أساس رباعي وتكون بذلك ثلاثة صفوف أو على نحو ثلاثي، وب?ذلك تص?بح أربع?ة ص?فوف، ل?يس ذل?ك مھم?اً، ف?أي كان?ت الح?ال علينا أن نقطع ھذا البحر سباحة اعتمادا على قوة الذراعين فحسب.
عندما ينتھي الشھر الأول )ك?انون الث?اني(، يب?دأ الش?ھر الث?اني )ش?باط(، آن?ذاك، س?يكون علي?ك قط?ع الش?ھر الثالث فقط لأنك تسبح في الشھر الثاني ومع نھاية الشھر الثالث تكون قد أنھيت رب?ع الس?نة، وأن?ت تم?ارس ھذه العملية )واقعياً أنت في الشھر الرابع(، وبمرور أيام معدودة فقط تك?ون ق?د أنھي?ت الش?ھر الراب?ع، وھ?و ما يمثل ثلث السنة، حينئذ، لك أن تقرع على ص?درك الع?امر، وتق?ول: ھ?ا أن?ت ق?د أنھي?ت ثل?ث الس?نة، فيم?ا تكون أن?ت ف?ي الش?ھر الخ?امس، ال?ذي، بمج?رد انقض?ائه تك?ون ف?ي الش?ھر الس?ادس، آن?ذاك، ل?ك أن تص?رخ بجذل: ھا أني قد أنھيت نصف السنة، وبانقضاء نصف السنة فأنك تكون قد نحرت السنة في الواقع، تدغدغ مشاعرك في شھر تموز، الذى مع نھايته تكون في الش?ھر الث?امن، ال?ذي يمث?ل ثلث?ي الس?نة، ول?م يتب?ق منھ?ا
سوى ثلث واحد فقط.
وفي غمرة ھذه المشاعر اللذيذة، تكون قد أنھيت الش?ھر الث?امن، وم?ع بداي?ة الش?ھر التاس?ع تك?ون ق?د أنھي?ت ثلاثة أرباع السنة، أي أنك قد وضعت السنة خلف ظھرك، وأنھيت بكل اقتدار جولة جديدة من الملاكم?ة أو المصارعة انتصرت فيھا لتقول: إن ما بقي لي ھ?و أق?ل بكثي?ر مم?ا ق?د مض?ًى، أو: إن الأم?ر ك?ان ف?ي غاي?ة
البساطة وإذا كانت الجولات المقبلة كلھا على ھذه الشاكلة فالأمر بسيط حقا.
نعم بسيط حقاً، لأنك لا تملك خياراً آخر… ھ?ذا، إن أردن?ا أن نك?ون واض?حين ونت?وخى الدق?ة ف?ي أحكامن?ا، وغير ميالين إلى التلفيق، كما يفعل بع?ض ال?ذين لا تحم?ر وج?وھھم خج?لاً، ولك?ن دعن?ا لا نرك?ز عل?ى ھ?ذه النقطة أفترض انك كنت مبحراً عل?ى ظھ?ر ب?اخرة، ث?م س?قطت فج?أة م?ن س?ياجھا، وھ?ا أن?ت وس?ط المح?يط الأطلسي، فالسباحة حتى البر المقابل ھو خي?ار مجن?ون، طبع?اً، ولك?ن م?ا العم?ل؟… إن الخي?ار الآخ?ر ھ?و أكثر جنوناً، فأنت لا تستطيع، ببساطة، أن ترخي يديك وتسدل ذراعي?ك وت?دع نفس?ك تغط?س كص?خرة إل?ى قعر المحيط، لا سيما أنك تجيد السباحة. تخيل الأمر، أنت في وسط المحيط تسبح على س?طح الم?اء وتخي?ل كم ھو عمق المياه تحتك والوحوش، التي يزخر بھا المحيط، تخيل وحش?ة اللي?ل وأن?ت تض?رب بي?دك عل?ى صفحة الماْء، تخيل كم سفينة مرت قربك أو بعيداً عن?ك ول?م تلتقط?ك لأن?ك لا تمتل?ك ثم?ن الت?ذكرة، أو لأن?ك
نسيت جدول ضرب )9(، أو أحد الأناشيد المھمة ھذه الأيام…
لا فائدة من الحديث كثيراً، فذلك يضيع طاقة أنت بأمس الحاجة لھا… واصل السباحة ثم ضع عيني?ك تج?اه عيون الرجالً الحجريين، وإن لا فائدة ترجى من ذلك، ولكن لتعرف نفسك، في الأقل، أنك لم تھزم لأنك لم تصبح حجريا ولكي تعرف، من الآن، أنك المنتصر في المباراة والجولات كلھا!.. كي?ف؟.. نع?م، أن?ك أن?ت المنتصر، لأنك: لم تصبح حجرياَ، أولاً، ولأنك لم تش?ايعھم ثاني?اً، ولأن?ك ل?م تؤي?دھم ثالث?اً، ب?ل لأن?ك عمل?ت
ضد الحجر!!!… فطب نفساً وواصل السباحة في المحيط الأسود.
الآن، وبعد أن تمتعت بوجبة عامرة منحتك شحنة معنويات، اس?تعد لالتق?اط الك?رات الحدي?د أو الرصاص?ية المص??وبة نح??وك وكلم??ا تق??دمت ف??ي إتق??ان اللعب??ة س??وف يس??تخدم الرج??ال الحج??ريين ض??دك خ??راطيش م??ن عيارات ثقيلة، على أساس معرفة بدائية أكتس?بھا الحجري?ون، أن الخ?راطيش ذات الكري?ات الناعم?ة لا تنف?ذ
في جلدك.
ومثل أبطال الأساطير، عليك أن ترق?ب وأن تق?در الوق?ت ب?ين إم?لاء بندقي?ة الص?يد والتص?ويب ث?م أن تق?در بدقة جھ?ة التس?ديد، تم?د ي?دك وتل?تقط بك?ف ي?دك الك?رة الرصاص?ية، قب?ل أن تلام?س جس?دك ث?م تض?عھا ف?ي جيب??ك، أو أن تض??عھا ف??ي أي مك??ان ولك??ن إي??اك أن تبتس??م بش??ماتة، ف??ذلك يغ??يظ الرج??ال الحج??ريين ويزي??د
عدوانيتھم وشراستھم.
13
لا تحسب الأمر معقداً، ھكذا ھي الأحوال، في الب?دء نظنھ?ا أش?ياء ص?عبة ولكن?ك س?وف تعت?اد عليھ?ا بحي?ث أنھا تصبح، بمرور الوقت، السلوى الوحيدة لك ف?ي ھ?ذا المح?يط الأس?ود أو ھ?ذه الص?حارى القاحل?ة، وأنھ?ا الوس??يلة الوحي??دة لإثب??ات نفس??ك وذات??ك، وھ??ذه الك??رات الحديدي??ة، ص??غيرھا وكبيرھ??ا ھ??ي بمنزل??ة ص??خور ضخمة تحملھا كل يوم إلى قمة الجبل، إذ تسقط من جدي?د إل?ى الس?فح. ل?يس ھن?اك ھ?دفاً مح?دداً، الھ?دف ھ?و مواصلة اللعبة فحسب. ھذا ھو قدر سيزيف في الألفية الثالثة وليس لھذه العملية من نھاية وليس لك أن تلوم
أحداً حتى ذلك الوغد، الذي خانك وقبض ثمن خيانته منصب مدير عام ماسحي الأحذية.
واصل البن?اء، واص?ل الس?باحة، واص?ل التق?اط الكري?ات الحديدي?ة، واص?ل إظھ?ار احتق?ارك وإدانت?ك للقتل?ة والخونة والمرتش?ين والق?وادين وممتھن?ي دع?ارة السياس?ة والسماس?رة والجواس?يس. ل?يس لھ?ذه العملي?ة م?ن نھاية، ليس لك أن تلوم أحداً، فأنت طرحت نفسك ھكذا رقماً غير قابل للصرف، منتوجاً لا سعر له، ورأساً ينبت مثل ذنب الأفعى كلما تعرض إلى البتر. عمرك ملايين من السنوات، إنك لست لحماً ليش?وى ويؤك?ل، أو كومة عظام لتسحق وتطحن… لست عشباً يابساً لتحرق وتذروك الرياح… فكن على ق?در ھ?ذه القض?ية
أيار/ 2002
ضرغام الدباغ
سجن الأحكام الخاصة / سجن أبو غريب
بغداد المنصورة
14
وقدرك…. فكر!..
تحياتي
نجم في سماء بغداد
لذكرى الرفيق الخالد : عبد الودود عبد الجبار
??
عندما كان ودود يرتدى ملابسة العسكرية التي وضع عليھا للمرة الأولى رتبة ملازم، نجمة ذھبية كانت والدته قد اشترتھا له، ويعتني بوضع السدارة في منتصف الجبھة، وتلك عادة يتخذھا الضباط من صغار الرتب، فيما يعمد غالب الضباط من الرتب الكبيرة إلى وضع السدارة بصورة مائلة على الأذن اليمنى،
وأخيراً وضع شيء من العطر ثم ارتدى النظارة الشمسية، وتلك أيضاً من أفاعيل صغار الضباط.
واليوم بالضبط، ً يوم ربيع من عام 1963 انتمى ودود، واسمه الكامل عبد الودود عبد الجبار إلى سلك الضباط متخرجا من الكلية العسكرية الدورة 39، ولكن الأمر بالنسبة لودود لم تكن الجندية مصدر رزق وتعيّش، بل طريق القوة لخدمة ما يؤمن به من أھداف. ولم يكن يقبل أن يوصف بالسياسي، قائلاً: يا أخوان
السياسي يأخذ ويعطي، أما نحن فعصبة سبارتاكوس لھذه الأمة: قتال حتى الموت.
كان ودود شاباً رائعاً، وأراھن أن قلوب فتيات الحي تخفق لرؤيته وإن كان حيھم من الأحياء المحافظة، إلا أ ّن صوت اصطفاق الشبابيك كان واضحاً، وكانت الحالة المادية لعائلة ودود ممتازة، وأخوته ت ّجار معروفين، إلا ودود أنھى الدراسة الإعدادية التي كانت تفيض بالشبان الثوريين، وترسل بھم إلى الكليات والجامعات، ويتفاعل ھؤلاء مع القادمين من أرجاء البلاد، وفي صباحات الخميس وفيما كان التلاميذ
15
يتشوقون النزول إلى بغداد بعد أسبوع مرھق، بيد أن عليھم رغم ذلك الوقوف بالاستعداد تحيةً للعلم وإنشاد:
الجيش سو ٌر للوطن … يحميه أيام المحن أموالنا .. أرواحنا .. تفدى له بلا ثمن … الجيش سور للوطن بلادنا لك الفدا نحميك من شر العدا نذيقه طعم الردى نذيقه طعم الردى إن لم نكن نحن فمن ؟ الجيش سو ٌر للوطن
وھكذا يلتھب الشبان حباً بالوطن بھذه الكلمات المفعمة بحب الوطن والإخلاص للواجب، إلى ھذه الكلية انض ّم ودود صيف عام 1960، ولكنه قبل ذلك بسنوات كان قد انض ّم لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي الحزب أقسم بالوفاء للأمة والوطن، وعندما وصل الكلية العسكرية، التي حولت فيه روحه الجريئة الجسورة، التي اشتھر بھا بين أصدقائه في طفولته وصباه وشبابه، إلى واقع ومحتوى ج ّدي وعملي، كان
قد اختار إلى الأبد طريقه، ونھايته.
ـ عيني ودود، أريد أشوفك قبل أن تخرج..!
وبينما كانت أمه تتملى ابنھا الذي اختار سلك الجندية، وھا ھي تراه وقد أصبح ضابطاً أنيقاً رشيقاً، ولكنھا أطلقت تنھيدة في أعماقھا، كان شيئاً ما يح ّدثھا أن اللعبة كبرت وأن ھذا الولد سار في درب المخاطر، حصان جموح لا يعرف للخوف معنى …اختار الجندية الصعبة. حياة قائمة على النار والقتال.
وفتحت أم ستّار عقدة من القماش، وھي عادة النسوة من الطراز القديم، وأخرجت خمسة وعشرين ديناراً، ودستھا في يد ودود وغمزت بغير حرج ابنھا الكبير عبد الستار مع إشارة من يدھا، أن أعطي أخوك شيئاً، وعندما قبّل ستار أخاه وضع في جيبة مبلغاً، تبينه فيما بعد ودود وإذا به خمسين ديناراً.
ـ أي صنف ستطلب ؟ سأله ستار. ـ سأطلب صنف الدروع أو المظليين.
لم يبدي ستار رضاه عن ھذه الخيارات، فكلا الصنفين، من الصنوف الخطرة، ولكن صغار الضباط يعشقون ھذه الصنوف لا سيما من دخل الكلية مقاتلاً بالفطرة ! ابتسم ستار وھو لا يريد أن يجلب الغم لشقيقة في يوم تحليقه مع النجوم.
خرج ستار من البيت، يتلقى التحيات والتھاني.
ـ ماما، ودود صار ضابط. قالتھا إحدى الفتيات وولت مختفية وراء باب بيتھم. ابتسم ودود، ومن لا يحب الإطراء والإعجاب لا سيما إذا بدر ذلك من غزالة خجولة. ولكن ودود لم يكن من ھؤلاء الشبان الحالمين، يطيرون لھمسة وينھارون للمسة، وحياتھم ھيام وأحلام. أما ما كان يشغل بال ودود في تلك اللحظة
بالذات، ھو كيف سيكون العمل الحزبي بعد التخرج ؟ 16
التقى ودود في باحة وزارة الدفاع، صديقه وزميله في الدورة، الملازم أدھم، وكان رفيقاً حزبياً بلّغه بكلمة
ً
السر، فقريبا.. بل اليوم سيتفرقون في الوحدات وكانت : جنين. وعندما عاد للبيت كان بادي النشوة
والسعادة، سأله ستار عندما التقيا على مائدة الغداء
ـ من المؤكد أنك حصلت على صنف ً الدروع … أليس كذلك ..؟ ـ وكيف علمت ..؟أجاب ودود مبتسما. ـ إن الفرحة بادية عليك، ولا حاجة للسؤال. ـ نعم، اخترت الدروع، وتحديداً كتيبة دبابات المنصور.
لم يكن ستار ليتصور أن فرحة ودود ھي استلامه كلمة سر، وأن رفيقاً عسكرياً سيتصًل به من منظمة كركوك العسكرية، حيث يقع مقر الكتيبة. وعندما التحق بعد أيام قليلة، جرى اتصاله فورا بالرفيق الملازم الأول خضير عباس الذي ع ّرفه على رفاق خليته، وشرح له الموقف الحزبي في منطقة عمل منظمتھم، وكانت الكتيبة تضم عدداً من الرفاق الضباط الممتازين، وإن كان آمر الكتيبة ضابطاً انتھازياً، يتملق البعثيين، وكان مش ّخصاً بدقة من كافة الرفاق. كما كان ھناك مجموعة طيبة جداً من الرفاق ضباط الصف
والجنود الرائعين الذين يبذلون دائماً أكثر مما تتوقع، ويتمتعون بوعي عا ٍل وشجاعة.
لم يدم الحال ھكذا طويلاً، فالصراعات السياسية قادت الأوضاع في البلاد إلى متغيرات خطيرة، حسم الصراع أخيراً لصالح قوى اليمين بتحالفات من داخل الحزب وخارجه، واستغلت عناصر انتھازية ورجعية الموقف وقامت بدورھا في ھذه الأجواء، وبتفاقم الأجواء السياسية التي تضمنت تصفيات، وجد ودود نفسه معتقلاً في السجن العسكري، توقيفاً احترازياً أُطلق سراحه بعد فتره، ولكنه استمر ملاحقاً، مما
اضطره إلى مغادرة البلاد.
ورغم ھذه النھاية السريعة للسباحة مع النجوم، إلا أن والدته لم تخفي فرحتھا، بمغادرة الجيش، بل أنھا كانت أكثر سعادة بقرار سفره، رغم وجع الغربة، إلا أنھا كانت تنام قريرة العين، مطمئنة على حياته.
ولكن ھل استطاع ودود احتمال اللجوء السياسي..؟
ورغم أن الأمر لم يكن كذلك بالضبط، فوجوده في القطر الشقيق ليس غريباً، ولكن أن يودع المرء حياة النضال النشيطة المليئة بالمفاجآت الخطرة، مخاطر قد يألفھا الرجال الذين وضعوا على عاتقھم ھموم الأوطان والأمم وتنازلوا طوعاً عن حياة المتع والرغد، فصار الھدوء والدعة أمراً يثير النفوس،
وكوامنھا.
وثمة أمر آخر…
كان ودود بسبب من تربيته العسكرية، وجموحه وتمرده الدائم، لا يعرف أساليب المناورة ولعبة التوازنات، بل كانت صراحته المعھودة، تسر بعض الرفاق، وقد أضحت من بعض صفاته، ولكنھا كانت لا تريح آخرين. ولما كان لا يريد أن يثقل على أحد لذلك حمل عصاه ورحل، على أوربا، وتحديداً ألمانيا،
كان يريد الالتحاق بالجامعة، ولكن عقله الباطن كان يشير عليه إنما ھذه مرحلة مؤقتة.
واللحظة المواتية ما لبثت أن حلت، فعندما استفاق أصدقاؤه صباح ذات يوم ربيعي، كان ودود قد ترك لھم رسالة، فيما كان قد اتخذ ھو طريقه صوب بغداد، التي وصلھا بعد إجراء اتصالات مع رفاق وأصدقاء يعرفھم، وبدأ العمل.
17
كانت فرحة والدته كبيرة، ولكن تلك الفرحة سرعان ما فارقتھا، فقد أدركت بسرعة، أن ابنھا لم يعد للوطن ليتزوج ويعمل ويستقر ويؤسس أسرة، كان طائر الفؤاد، لا يعرف المكوث في مجلس، كثير الغياب عن البيت، وعندما فاتحه شقيقه بأمر الزواج، قھقه ضاحكاً ومضى مبتعداً، كانت تلك إجابته، وكانت بليغة،
ومنھا أدرك ستار أن شقيقه يسلك الطرق الصعبة ويخوض غمار بحار عميقة.
وكان ودود حزمة من المواصفات الرائعة الضرورية للقائد السياسي، وھو وإن لم يكن عميق الثقافة، بيد أن نزاھته وشجاعته وماضيه النضالي، كانت ضرورية في ارتقائه المواقع القيادية بل بلوغه القيادة الأعلى في التنظًيم العسكري، وكان ذلك بالطبع يعنى ثقل مسؤولياته وواجباته، ثم بدأ الأمر يفرض إيقاعا في حياته وتغيرا في شخصيته، لذلك كان لا بد أن يقتني سيارة صغيرة، كان يقودھا بمھارة فرسان الخيل،
وھو ابن بغداد، الذي يعرف شوارعھا وأزقتھا.
وكثرة غيابه عن البيت أخاف والدته ثم أقلقھا، حتى اعتادت الخوف والقلق، فالمرء يعتاد حتى الھم والقلق، ختمھا ودود بأن استأجر له بيتاً صغيراً وصار يمضي بعض الليالي ھناك وما لبث أن صار يزور بيتھم مجردزيارة،مالبثتأنتباعدت،ولكنهلمين َسالتواجديومالجمعةوتناولالطعاممعالأشقاءوالشقيقات. ولكن حتى ھذه السويعات القليلة، مضت ھي الأخرى بعد الأحداث التي شھدتھا البلاد بعد عام 1968 فبدأت نذر سحب سوداء تتجمع فوق سماء البلاد، سحب مطر ثقيل، وعواصف، وطوفانات، وتلك أيام
على المرء أن يستعد لھا ويتقبل نتائجھا وآثارھا، وأي آثار ..؟
وبعد أول موجة اعتقالات، انقطع ودود حتى عن تلك الزيارات المتباعدة، ولم يعد يتصل بھم ھاتفياً إلا من ھواتف الأكشاك في الشوارع، وامتنع عن زيارة البيت، ولكنه عندما علم بمرض الوالدة، قام بزيارة قصيرة بعد منتصف الليل، أنھاھا بسرعة، ومضى بسرعة تلتھمه أزقة الأحياء، وليل بغداد..!
كانت فتاة ھادئة الملامح، نحيلة، قد استرعت انتباه ودود حيث يقيم في داره الصغيرة، وكانت ملامح ودود، سيارته، وثيابه وطريقة تصرفه تشير على أنه على درجة طيبة من التعليم، أو في مفردات الوضع الاجتماعي، واستنكر ودود طرقة القلب التي ضجت في صدره، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يمنع عيناه من أن تفتشان عنھا عندما يغادر بيته أو عند العودة. بل سرعان ما لاحظ حركة ستائر سريعة في نافذة دارھا،
فأدرك أن سھام الحب قد أصابت كلاھما، وھل ھناك أطيب من أن يشعر رجل أن امرأة تحبه..؟
سرعان ما تفاقمت الأوضاع في البلاد، والغيوم الثقيلة ًابتدأت تسح، كان عليه أن يزيد من حذره، واتباع إجراءات حماية، منھا أن لا بد أن يصطنع لنفسه وضعا لا يثير فيه شبھة الجيران، والمراقبة المحتملة من رجال الأمن، وھنا ف ّكر لأول مرة بالزواج، فھو ليس من صنف يطارد الفتيات في الشوارع، وبالطبع س ّرت الفكرة الوالدة وأشقاءه، ابتسم ودود فقد كان يعتقد أن ھذا الزواج سيكون في مصلحة نشاطه السياسي، وابتسم إذ تذكر رفيقھم فؤاد الذي أحب وتعرف على فتاة وكانا يتمشيان على كورنيش شط دجلة، وھو يحدثھا بلغة الاجتماعات الحزبية : “أنا ألاحظ أن علاقتنا تتطور، وإن الموقف بتفاصيله الموضوعية والذاتية، تقودنا إلى وضع استراتيجية ثورية” فانفجرت الفتاة، وكانت مثقفة، أنھا قد أحبت فيه
الإنسان الرقيق وليس قائد تظاھرة صاخبة ..!
ضحكنا جميعاً عندما أخبرنا فؤاد ھذه الحكاية.
ودود لم يكن يحسن ألعاب الشباب، لذلك فقد استجاب بعفوية لطرقات القلب، وھو يفتقر إلى خبرة زملائه، بل أن تجاربه الغرامية كانت تقتصر على علاقة مع فتاة ألمانية في جامعة ميونيخ تعرف عليھا أثناء دراسته ھناك. ولكن كارين كانت فتاة بافارية، وإقامة علاقة مع زميل لھا على مقاعد الدراسة شأن اعتيادي، لكنھا كانت ترى في ودود شاباً يعيش بجسده في ألمانيا ولكن روحه تحلق بعيداً… بعيداً في وادي
18
الرافدين، على ضفاف دجلة حيث ترعرع، إلى تلك المناقشات الساخنة الصاخبة، تبعاً للمواقف الملتھبة، وما أكثرھا…
سرعان ما أصبحت وفاء الجزء الناعم الوحيد في حياة ودود العريضة، وبعد إعلان الخطوبة كان يحاول أن يخترع الوقت الذي يمضيه معھا. ووفاء لاحظت بقلق المسدس تحًت سترة ودود، ولكنھا لم تكن تعرف أي شيء عن نشاطه السياسي البالغ الخطورة، فقد كان ودود عضوا في قيادة المكتب العسكري للحزب،
وأي تماس مع سلطات الأمن ينطوي على خطورة لا يمكن تقدير أبعاده.
ـ وفاء … أنا لا أريد أن أخدعك، فقد أحببتك بإخلاص، ولكني وباعتباري ضابطاً، لا أعرف متى يستدعيني الواجب فأمضي في طريقي. نحن جنود سور للوطن. ـ ولكنك قد تركت الجيش كما أعلم..! ـ صحيح، ولكن الضابط لا يترك الواجب، بل ھو ضابط في خدمة الاحتياط، قد نطلب للخدمة في أي وقت.
ھكذا كان يحاول ودود أن يطمئن ھواجس وفاء، فھو لا يريد أن يبدو أمامھا محتالاً، كما لا يريد أن يصرح لھا بأي حال عن أسرار عمله، وھكذا فعل …!
كانت الأيام تمضي بالنسبة لودود كمن يسير على حد شفرة حلاقة حادة، الموقف السياسي يزداد توتراً، والسلطة تكشف عن وجه قمعي لا يبقي ولا يذر، والرفاق يلتصقون بحزبھم أكثر، والتوتر يخيم على البلاد، كانت القيادات تتخذ أشد أساليب العمل الحزبي سرية بما ھو غير مسبوق في تاريخ الحزب، بل
كان الرفاق القياديون يبتدعون تلك الأساليب بما يجعل الحزب قلعة يصعب اختراقھا.
وبمرور الأيام، وكانت تمضي مسرعة وكأن الجميع على موعد، نعم على موعد … كل ودوره في ھذه المرحلة التاريخية المھمة. ولا بد أن يبدي بعض الرفاق القلق والبعض الآخر تحسب محمود، ولكن ھناكً تحسب غير محمود بفعل الصيت السيء والإرھابي لدوائر الأمن، وھكذا أصبح الترقب ومفرداته سائدا في الجو، ولعب الرفاق القياديون في الحزب دوراً بالغ الأھمية والضرورة في شد أزر الرفاق للحفاظ على
روح معنوية عالية. ـ أيھا الرفاق سنجتاز المرحلة … سنقدم بعض الخسائر للحفاظ على الحزب والتنظيم.
والحزب يتوقع من جميع الرفاق الصمود واستيعاب المرحلة. ولم يكن ذلك أمراً ھيناً، فالحزب الذي يتربع على السلطة، يحمل ذات الاسم والشعارات والأھداف وكثير من الرموز المشتركة وتاريخ مشترك وإلى قبل سنوات قليلة، كنا وإياھم في تنظيم واحد، لذلك فالسلطة تعرف الكثير من أساليب عملنا، وغالبية
الرفاق القياديين، وطبيعة شخصيتھم.
كان ودود يتحدث مع رفاق قياديين في التنظيم، وھم يعرفون بعضھم معرفة دقيقة، وفي مرات نادرة كان يلتقي فيھا رفيقان قد لا يعرف أحدھما الآخر معرفة شخصية قريبة، ولكن الأسماء القيادية ذات التاريخ الطويل في الحزب تعرف بعضھا عن بعد. كان ياسين أحد ھؤلاء الرفاق الذين عندما التقاھم ودود ش ّد على يده بصفة خاصة، لأنه كان قد سمع عنه الكثير، وياسين كان قد اجتاز مراحل مھمة وصعبة في
العمل القيادي، لذلك كان لقائھما شيئاً يحمل نكھة لا تنسى..!
كان ياسين قد تبلّغ بالعمل مع ودود بعد أواسط عام 1969 وسرعان ما جمعتھما صداقة حميمة بالإضافة للعمل الحزبي، فھناك الكثير من المشتركات بينھما، ولكن ياسين كان لما يزل ضابطاً في الخدمة بالقوات
19
المسلحة برتبة ملازم أول، وكان كلاھما ينتميان إلى ذلك الصنف من الحزبيين ممن لا يھاب المواقف الصعبة، ويحبان الحياة، كان ودود وياسين خارج العمل الحزبي يضحكان بطلاقة يُحسدان عليھا، وقد يتصور من يراھما أنھما لا يحملان أدنى ھموم، كما كان كلاھما في مرحلة الخطوبة، وتلك أحاسيس
يعرفھا من يمر بھذه المرحلة المزھرة قبل حلول موسم الأشواك…!
ولا داعي للقول أن ودود وياسين قد أصبحا صديقين حميمين بعد فترة قصيرة جداً، وكانا يلتقيان خارج العمل الحزبي في لقاءات قصيرة، في أول فرصة ممكنة، وبالطبع كانت أفكارھما وتصوراتھما مشتركة حيال القضايا المرحلية، وكذلك حول المستقبل، في تطور عمل الحزب وتعمق أفكاره الاجتماعية بصفة خاصة، كانا يدركان أن التحولات في حياة الجماھير ذات حجم كبير يستدعي معه المزيد من الوضوح حيال تلك التطورات، ومنھا بصفة خاصة، الموقف حيال المنجزات الكبيرة التي تمت على نطاق الاقتصاد القومي من حيث تنامي القطاع الصناعي بقفزات كبيرة، وكذلك التحولات الكبيرة في الزراعة، ّ من حيث شيوع المكائن والآلات في العمل الزراعي، والتحسن الكبير في استصلاح الأرض الذي وفر أرا ٍض
جديدة ورفع من مستوى الإنتاج الزراعي.
كانت تحولات الحياة كبيرة لا بد معھا من إعادة تقييم الأفكار الاجتماعية للحزب، وھنا يكمن جذر الخلاف في الحزب، وكانت رغبة التطوير والتجديد كبيرة لدى قطاع مھم من قواعد الحزب، ونضيف نحن في الشرق عليھا توابل ذاتية وغير موضوعية فتسخن العلاقات كما لا تستبعد الحماقات صغيرة وكبيرة من ھذا الطرف أو ذاك فيغدو الأمر كله أشبهً بكرة ملتھبة تزداد اشتعالاً كلما لامست شيئاً حتى الھواء
كالفوسفور المشع الجميل ولكن الملتھب دوما.
ومع اشتداد ھجمة القوى القمعية، تفاقم احتمال الخطر على حياة الرفاق القياديين الذينً شاعت أسماؤھم، وبعد اغتيال القائد المظلي الرفيق عبد الكريم مصطفى نصرت نمى إلى التنظيم أن عددا من الرفاق وعلى رأسھم الرفيقان أحمد العزاوي وعبد الودود المرشحان الأكثر توفراً لإلقاء القبض أو الاغتيال، لذلك أصبح وجود ھذان الرفيقان أمر محفوف بالمخاطر الجدية، وكان لا بد من تھريبھما خارج البلاد، وقد انصاع الرفيق أحمد لأمر التسفير، فيما استمر ودود يس ّوف سفره، كان يعد رفاقه، بأنه حج ٌر أصم وبأنه سيصمد
حتى الموت حتى حيال أشد أساليب التعذيب التي اشتھر بھا قصر النھاية.
استلمت خلية يقودھا ودود المؤلفة من الرفاق : ياسين وفؤاد وصباح، العمل القيادي الأھم في منطقة بغداد، وھؤلاء الرفاق كانوا بنظر قيادة التنظيم الأكثر تأھيلاً من حيث خبرة العمل القيادي السري واجتازوا تجارب ومحن كثيرة. وكان ودود يجتمع بھذه الخلية في أوكار التنظيم، ومع أن الأوضاع كانت في قمة توترھا، إلا أن الرفاق الأربعة كانوا يديرون التنظيم بھدوء ورباطة جأش، وثقة بالحزب
وببعضھم.
كان نبأ صدور أمر بإلقاء القبض على ودود قد أصبح معروفاً، بل وأكثر من ذلك كانت دوريات تجوب بغداد وھي مزودة بصورة له، وفي حالات كھذه فإن دوريات الأمن مزودة بأوامر تجيز إطلاق النار، وكان رفاق الخلية يؤكدون على ودود التزام أشد حالات الحيطة، وحصر تنقلاته ومواعيده الحزبية ليلاً فقط، وكان ودود يبدو لھم بالغ الثقة، ساخراً من الأجھزة ومراقبتھا. وذات يوم وفيما كانت تجتاز السًيارة العسكرية وھي تقل الملازم أول ياسين إلى البيت، لاحظ سيارًة تعقب سيارتھم التي كانت تقل عددا من الضباط، وتلك عادة يكتسبھا العاملين في النضال السري تلقائيا، ولم يكن يخطر على بال ياسين أن يقوم ودود بملاحقة السيارة العسكرية في قلب بغداد وھو يؤشر بمصباح السيارة لياسين مع إشارة من يده أن انزل. كان يفعل ذلك وابتسامة عريضة تملأ وجھه. وبشعور يمتزج فيه الغضب بالدھشة، بالشعور بالمزحة، ولكن بربك أي مزحة، ودود الذي تلاحقه دوريات الأمن وياسين الضابط بزيّه العسكري وھو
20
المعروف للقاصي والداني باتجاھاته الحزبية، وإن لم يكن الأمر قد بلغ درجة إلقاء القبض بعد، ولكن ما يفعله ودود ھو مخالفة مرعبة لقواعد العمل السري.
أمر ياسين الجندي سائق السيارة العسكرية بالتوقف وتر ّجل، واتجه صوب ودود الذي كان غارقاً بالضحك، وما أن اتخذ ياسين مقعده في السيارة على جانبه، أن شاركه الضحك. ولكن ياسين ما لبث أن تمالك نفسه : بربك، كيف تفعل ذلك في رابعة النھار وفي قلب بغداد. ـ ألم يكن ذلك لطيفاً ..؟ أن نلتقي بعضنا في قلب بغداد وفي وقت الظھيرة ..؟ ـ دعك من ذلك، إن ذلك ينطوي على خطر كبير ..! ـ شاھدت السيارة صدفة وخطر لي أن أوقفك بھذه الطريقة، وكنت أعلم أنك ستغضب، ولكن لا تخشى شيئاً لن يستطيعوا شيئاً وھذا معي” وأشار على مسدسه برونك ذو المخزن الذي يتسع لخمسة عشر طلقة.
وبعد تبادل بضعة معلومات حول مستجدات الموقف، أص ّر ودود أن يوصل ياسين إلى بيته وكان بينھما ما يتحدثان به كأصدقاء أيضاً، ولكن مساحة الحياة الشخصية كانت ضئيلة. ستحفر في مخيلة ياسين ذكرى لقائه بودود إلى الأبد. تلك الظھيرة في قلب بغداد.
كان ياسين وفؤاد وصباح يلتقون يومياً دون استثناء في مقھى على شط دجلة، ورغم أن ھذه اللقاءات كانت شخصية، إلا أن مساحة الصفة الشخصية في حياتھم وعلاقاتھم كانت تتقلص و كان العمل الحزبي والسياسي يملأ حياتھم، والنقاشات ذات الطابع الفكري، ومشكلات النظرية وتطبيقاتھا على أرض الواقع، وكانت نكسة حزيران وتداعياتھا تستولي على جانب آخر، وباختصار كانت الھموم الشخصية مؤجلة، مع أنھم كانوا شباناً في أواسط العشرينات من أعمارھم، كانوا قد وھبوا حياتھم للوطن وللقضية التي يناضلون
من أجلھا… ألم يكونوا ينشدون بفرح : أموالنا أرواحنا تفدى له بلا ثمن
وفي ًأمسية خريفية ببغداد، حيث تخفت حرارة الجو ولكن تتصاعد رطوبة قاسية، ولكن المساء يكون لطيفا، يلتقي الرفاقُ في المقھى، وقد أضحى الأمر وكأنه عملية تفقد ونقطة لقاء، ھمس فؤاد في أذن ياسين، أن ودود قد ألقي القبض عليه، وأنه جريح بعد تبادل لإطلاق النار مع مفرزة الأمن.
لم يكن النبأ مدھشاً، فالرفاق يتوقعون إلقاء القبض عليه، ولا بد من الإقرار أن ودود كان قليل الحذر، وشديد الثقة بنفسه وبشجاعته. وكان من المؤكد أنه سيشتبك مع مفارز الأمن بالرصاص، وتلك تطرح احتمالين : الإفلات، أو السقوط برصاص جلاوزة الأمن. ثم تناھت الأنباء أن ودود كان عائداً إلى ًالوكر الحزبي الذي يسكن فيه، لمح تحرك الستارة داخل البيت، فأدرك أن رجال الأمن قد نصبوا له كمينا داخل البيت، وحاول العودة إلى سيارته والإقلاع بھا إلا أن رجال الأمن أسرعوا خلفه وفتحوا النار عليه دون سابق إنذار، وتبادل إطلاق النار معھم وأصيب في ساقه، ولكنه أصاب أحد أو أكثر من رجال الأمن وتمكن من تشتيتھم، فيما تمكن ھو من الوصول إلى الشارع العام وساقه تنزف ومسدسه بيده، وھو يحاول إيجاد سيارة أجرة، وظل ينتظر دون جدوى أكثر من خمسة عشر دقيقة مرور سيارة، مع أن ذلك الشارع يزدحم بالسيارات ولا سيما وقت الغروب. وفيما كان الظلام يسرع بإسدال ستائره، كان رجال الأمن قد فقدوا أثره، قرروا العودة أدراجھم، وإذا بھم يشاھدونه على جانب الطريق يلوح للسيارات، أكان الناس يدرون أن أسداً جريحاً يبحث في ھذه الساعة اللعينة عن سيارة..؟، لقد اختفت كل سيارات بغداد في تلك
اللحظة المشؤومة.
ودون ريب كان ودود تلك الليلة فريسة لوليمة أقامھا الجلاوزة، وقد ظنوا أن جراحه ستكون عاملاً مساعداً في انھياره البدني ثم النفسي، ھكذا يعتقد من يمتھن التعذيب، ولكن ماذا كان اعتقاد رفاق ودود..؟
21
ـ سيصمد رغم جرحه. قال فؤاد. ـ ليس في ذلك أدنى شك، فأنا أعرف خصائصه الخلقية والنضالية معا. أضاف ياسين. ـ سنتصرف وكأن شيئاً لم يكن. ولا داعي أن نغير خططنا، وسأحاول الاتصال بالرفيق صبحي، من أجل إدامة التنظيم ومواصلة العمل.
لم يأخذ الجلاوزة ودود الجريح للعلاج، مع أن حالته كانت تستدعي ذلك على الفور، بل واصلوا تعذيبه
بكل وحشية، وحطموا له أضلاعه وصار يستحيل عليه الوقوف، فكان يؤخذ للتحقيق محمولاً على بطانية،
أو محفة، وفيما كانت حالته الصحية تتردى باستمرار، فلم يستطع الوحوش التصور أن جريحاً ينتصر
عليھم وھم مدججون بالأسلحة وبأوھام القوة والسيطرة، وأن ودود يطرح عليھم المعادلة بصورة مھينة،
ً
وكان ردھم الوحيد ھو مواصلة التعذيب والمزيد من النھش في ھذا الجسد المنھك والمثخن جراحا.
ومن خلف جراحه، ومن تلك الروح التي كانت تسمو عالياً فوق ھذا الانحطاط الخلقي والمھني، أدرك ودود أبعاد المعركة، فقبل التحدي. جن جنون سيد المحققين وزمرة التعذيب، صارخاً : “اجلبوه لي”.
أشفق أحد الجلاوزة عليه في آخر ما تبقى من شعور ينتمي للبشر. وجلبوه محمولاً على بطانية، و ّجه القائد الباسل ودود خطابه الأخير لزعيم زمرة التعذيب:
” اسمع، لا تمضي وقتك ھباء، أنا مسؤول التنظيم العسكري، وأسماء المناضلين ھي ھنا، )ودق على صدره( ولكنك ھيھات ثم ھيھات أن تحصل على اسم واحد مني ” قالھا وبصق عليه معبراً عن احتقار المناضل للجلاد رغم محنته.
كان الرد المتوقع ھو زيادة شحنة التعذيب، كان ودود معلقاً ينظر إلى الكلاب المتوحشة تنھش ما تبقى من جسده، ربما أدرك أن ساعاته أًصبحت معدودة. راح يتذكر الأيام الخوالي، صيف عام 1958 عندما انتمي للحزب، ولشدة ما كان فخورا بنفسه وبحزبه، إذ راح يختال في أزقة الحي، يود لو أنه يصرخ بأعلى صوته، فھو قد انتمى للحزب الذي طالما تمنى أن يكون أحد مناضليه، وعندما دعا أصدقاءه إلى تناول المثلجات، دون أن يبوح بالسبب الحقيقي وھو يغالب نفسه بعدم البوح به. ابتسم لتلك الذكرى، فيما كان أحد الكلاب ينھال بالأنبوب المطاطي على جسده، كان ودود يحلق في أجواء أخرى بعيدة ، بعيدة كلياً، راح يتذكر وجه أول مسؤول حزبي له، ثم تذكر ثانوية الكرخ، ثم ساحة عرض الكلية العسكرية، والعلم
والنشيد والقسم: أموالنا أرواحنا تفدى له بلا ثمن
تذكر القطر الشقيق حيث التجأ، تذكر دراسته التي لم ينھھا أبداً في مًيونيخ بألمانيا، تذكر بواكير عمله الجديد في بغداد، ثم أط ّل عليه وجه والدته، ربما كانت تقول له شيئا لم يكن يتبينه بدقة، تذكر أحمد، وياسين وفؤاد وصباح، ثم تذكر وفاء، ودھش لأنه لم يتذكرھا قبل ذلك وعاتب نفسه….!
كانت الرؤية تضيق أمام ناظريه، وأحس أن أحد الكلاب نھشه في ساقه الجريحة فتع ّجب ..! ثم سمع لغطاً حوله: أنزلوه …. ثم أصوات كثيرة، وشعر بجسده قد أصبح خفيفاً جداً لدرجة لم يكن يعرف إن كان ما يزال معلقاً أم ماذا …؟ ثم شعر أنه يريد الذھاب … ثم لم يعد يشعر بشيء …. ثم لم يعد يتذكر شيئاً … ثم
خرج ودود، وأغلق الباب وراءه بصخب … ھكذا في عنفوان شبابه, في نضاله ًوفي رحيله …
وفي آخر ذرة من حياته تذكر عبد الودود عبد الجبار أن الحزب سيكون فخورا به … ثم مضى ودود على
ًًًًً
عجل كما كان دائما، باسما كما كان دائما، بطلا كما كان دائما.
**** 22
ً
كان الرفاق الثلاثة قد اتفقوا، والذين كان يطلق عليھم الفرسان الثلاثة، لأنھم ما انفكوا عن بعضھم منذ ما يقارب العقد ًمن السنوات في علاقة حزبية وصداقة شخصية، اتفقوا على مواصلة العمل، ولكن فؤاد أقبل بعد أيام ملقيا بنبأ س ّيء. ” لقد ألقي القبض على الرفيق صبحي في كمين مماثل”.
بدأت صورة الموقف تتجلى، فثمة شخص قد انھار وراح يھذي، وعندما أحس بفداحة خطئه، راح يبالغ في الانھيار إذ شعر أنه لم يعد قيمة تذكر، وأن الحزب قد لفظه، وسوف لن يحتضنه يوماً، فأحس بعمق الھاوية، فما قيمة الحياة بلا الحزب ..؟
دخلت الخلية في حالة طوارئ على أھبة الاستعداد. ولكن لم يصب الذعر أي من الرفاق، كان الجميع يعمل برباطة جأش تحت سيف مشھر معلق فوقھم، ولكن تشرين الثاني، ھو شھر لا ھو بالخريف ولا ھو بالشتاء. اعتقل فؤاد دون أن يتاح له إطلاق إشارة الإنذار لرفاقه، وكذلك الرفيق صباح، ولم يفلت سوى
الرفيق ياسين، وتفرق جمع الرفاق، ولكننا ھنا نحن مرة أخرى نعيش لنروي ذكرى تلك الأيام.
القسم بالإخلاص للوطن ما زال يشدنا ما زلنا نلتقي لنتحدث عن ھموم الوطن نتزاعل ونتصالح … ولكن من أجل الوطن والقضية وما زال الطريق مفتوحاً …
صورة ملازم الدرع عبد الودود عبد الجبار الشيخلي، تحل لوحدھا جداً في مكتب عضو القيادة المختص تطوف ذكرى ودود الرائع وذكرى وجھه الطلق، المرح، الصلب كالماس، والشفاف كالمياه النقية ..
لذكراك أيھا المناضل العظيم
23
بطل من بلادي : فائز سعود علوان
رفع يده فوق عينيه، يريد بذلك أن يتجنب أشعة الشمس المواجھة له، وليرى لأبعد مدى ممكن، شاھد دبابات العدو تتفرق باتجاھات مختلفة، لابد أنھا استلمت الأوامر ومضت لتنفيذھا. لنرى، فالعلوج لديھم في كل مرة تص ّرف جديد، ولكن أسلوب قتالھم لا يتغير، فھم يبتدؤون عملھم بالقصف الكثيف، وفي أي رد فعل من قبل مجاھدينا، تحضر الطائرات السمتية بسرعة، وعندما تلًقى ھذه المقاومة، أي مقاومة، نشاھد في الأجواء الطائرات المقاتلة والقاصفة، وتأخذ ھذه بدورھا ردحا من الزمن، تقصف وتقصف وكأن قنابلھم لا ثمن لھا ! ولكن في الختام تكتشف أن كل ھذا القصف كان عشوائياً، ولم يسفر إلا عن إصابات
غير محددة، نساء وأطفال وشيوخ ممن لا يستطيع حماية نفسه من القصف المعادي.
ارتدت الذكرى بفائز يوم كان يعمل في ورشة حدادة، كان والده قد توفي، وأمه قالت له أنت أكبر أخوتك، عليك أن تأخذ مكانة أبوك، ولم يكن بحاجة لأن تخبره أمه بذلك، فھو يعرف ذلك من تقاليد بيئته الفلاحية والعشائرية، إنه ضرب من قدر عليك القبول به أياً كان، ومجتمع فائز كان قد علمه منذ طفولته عبر عدد لا يحصى من الأمثال الشعبية والحكم الاجتماعية، أن القدر لا مرد له، ولكن عليك مواجھته بشجاعة، لا مرد لقضاء الله نعم، ولكن عليك مواجھة الأقدار وھو كان قد قرأ عند الم ّلا في الكتاب : )) ك ُّل نف ٍس ذائقةُ
المو ِتونبلُوُكمبالش ِّروالخيِرفتنةًوإليناتُرجُعون((صدقاللهالعظيم. 24
فائز سعود علوان الفلوجة / الحي العسكري
يا له من سؤال فلسفي عميق وإن كان من يطرحه طفل يتعلم القراءة والكتابة عند شيخ يعلم الصبيان إضافة لذلك دروس في الدين. الخير فتنة لأنه ينطوي على احتمال الزلل. وكيف يكون الخير مؤدي للزلل ؟ سؤال آخر من ھذا الطفل اللجوج. الثراء خير من الله يعطيه للبشر، ولكن الإنسان قد يستخدم ھذه
القدرات فيما ھو من عمل الشيطان.
وما ھو الثراء شيخنا ؟ وھنا كاد الشيخ أن يرفع الراية البيضاء. فيحار بما يجيب الطفل. بل ربما لم يتوقع الشيخ أسئلة بسيطة ولكنھا معقدة من ھذا الطفل. يطرق الشيخ برھة، يلعن الشيطان في سره. الثراء يا بني ھو والله أعلم…. أن يكون للمرء الكثير من الخير. بالطبع أكثر مما ھو بحاجة إليه فيقوده إلى ما ليس خيراً، ربما إلى ما ھو فتنة…! ولا تلح بالأسئلة أكثر. ربما لم يكن لدى الشيخ الكثير ليخبر ھذا الطفل، ولكن الأسئلة كبرت في نفس الطفل الذي غدا صبياً ثم فت ًى فشاباً، حتى استعذب ھواية البحث عن الأجوبة.
أراد فائز أن يعلم الأجوبة الشافية على أسئلته، كان يقصد الجوامع الكبيرة، فيطرح أسئلته السھلة الصعبة على الشيوخ الكبار ممن لھم باع عميق في الفقه والعلوم الدينية، وعنھم تعلم أولى دروس تشخيص الظلم ثم رفضه، إن الدين لا يقبل أن يلحقك الظلم حتى من أبناء جلدتك وبعض ھذا الظلم، أو قل عنوانه العريض، ًرفض أن يلحق أحداً الأذى بك أو بالمجتمع ! والأذى قد يكون مادياً ومعنوياً، فليس لأحد أن
يسلب شيئا أعطاه الله لك، ومن بعض ذلك حريتك وأرضك وكرامتك وحقك في الحياة الحرة الكريمة ! كانت ھذه أولى دروس الفتى في الحياة … وھي دروس بليغة
كان شيئاً كبيراً ينمو في نفس الغلام الذي أصبح شاباً، ترى ھل ھي صدفة أن يبدأ الشاب عمله في الحدادة ؟
راقت للشاب فكرة لي الحديد وطرقه وتطويعه، أن ينھال بمطرقته على الحديد فيحيله إلى أشياء جميلة نافعة، أبواباً وشبابيك، تحمي الناس في بيوتھا حين تأوي آمنة، الأمن والأمان، كلمات رائعة، يتذكر الشاب حديث للرسول العظيم )ص(: نعمتان مجھولتان : الصحة والأمان. لذلك كان معجباً بعمله لأنه كان ملتحماً
بالفكرة، فليس الأمر كله العمل من أجل المال، كلا… لم يكن ھذا من بين ما يھتم !
انتحى الأسطة شھاب بفائز يوماً، ” أخي فائز، لا بد أنك تشعر أن الأحوال لم تعد كما كانت” لم يدرك على الفور ما يرمي إليه صاحب محل الحدادة الذي يعمل فيه منذ سنوات. استنكر فائز خجل وحرج صاحب المحل، لكن شھاب سارع للقول أنه سيحاول تدبير أي مبلغ ليدبر منھا فائز احتياجه وعائلته التي ھو
معيلھا الوحيد.
ويحاول فائز بعفويته وببساطة كلماته أن يقول لشھاب، أن يعتبر الأمر لا يستحق الإحراج، ودعنا نعتبر الأمر بين أخوة، وليس بين عامل ورب العمل، ألا يقول الكتاب إنما المؤمنون أخوة، احتضن شھاب فائز في عناق أخوي ولم يستطع أن يمنع تساقط دموع من عينيه، كان فائز نقيًاً كدمعة، مخلصاً، متحداً بين ما في قلبه، وما على لسانه، كان وجھه يشرق بالحقيقة، كل الحقيقة، متحدا بين ما يؤمن وبعمق، وبين ما
يتصرف ويعمل بجد.
مضى فائز على بيته، وبرغم أن ما في جيبه لم يكن ما يسد حاجة البيت، إلا أنه أحس وبامتلاء بأنه أدى واجباً كبيراً في إظھار واجب الأخوة، واجب الوفاء لرب عمله، وھو يدرك أن كلمة الله كريم وحدھا ستكفي على تساؤل عيون والدته!
25
ولكن لماذا الخير فتنة شيخنا ؟
حقاً … الله كريم، كان الم ّلا يعلم الأولاد، الصبر.
اصبر … اصبر، إن الله مع الصابرين، وب ّشر الصابرين، الصبر من الرحمن والعجلة من الشيطان، من َصبر َظفر.
ولكن من ج ّد وجد !!.. وقل اعملوا…، وأع ّدوا لھم ما استطعتم من قوة…، والقوة ھو كل ما يعينك على حل الإشكالات
الصبر ھو أن لا يجزع المبتلى، بل إن عليه أن يدرك أن الأمر زائل، وعلى المؤمن أن لا يتشكى مما أصابه بل أن يقول الحمد ? ! الحمد ? على ھذا الحال وعلى كل حال ! الصبر ھو بمعنى الصمود، وبمعنى الثبات، وبمعنى أن لا يولول ويستسلم لليأس !
ترى ھل لھذه المفاھيم والتفاسير صلة في حياتنا اليومية بكل صفحاتھا ؟ كان فائز يفكر ، بل ويطيل التفكير، وفي أكثر الأحيان كان يتأمل بعمق في الظلام ، كان يتوصل للكثير منھا بمفرده. نعم كان المسجد يش ّد الجماعة، ويشعره أن أخوة له يشاركوه المشاعر، بل والمصير، نعم والمصير وكان ھذا ھاجس جديد
في شعوره يزداد ترسخاً عنده يوماً بعد يوم.
كان يشعر بأنه يقف على قدميه، ولكنه كان يريد أن يتعرف على العواصف في نفسه…
كان الوصول إلى قلب المعادلات أمراً معقداً، بل أن فتح أختام بعضھا بدا عسيراً للغاية، فكيف له أن يدرك معنى الاحتياطي النفطي، أو جدول داوجونز في تعاملات البورصة، أو قاعدة برتون وودز، وكثير غيرھا تطفو على سطح نشرات الأخبار في التلفاز والإذاعات والصحف وأحاديث السياسيين ؟
بيد أن قلبه دلّه على طريقة لا يخطئ معھا أبداً، كن مع نفسك حراً طاھراً نظيفاً ولا تخشى شيئاً , والخبائث تفوح روائحھا ولا تفوت على طاھر القلب، والصدق يبدو متھللاً ينطق في العين قبل الفم، ف ُع ِرف فائز بين أصدقائه بالحدس المرھف الذي لا يخطئ، تعجب بعضھم فائز لم ينل حظاً كبيراً في الدراسة، إذ اضطرته نوائب الحياة للعمل مبكراً، وبعضھم قال أنه ورثھا عن والده، ولكن الشيخ حسن ھ ّز رأسه، وتطلع على
الأفق، قال لا … وسكت ! يبحث عن الكلمة المناسبة: فائز شاب مو ّجه لعمل الطيب.
كان فائز موضع ثقة الجميع، لم يكن لينتمي لتنظيم سياسي، ولكن ذلك ً لم يقللً من احترام الناس له، كان يحمل عبء العائلة، ويلوح في قسمات وجھه عبء أكبر، كان عاملا بسيطا ولكنه ممتلئ رجولة وثقة بالنفس وكبرياء يشع من عينيه.
أدرك فائز، ببصيرته أن الأمر ماضي إلى الصدام، يتابع نشرات الأخبار يستمع إلى اللغة اللئيمة لمسؤولي التحالف الغربي، يشاھد كيف يسيل لعابھم كالضباع، بل ھم الضباع بذاتھم، وليس تلك الحيوانات في الب ّرية، بل قل إن العالم قد أصبح بأسره ب ّرية، والبشر يتقاتلون كالذئاب المسعورة، يلتھم القوي الضعيف دون تردد، ويسلبه ماله وآخر رغيف خبز لديه بوحشية تصبح وحشية ضباع البرية وذئابھا سيئاً بسيطاً
حيالھا… ماذا يريدون منا..؟
26
سؤال أق ّض مضجعه، ترى أن صاحبنا لم يعرف مسايرته..؟ أم أنه استفزھم..؟ أم ماذا..؟
ولكنه ف ّكر ببساطة وماذا فعل الھنود واحتلوھم، ولم يخرجوا منا إلا بعد أن أدركوا استحالة إدارة ھذه البلاد ! أو فيتنام وكثير من أقطار أخرى
ولماذا نذھب بعيداً، ألم يحدثه المرحوم والده عن أفعال الإنكليز في سن الذبّان، وذاك اسمھا قبل أن يشيدوا القاعدة الجوية الضخمة فيھا. ومنھا قصفونا ھنا في الفلوجة في انتفاضة 1941 بالطائرات والمدفعية والدبابات، لماذا..؟
أم ترى يطلبونا ثأراً…؟
أراد أن يصل للطين الحر في سر كراھية ھؤلاء الناس لنا. إنھم يأتون لبلادنا ويشتغلون ويأخذون حقھم بأسعار مضاعفة، واستغلوا نفطنا أكثر من نصف قرن، وما زالوا…. لماذا ..؟
أم تلك جميعھا…
ھدير دبابة أيقظته من أفكاره، إنه على بعد أمتارً من دبابة أميركية من طراز أبرامز تزن أكثر من 69 طناً من الفولاذ والعتاد، أما وزن ركابھا فلا يعد شيئا يذكر !
والدبابات الأمريكية تغطي فقرات السرفة فيھا قطع من المطاط قال أصدقاؤه أنھا من أجل عدم تخريب أسفلت الشارع، ضحك فائز ساخراً من ھذه الفكرة، ھم جاؤوا إلى ھنا من أجل التخريب، ألا ترى أنھم يتعمدون تخريب كل شيء حتى ما لا علاقة له بالقتال والمقاتلين، فاضطر صديقه للصمت وقد أُفحم برد فائز، فيما ابتسم قاسم، المعلم في ابتدائية الجولان على صواب إجابة فائز المنطقية، واستطرد فائز، أنھا من أجل التسلل وعدم إحداث الصوت والضجة، ولكن صوت محركھا يفضحھا كما نحن فضحنا أسباب
اعتدائھم علينا:
لم تكن أسلحة الدمار الشامل … لم تكن الديمقراطية… طبعاً لا ! لم يكن الإرھاب… ماذا إذن فائز ؟ ـ ” أخي الكريم : إنه النفط، والكيان الصھيوني، والھيمنة السياسية . أليس كذلك أستاذ قاسم ” ـ ” نعم … وإن كان الأمر أعقد قليلاً، إلا أن ما طرحه فائز ھو الخط العام “. ـ ” انظروا الدبابة تلك على اليمين تحاول أن تتموضع، فالأفضل أن نھاجمھا قبل أن تدخل الخندق ويصعب إصابتھا . ”
كان فائز مسلحاً بقاذف صاروخي 7 RBG وبندقية كلاشنكوف، تتطلع إلى المعلم قاسم وكأنه يستأذنه، فھ ّبقاسموقال: ـ “أنا قادم معك، ھيا مثنى تعال فأنت أفضل من يعرف تلك الأرجاء”.
نھض محمد بعزم موحياً للمعلم قاسم أن ذھابه معھم لا مرد له… 27
إلا أن قاسم الذي كان يتمتع باحترام المجموعة ليس لأنه معلم مدرستھم سابقاً، بل لأن قاسماً شھدت له المعارك بشجاعته وإقدامه، نظر إلى محمد نظرة سريعة ولكنھا حازمة:
ـ ” لا … محمد أنت ستبقى ھنا لتغطية وثبتنا إلى الأمام، سنصفّي تلك الدبابة”.
مضى فائز متقدماً واقترب أقصى ما يستطيع ليضمن إصابة مؤكدة، رغم أن القاذف يصل لمدى 750 متراً، وھا ھو يصل إلى مدى أقل من 50 متراً، يسدد إلى منطقة بين برج الدبابة والبدن، وشاھد أن لھباً بنفسجياً يخرج من فتحة الدبابة العلوية، وسمع صراخ أعداد الدبابة. انكفأ إلى الخلف، متوقعاً أن تلاحقه
طلقات الدبابات الأخرى، وتمنى أن لا يفتح قاسم النار فيكشف موقعه، كما ليس ھناك من ضرورة !
وبإشارة من يده أدرك قاسم ومثنى على الفور مغزاھا، اللقاء عند نقطة الانطلاق… ً وبعد أن تناول شربة ماء أدرك فائز ما أحلى أن تنفذ عملية وتنجح في إصابة ھدفك، وتعود سالما، والعودة بسلامة تعني له شيئاً واحداً، أنه قھر الآلة الأمريكية، ودمرھا، بل سيدمر المزيد ! وعلى الرغم من أن الفلوجة شھدت خلال الحملة العدوانية الثاني الكثير من المعارك الضارية، كان خلالھا تدمير الدبابات والآليات المدرعة أمراً اعتيادياً، وحدث يومي، إلا أن الطريقة التي تص ّرف بھا فائز في التصدي واستباق تقدم العدو، وتقدمه إلى مقربة من العدو، ودقة إصابته للدبابة بقلب لا يعرف الوجل، وبھدوء أعصاب، وھو أھم ما ينبغي أن يكون عليه مقاتل الدبابة بالسلاح الفردي 7 RBG، وذاع صيته بين المجاھدين. كان يبحث عن دبابة منفردة، وھو نادراً ما كان يحدث، ولكنه كان يجد ضالته بالبحث المستمر والصبر، ودائماً ھناك دبابة تخالف القاعدة، وتسير وحيدة إما لتبديل موقعھا، أو لإيصال جندي جريح أو مصاب إلى نقطة إسعاف، أو لتحل محل دبابة أخرى تسحب لأي سبب من الأسباب.
صار اصطياد الدبابات، والمدرعات الأخرى، من ناقلات جند مدرعة، وناقلات العتاد، أو حتى عربات الھمفي، والتي يطلق عليھا في العراق ھمر، والتي أضافت الشركة الأمريكية الصانعة صفائح من الفولاذ على بدنھا لتقاوم رصاص المجاھدين، وصار بالتالي لا بد من تدميرھا إما بواسطة ألغام م/د أو بالقاذف
الصاروخي، ولكن فائز كان يفضل الدبابة أبرامز، لماذا ..؟
ھل كانت تمثل بالنسبة له التحدي الأكبر..؟ ألا يطرق الحديد من الصباح وحتى المساء ..؟، يضحك ويقول: طرق الحديد مھنتي. أم لأن الأبرامز كانت ضخمة وقوية وقلعة مشيدة ب 69 طن من الفولاذ الصلب، مصممة لكي تكون مرعبة ومخيفة بكل ما فيھا، بمدفعھا الضخم، 120 ملم، وبالرشاشات المحورية، أو بتلك التي في أعلى البرج..؟ أم ترى أن مواجھة الأبرامز تستلزم قلباً من فولاذ يفوق في
نقاوته فولاذ الصناعة والتكنولوجيا الأمريكية..؟
ھل لديكم قلباً نقياً كقلب مجاھد من الفلوجة ..؟
نعم إن الغرب والولايات المتحدة تفننت في صناعة أسلحة الدمار، والعلم الذي ينبغي أن يسخر لعلاج معضلات قاتلة في الغرب أقل ما يقال فيھا الإيدز والسرطان والإدمان على المخدرات، بل أنه كرس العلم في القتل والتدمير، ولكننا ھنا أثبتنا أنك في القتال تحتاج لإنسان مؤمن غير ھياب، يواجه تحديات فرض
الإرادة الاستعمارية وھذا ما تعجز عن صناعته التكنولوجيا، ھكذا أخبرھم المعلم قاسم …
ونعود إلى الخطاب المخزومي، خالد بن الوليد الذي يھتف بوجه الروم : أتيتكم بقوم يحبون الموت بقدر ما تحبون أنتم الحياة، وھا نحن من جديد نواجه الروم في بلادنا وما الفرق بين معارك اليرموك، أو حطين، أو الفلوجة، في جميع الحالات جاؤونا بخيولھم، ورماحھم، ودروعھم، أو دباباتھم … ماالفرق ..؟
28
الأمر لا يحتاج فلسفة، إنھم يدنسون تراب الوطن المقدس، إنھم يدمرون النبات والحجر والبشر ھنا في العراق وھناك في الفالوجة الفلسطينية أخت الفلوجة العراقية، ولكنھم ھذه المرة يريدون الاستيلاء على كل شيء… كل شيء … وأولاً عقولنا..!
حقاً إن الأمر لا يحتاج إلى فلسفة، ھذه القلعة الفولاذية، وھذا ھو RBG7، أنت تواجه ھذه القلعة، لست بحاجة إلا أن تكون مؤمناً، بكل مكوناتك، بنفسك وبقدرتك على إحالة ھذه القلعة إلى حديد خردة، وبس ..!
صار فائز الحداد اختصاصي بإحالة قلاع الحديد إلى خردة، وطائفتھا إلى طعم لنيرانھا، أو أن يخرجوا فيصطادھم المجاھدون، ليس لكم سوى الموت في بلادنا.
حل يوم الجمعة… وھو يوم لا بد من الاستحمام فيه، والتھيؤ لصلاة الجمعة، ھكذا فعل جميع المجاھدين، وارتدى الجميع ملابس نظيفة، تطلع فائز من أعلى البناية، تسلق بحذر إلى قرب خزان الماء، مضى يطيل النظر في جميع الاتجاھات، كان قد أنھى استحمامه ولبس ثياباً نظيفة، بل ووضع شيء من ماء الكولونيا، ,أصلح من وضع اليشماغ على رأسه فعقده معتنياً بذلك، وھبط مسرعاً والتقط بخفة سلاحه القاذف
وبندقيته، وأسرع إلى خارج البناية الخربة حيث يتموضعون. أسرع المعلم قاسم وراءه وناداه : فائز … فائز إلى أين أنت ماض، سيحل موعد صلاة الجمعة قريبا. التفت فائز مبتسماً، وقال متمتماً : ” مشوار قصير .. مشوار قصير ” لم يدعه المعلم قاسم، بل لاحقه بخطواته وكلماته : فائز على أين أنت ما ٍض، ھل التقطت عيناك صيداً ..؟ عندما استدار فائز بكامل جسده، لاحظ أن كافة الأخوة المجاھدين قد لحقوا به وليس قاسم وحده..! فكان لا
بد من إجابة….
“والله يا أخواني … أنا على موعد ” ” خير إن شاء الله وأين الموعد ومع من ..؟ ” قال مثنى رفيق زركات الصيد. ” ھدفي ھذه المرة لوحدي ” قالھا فائز بلھجة جدية، ولكن لم تفارقھا نبرة الود
” ولماذا لا نرافقك ..؟ ، ثم أنك تقول إنه موعد ..؟ “. ” أي نعم ففي رؤية لي فجر اليوم، رأيت عربة لھا أجنحة بيضاء تحملني وصوت يتردد في السماوات : بسم الله الرحمن الرحيم :
) إ ّن الله اشترى من المؤمنين أنفسھم وأموالھم بأن لھم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعھده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك ھو الفوز العظيم ( . صدق الله العظيم.
صدق الله العظيم ردد المجاھدون، وأطرقوا وران الصمت عليھم، قاطعه قاسم بقوله،” ولكننا لن ندعك تذھب لوحدك ، نحن قادمون معك” .
” لا والله إنھا سريتي بمفردي، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً “. 29
ً
قالھا ومضى مھرولاً إلى طريق يعرفه بل ھو ولد وعاش من أجله وليس من قوة تحول دونه ولو جبال الأرض وبحارھا ..!
حاول بعض المجاھدين أن يلحقوا بفائز، منعھم قاسم، ودمعة تجول في عينه، ” دعوه … إنھا سرية فائز … إنھا سرية البطولة… دعوه فإنه مرسل إلى طريقه … ولن يضل فائز طريقه أبداً وليس مثل من يضل ! “.
كان فائز قد اختفى من مدى رؤيتھم سالكاً طرق فرعية تؤدي إلى مخارج الفلوجة… إلى الحي العسكري. بالضبط وصل فائز إلى الموضع الذي كان يريده، كان قد ھيأ صاروخاً في القاذف وأخرج القذائف الثلاث من حقيبة الظھر وھيأھا للرمي، كانت ثلاث دبابات أبرامز تتخذ من مجموعة أشجار نخيل على جانب الطريق المؤدية لناحية الكرمة موضعاً، وقد ك ّونوا ساتراً ترابياً يسد الشارع المؤدي إلى الكرمة، واتخذوا من أفياء النخيل موضعاً لھم، تبين المسافة التي تفصله عنھم، فإذا بھا تزيد عن مئة متر، ولكن فائز اعتمد
على دقة الإصابة التي عرف بھا.
قرأ آية الكرسي، وسورة العصر وسدد فائز على إحدى دبابات الأبرامز على تلك الأبعد والتي تسدد مدفعھا صوب الفلوجة، أي صوبه، إذ قدر أن بينما تكتشف الدبابتان الأخريتان موضوعه، سيكون قد لقم القاذف الصاروخ الثاني، وسيضرب الدبابة الثانية التي تقف إلى يسار الطريق الأقرب إليه.
استرھا يا رب … يا الله…سدد … وأطلق القذيفة الأولى في الموضع المفضل، مفصل برج الدبابة عن البدن، وقبل أن ينتظر النتيجة كان قد لقم الصاروخ الثاني، سمع صوت الانفجار الذي له وقع خاص عندما يصيب الدبابة، وسدد على الفًور على الدبابة الثانية التي طفق الجندي الأمريكي القائم على المدفع الرشاش بإطلاق النار ولكن عشوائيا، سدد فائز و … يا الله …وأطلق الصاروخ الثاني، ولا حظ بين الدخان
والغبار، ميلان برج الدبابة وانقطاع الرمي من رشاشتھا.
كانت الدبابة الثالثة قد استمكنت موضع فائز، على ًالأقل تقريباً بسبب الغبار الذي تحدثه الھبة الخلفية، تدحرج فائز إلى يمين موضعه، وكان قد اختاره سلفا وتحرك قائد الدبابة الثالثة صوب الطريق الأسفلتي، كان فائز سيصبح أمامھا مباشرةً بعد لحظات، قدر فائز لو أنه كمن لبضع ثوان، لن تصل أبداً دقيقة،
ستكون أمامه في متناول القاذفة على بعد أمتار فقط … بضعة أمتار وبضعة ثوا ٍن ليس إلا …
سمع ھدير الدبابة، وسرفتھا تحطم أغصان صغيرة، ، كان فائز قد التحم بالقاذف تدور عيناه في محجريھا، يبحث عن الدبابة الثالثة، لمحة خاطفة حذرة إلى الخلف، لكن مدفع الدبابة بان له، كما كان قد توقع، لم يكن مرتبكاً، لم يكن يخشى شيئاً فليس ھناك سواه من مجاھدين ليقلق عليھم، وھا ھي أبرامز الثالثة أمامه بما لا يتعدى العشرين متراً، وبدا له أن قائد الدبابة قد لمحه، أو الجندي على البرج، لمح فائز عبر المرقب …
فاستدار البرج صوبه … ولكن فائز وبقلب لا يعرف الوجل … يا? … وأطلق…
كان فائز قد ألقم القاذف صاروخه الرابع والأخير، و تأكد من إصابة الدبابة الثالثة، كان يريد الانسحاب، أو بالأحرى استطلع الموقف بسرعة، كانت ھناك فسحة من خرائب وأنقاض، ولكنه سمع ضوضاء وجلبة في مكان إصابة الدبابات الثلاث، اكتشف فائز أن عربة مدرعة من طراز ھمر كانت تقف على مرتفع في الاستدارة المؤدية للخط السريع، وأن ھذه المدرعة أسرعت صوبه، والجندي المطل من كوة في سقف العربية يطلق النار بكثافة من رشاشه الثقيل عيار 500 والرصاص يثير الغبار حوله، ثم لاحظ أن عدد عربات الھمر قد تكاثرت، فوق جسر الطريق السريع، كما تناھى إلى سمعه ھدير الأبرامز، وبطرف
عينيه شاھد أنھم يغلقون طريق انسحابه.
30
ً
تذكر ما كان يحدثھم معلم التاريخ، من أن أحد الصحابة كان في غمرة المعركة، يھز سيفه ھاتفاً أثناء القتال: الله أكبر اشتاقت أرواحنا لروائح الجنة الله أكبًر. لا إله إلا الله محمد رسول الله، صرخ فائز بأعلى صوته لتردد أصداؤه جنبات المكان، وانتصب واقفا، سدد على عربة الھمر، فأصابھا وانقلبت، والنار تشتعل بھا، غير أنه أحس بشيء ساخن يسيل على بطنه، فمد يده، فإذا بھا دماؤه … فابتسم، سحب رشاشه، غير أن الرصاص ينھمر عليه، لم يعد يسيطر على حركته، ولكنه ما يزال واقفاً ينظر إلى
الفلوجة، إلى قمم النخيل.
ابتسم… البشرى … إنھا والله البشرى. أراد أن يقول : قادم … أنا قادم، ولكن من بعيد تناھى إليه صوت مآذن الفلوجة، كان يردد مع صوت المؤذن : ً الله أكبر الله أكبر أشھد أن لا إله إلا الله، أشھد أن لا إلا الله، أشھد أن محمدا رسول الله، أشھد أن محمدا رسولالله،ح ّيعلىالصلاةح ّيعلىالصلاة،ح ّيعلىالفلاح،ح ّيعلىالفلاح،اللهأكبراللهأكبرلاإله إلا الله.
ومضى فائز إلى موعده …. راضياً مرضيّاً إن شاء الله
****
ح ّدثني أحد مجاھدي الفلوجة، من أخوة فائز في الجھاد، أنھم حاولوا سحب جثمانه الطاھر، ولكن الأمريكان كانوا يطلقون النار على من يقدم إلى الجثة، يريدونھا أن تصبح طعاماً للكلاب والجوارح، ولكنه أقسم لي، أنھم بعد أسبوع تمكنوا من الجثة، لم تكن الكلاب تقترب إليه، أو الذباب الأزرق، أو طير
جارح.وأنرائحتهكانتزكية،ووجھهمبتسماًوالحمد?ر ّبالعالمين. تر ّحم الله الشھيد البطل فائز سعود علوان برحمته وحشره مع الشھداء والصديقين في عليين.
فيركور العراق
31
??
الموعد قرب جسر الشهداء
كان إسماعيل ينتقل ببصره من الساعة إلى والدته التي كانت تريد أن تستبقيه ولو لدقائق أخرى. وإسماعيل كان يتمنى أن يرخي المساء بسدوله أسرع، ولكن ھيھات، فنحن مقبلين على الصيف حيث يطول النھار وتقصر ساعات الظلام.
ابتسم إسماعيل إذ تذكر كلمة أطلقھا أحد زعماء القمع بحق المناضلين عندما قال، أنھم يھوون الظلام… وإسماعيل الذي لم يكن قد نال حضاً كبيراً من التعليم، إلا أنه كان يمتلك قلب مناضل لا يخطئ أبداً، وقد أدرك بوعي شبه غريزي، أنه سيبقى يھوى الليل حتى يشع فجر على كل البلاد، والمواطنين.
كانت ظروف الحياة المعروفة في بلداننا ًقد أرغمت إسماعيل منذ طفولته أن يغادر صفوف المدرسة واللعب مع رفقاء المحلة، ولكن ليلعب دورا أكبر، فقد قبل أحد معارفھم بأخذه كعامل متدرب لديه لقاء أجر رمزي، ولكن ليتعلم الميكانيك. والكلمة إذ بدت غريبة على إسماعيل ولربما ھو لا يفھم معناھا العلمي الدقيق حتى اليوم، إلا أنه تعلم كل دقائق الصنعة. وكان يراھن رفاق العمل بمعرفة أدوات العمل من المفكات والبراغي والبولبرنات بلمسھا فقط دون النظر إليھا. وتكفيه لمسة ليعرف حجمھا ونوعھا. وع ّده زملاؤه في المھنة مرجعاً فيما يستعصي عليھم من مشكلات تبدو لا حلول لھا. أحب إسماعيل مھنته فأصبحت جزءاً من حياته، وقد عرف في جميع الحي الصناعي، بلقبه الذي غدا جزءاً من اسمه : إسماعيل
ميكانيك.
ولكن ھذا العامل البارع، سرعان ما اجتذبته السياسة كما يجتذب المغناطيس قطع الحديد. وكيف لا وھو يعمل في حي صناعي حافل بالأفكار السياسية الغاضبة، وبثورات تمور في نفوس العمال، فلا يمكنك أن تجد عاملاً إلا وھسيس الثورة في أعماق فؤاده متحفز للبروز إلى السطح بأول بادرة وإشارة. ولم تتأخر تلك البادرة، فإسماعيل منذ صباه يبدو أكبر من سنه بكثير، ويمتلك صفات تنشدھا الحركات السياسية التي تعمل بين الفئات الثورية : العمال والفلاحين والطلبة والجنود، تتمثل تلكً الصفات بالصلابة، ولكنھا بصلابة الألماس صلابة شفافة، جميلة، تدخل إلى القلب، كان يمتلك حضورا وإطلالة لا يمكن مقاومتھا، وكل تلك الصلابة كانت مغلفة بطيبة قلب وإخلاص متفا ٍن في العمل ودقة في الإنتاج والإنجاز. وباختصار
كان إسماعيل نجمة الحي الصناعي.
انتمى إسماعيل عبد الحميد إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن معقولاً أن يكون خياره شيئاً آخر..! وحتى تلك المسألة ناقشھا إسماعيل في نفسه مرات ومرات، ولكنه وجد نفسه غير مخطئ في خياره. وعندما دارت أحداث في الحزب، اختار ھو معسكره دون تأخر، فماذا يفعل العامل عندما يجد
مسيرة تتجه صوب تحرير إرادته السياسية والاجتماعية..؟
لم يكن ليدور في مخيلة إسماعيل أن يتبوأ منصباً قيادياً في الحزب، كان يكفيه أن يعمل في ورشته، ويشارك في فعاليات العمل السياسي، لم يكن يتأخر عن واحدة منھا، يشترك بالتظاھرات، وفي توزيع النشرات، وجمع التبرعات، وحضور ُّ الاجتماعات، كان يصغي بكلتيه لأقوال الرفيق المسؤول: ففي الحزب يعلمون احترام المسؤول، وتعلم الانضباط العالي، كان الحزب بالنسبة له مؤسسة عملاقة، رمز للمثال الذي يناضل من أجل تلك الأھداف الكبيرة. كان يلتقط العبارات والصيغ والأفكار. لذلك لم يكن يھتم بالمواقع الحزبية، بل ھو لم يكن يعلم ما ھو المؤيد أو النصير أو العضو، وعندما قيل له أن ھناك مراتب
للنصير ومراتب للعضو، دھش، ولم يھمه أن يعلم التفاصيل، كان العمل بالنسبة له الموضوع الرئيس. 32
أدرك إسماعيل بدّقة بعد تع ّرض الحزب لضربات السلطة أ ّن مھامه قد تضاعفت، وكان قد نال عضوية
الحزب فتعمق اطلاعه على شؤون الحزب، وأدرك أن مرحلة المصاعب والمخاطر قد حلت، ولكنه لم
ًًً
يناقش نفسه، فھو كان لھا، على أتم الاستعداد ذھنيا وبدنيا. ھل قلت بدنيا ..؟
كان إسماعيل قصير القامة، وكعامل يتمتع ببنية نحيفة صلبة، ولكن كيف لي أن أصف لكم صلابة إسماعيل …؟ سأدع السطور تروي ذلك …
عندما طالت الاعتقالات صفوف تنظيمات الحزب، بدأت فجوات وفراغات تحدث ھنا وھناك في تنظيمات الحزب في بغداد العاصمة، والمحافظات، في التنظيمات الفرقية، وكذلك في التنظيمات المھنية، وأصبح اختفاء الرفاق حدثاً يومياً، وبدأت أنباء السجون والمعتقلات تترى عن أعمال تعذيب وحشية، وعن رفاق ينھارون تحت مطرقة جلاديھم، ولكن رفاق آخرون يصمدون حتى الموت في صيانة أسرار الحزب
وتنظيماته ويوفون بالقسم الذي قطعوه على أنفسھم : الوطن والأمة أو الموت.
كان إسماعيل يفخر بحزبه وبمناضليه، كان يستمع بشغف إلى أخبار المناضلين وتطير روحه شعاعاً، يحفظ أسماء المناضلين : عبد الكريم مصطفى نصرت، عبد الودود عبد الجبار، محسن فنجان، مجدي، أحمد ذنون، وغيرھم.
وعندما كلفه الحزب بمھمات قيادية في مجال التنظيم العمالي، أدار تلك المھام بطريقة رائعة، كان يتّبع أساليب العمل السري وكأنه قد خلق من أجلھا، ويبدي تفھماً دقيقاً لمستلزماتھا، لم يكن أمراً يفوته ولو بالصدفة..!
ولكن المفاجأة الكبرى حلت يوم بُل ِّغ بقرار من القيادة القطرية ……. القيادة القطرية مرة واحدة ..؟ تقرر أن يقوم الرفيق إسماعيل ميكانيك )وكان ھذا قد أصبح جزء من اسمه( بمھام قيادة تنظيمات فرع بغداد . لم يتمكن إسماعيل من النوم لعدة ليال، كان يتأمل حجم المسؤولية، ھا ھو يواجه الجماھير وقبلھا نفسه، عليه أن يقود ھذا التنظيم الذي يتعرض إلى ملاحق منظمة يومياً، كان يتلقى عشرات التقارير تُنبئ عن حدوث خسائر في ھذه المنظمة أو تلك، اعتقالات ومحاولات اغتيال، واختفاء عدد من الرفاق، كان عليه أن يتدبر مھمة إخفاء عدد متزايد من الرفاق ممن صدر بحقھم إلقاء قبض وتبحث عنھم مفارز الأمن،
وآخرين صار لا بد من تھريبھم خارج البلاد، فوجودھم أصبح محرجاً على الصعيد الشخصي والحزبي.
المعركة إذن مريرة وقاسية، ولكن ھل طرق الخوف قلب إسماعيل..؟ فكر إسماعيل بعواقب أن يلقى القبض عليه وأن يتعرض لتعذيب يناسب موقعه القيادي المھم. فھو يعرف أسماء وعناوين مراكز قيادية كثيرة في الخارج والداخل، ومسؤوليات كثيرة ومستلزمات عمل من أدوات طباعية وأوكار، وسيارات حزبية. ترى ھل يستطيع إسماعيل صون كل تلك الأسرار..؟ ربما تسلل إلى فكر إسماعيل سؤال: ترى ھل عھدت ھذه المسؤوليات إليه بسبب شغور مواقع قيادية كثيرة لاضطًرار شاغليھا مغادرة البلاد، أو الاعتقال. كانت كثير من الأفكار بذھنه، إلا أن عنواناً رئيسياً كان ساطعا أمامه، لا بد من صون أسرار الحزب ولو كلف ذلك الأمر حياتي. تطلع إسماعيل للمرة الأخيرة إلى ساعته، كان الوقت يمضي بتثاقل، ووالدته تصب له الشاي وھي تتوسل بقاءه لمدة أخرى، فھي كانت ترى فيه الابن المضحي بماله ووقته للأسرة أكثر من أخويه، ثم … لعلھا بقلب الأم، الذي لا يحتاج لشھادة جامعية، قلب الأم ببساطة كرة بلورية ترى المختبئ من الأقدار وتشتعل الھواجس في قلبھا، قلب الأم.
ـ ابق يا إسماعيل… يا وليدي، لا تطلع اليوم… يمكن أحتاجك بشغلة ..! 33
ھكذا بحيلة الأم التقليدية تريد أن تحول بما يدور في قلبھا من ھواجس.
ابتسم إسماعيل في سره … وماذا عن الرفيق سعد الذي ينتظر في ساحة الشھداء.. أن من أوليات العمل السري عدم التأخر في المواعيد الحزبية، ثم أن وضع الرفيق سعد حرج للغاية فھو ربما ملاحق، لأنه الناجي الوحيد من منظمته، و لابد من تدبير أوضاعه بدقة.
ـ سوف لن أتأخر عليك … ـ ھل أنتظرك للعشاء ..؟ أدرك إسماعيل أن عليه أن يطمئن خواطرھا، فھو خارج لمھمة لا تخلو من الخطورة، ولكن لا بد من تطمين قلب الأم. ً ـ سوف لن أتأخر كثيرا… قال لھا وھو يكاد قد وصل باب الدار أسرع إسماعيل بالخروج، فھو يعلم أن أسئلة أمه لا نھاية لھا، بل ھي تفعل ذلك لتتشبث به لأطول فترة ممكنة: لا أمان في ھذه الدنيا.
كان الظلام لم يحل بعد تماماً، ولكنه أخذ طريقه إلى ساحة الشھداء في جانب الكرخ، حيث موعده مع الرفيق سعد في محطة الحافلات، قرب مقھى بور سعيد، وحرص أن يصل قبل الموعد بخمس أو سبع دقائق، قدر أنھا كافية لأجراء استطلاع سريع للمنطقة، سيستطلع وجود سيارات غريبة الھيئة)يستخدم رجال الأمن سيارات من طرازات معلومة( رجال يقفون وقفة مريبة، سيحاول أن يشاھد سعد من مسافة بعيدة، وسيقرأ في ملامح وجھه ما إذا كان قد أرغم على حضور الموعد)كان السؤال الأول لمحققي الأمن، ھو أين موعدك الحزبي القادم ومن ھو مسؤولك ؟( كانت ھناك إجراءات أمن كثيرة يتبعھا الرفاق في
احتياط عملية المطاردة وكشف التنظيم… لسنا في وارد تعدادھا، وإلا عد ذلك دورة لإعداد المناضلين ..!
ومن على بعد أكثر من خمسة عشر متراً شاھد إسماعيل الرفيق سعد وعلامات الإحباط والھزيمة على محياه، تصرخ بصوت عال… ھيا انج بنفسك يا إسماعيل فھذا كمين أرغمت عليه…! بل كانت ملامح سعد تدل أنه تلقى تعذيباً له آثاره على ھيئته.
كان إسماعيل يعرف خفايا المنطقة وأزقتھا، ولكنه لا حظ أن رجال الأمن كانوا يحيطون بالمكان إحاطة جيدة، ولكن إسماعيل تطلع ولاحظ أن الممر الضيق بين فندق بورسعيد والمقھى وشط دجلة ربما خالياً منھم، اتجه صوب ذلك الزقاق وھو يعدو بأسرع ما يمكن، وأخرج مسدسه، وھيأه للرمي وكان رجال الأمن يلاحقوه، أطلق رصاصة باتجاھھم ربما لم يسدد ليصيب أحداً منھم، بل ليرغمھم على التخلي عن ملاحقته، وليمنح نفسه فرصة الإفلات، ولكنه سرعان ما لاحظ، أن ذلك مستحيل فرجال الأمن كانوا يدركون سلفاً أنھم يطاردون صيداً ثميناً فسدوا عليه طرق النجاة، واصل إسماعيل إطلاق الرصاص، كان يريد أن يقوموا بالرمي عليه، كان يريد أن يُقتل على أيديھم، فربما تلك ھي الوسيلة الوحيدة للخلاص من
تعذيب رھيب بانتظاره.
صدق حدسه وھا ھو يسمع صوت إطلاق النار خلفه من رجال الأمن، واصل العدو… وتواصلت الإطلاقات، وعندما تعثر بشيء صار يحول بينه وبين العدو، كأن حصاة صغيرة دخلت في حذائه، أو شيء من ھذا القبيل فلم يكن في وارد تقييم الموقف بدقة، وبدأت قواه تخور، غامت الأنوار في مداخل
البيوت القديمة، سقط على الأرض. وبعد دقائق أحس أنه في سيارة الأمن وھم يثرثرون كثيراً ويتضاحكون.. ـ والله الوغد كان يعدو وكأنه يطير…
34
أدرك إسماعيل أن رصاصة أصابته، وليس حصاة صغيرة..! وأنھا في فخذه وليس قدمهً .. وكان قد سمع من شيوخ أن الإنسان عندما يصاب برصاصة لا يشعر بالألم، لأن جسمه ما يزال ساخنا ويقولون بلھجتنا العراقية : صوابه حار.)الصواب ـ الضربة(.
لم يكن محققوه يھتمون بسلامته، بل باشروا التحقيق فوراً. ـ إسماعيل ميكانيك، أنت من التنظيم العمالي، كلفت من قبل )ع( عضو القيادة القطرية الموجود حالياً خارج البلاد، بإدارة تنظيمات بغداد، ما ھي المنظمات التي تديرھا، ومن ھو مسؤولك المباشر ومن يشترك معكً في قيادة التنظيم، وأين أوكار التنظيم، وما ھي المواعيد الحزبية القريبة. يا إسماعيل عليك الإجابة فورا على ھذه الأسئلة، وليس أمامك سوى وقت قصير لأن ساقك تنزف، ولن تلق أي علاج قبل الإجابة على ھذه الأسئلة.
وعندما تظاھر إسماعيل بالتعب، فلديه عذر إصابته بطلق ناري، تلقى لكمة ھائلة على فكه، ستترك أثرھا إلى الأبد في وجھه، ولكنه دخل في إغماءة، كان يسمع لغطاً من حوله، دون أن يستطيع تحديد ما يحدث، سمع استدعاء رجل إسعاف، سمع رجل الإسعاف يقول لا بد من بعض الإجراءات وإلا…
سرعان ما تلقى صغار الجلاوزة أمراً بتقديم الإسعافات الأولية له، فإن موت إسماعيل لن يفيدھم شيئاً، بل يعني ذلك ضياع معلومات مھمة، وھكذا بدأ إسماعيل بتلقي العلاج، وشعر بوخزة حقنة في الوريد وأخرى في العضل، ثم يد تمتد وتشتغل بساقه، كان موضع الإصابة فوق الركبة، لم يشعر بألم شديد، واستغرب
ذلك..!
بعد أن عاد لوعيه، وتم وتنظيف الجرح وتضميده، قابلة رئيس المحققين، باحترام عارضاً عليه الجلوس أمامه، وقدم له الشاي، وسيجارة امتنع إسماعيل من أخذھا. وابتدأ رئيس المحققين رحلة الألف ميل…
ـ انظر إسماعيل، أولاً إنك لست ضحية خيانة، بل أن رفيقك لم يعترف على الموعد إلا بعد أن ذاق من
العذاب ما لا يتحمله إنسان. والآن تخلى عن أي فكرة أن تلعب معنا، وأجب على الأسئلة، التي بوسعنا
ًً طبعا انتزاعھا منك بالتأكيد، ولكننا نريد أن نكسبك صديقا.
امتعض إسماعيل من فكرة، أن المحقق متأكد من انتزاعه المعلومات والأجوبة، فقد أحس أن الأمر ينطوي على شيء من الاستخفاف به، وإھانته. وشعر بعمق ووضوح، أن اختبار مقدرته قد حلت ساعتھا، وھو يواجه الآن تأكيد قدراته النضالية والقيادية، أنه يريد أن يؤكد لقيادة الحزب أنھا ما أخطأت في تقديرھا له،
ولن يكون إسماعيل ميكانيك إلا جديراً بھا.
ولكن إسماعيل أدرك في ذات الوقت أن ًالخروج من ھذه الحفلة التي ابتدأت بالدماء لن يكون سھلاً، وماذا بعد..؟ لقد كان إلقاء القبض عليه ھاجسا، وھا قد أصبح خلف، وأن تساء معاملته، وھا ھو مصاب بطلق ناري في ساقه، وربما أن فكه محطم بضربة اللكمة الاستقبالية تلك … طيب لنرى ماذا بعد ..؟
جمع إسماعيل كل شتات روحه، وأدرك أنه إما أن يبدأ بالحديث، ولا يتكھن بنھايته ..! أو أن ينكر كل شيء وليحدث ما يحدث.
ـ أنا إسماعيل محمد المعروف بميكانيك، أشتغل في محلي الكائن في شارع الشيخ عمر وأعيل عائلة مكونة من والدتي وشقيق وشقيقة أصغر مني ولا علاقة لي بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد .
35
ـ لولا الرصاصة في فخذه لما استطعنا القبض عليه.
ضحك رئيس المحققين حتى استلقى على قفاه في كرسيه الدوار، ولربما تصور أن إسماعيل يمازحه، وإسماعيل كان يمتلك وجھاً فيه شيء من البراءة الطفولية، وتخاله يمزح فيما ھو جاد في ما يقول.
في تلك اللحظة بالذات تخيل إسماعيل أمه وھي تزيح طرف الستارة وھي منتظرة عودته، وربما تناول العشاء معه، وق ّدر أن بضعة ساعات قد مضت على خروجه من البيت، ابتسم، ولم يستطع أن يمنع أن ترتسم تلك الابتسامة على وجھه الطفولي أصلاً.
ـ ما الذي يُضحك إسماعيل. سأل رئيس المحققين. ـ وعدت أمي بالعودة مبكراً لتناول العشاء معھا. ـ ھل كان موعدك الحزبي سريع لھذه الدرجة، أقصد ھل لقاءك بسعد لن يستغرق طويلاً..؟ ـ لم يكن ھناك أي لقاء حزبي، أنا أعرف سعد منذ زمن طويل وربما كان ينشدني في مساعدة مالية بسيطة. ـ وھل أوضاعك المالية طيبة لتساعد غيرك ..؟ ـ الحمد ?، مستورة، وبوسعي تقديم مساعدة ربما بحدود عشرة أو خمسة عشر دينار. ـ والعمل الحزبي الذي بينك وبينه ..؟ ـ ليس بيننا أي عمل حزبي. ـ لقد اعترف سعد، بعد الضغط عليه، أنه كان بصدد لقاء حزبي معك. ـ ربما صرح بذلك لخوفه، أو ليتخلص بذلك من التعذيب. ـ اخرس نحن لا نعذب. ـ العفو من الضغط عليه، وسيادتك قلتم ذلك للتو. ـ يعني ھل تريد القول أنك لا تمارس عملاً حزبياً ..؟ ـ أنا لا أمارس شيئاً سوى الميكانيك. ـ طيب سنرى كيف تعترف على الميكانيك والفيزياء … كانت تلك إشارة كافية ليتسلمه الأوغاد، أدرك فيھا إسماعيل أن ينسى الفطور والغداء والعشاء مع الوالدة، ونوم البيت الھادئ، وسماع طرق أدوات العمل ولحام الأوكسجين.
علّقوا إسماعيل على شباك من تحت إبطيه، وقال إسماعيل في نفسه، أنھا أھين مما كنت أسمع، فالتعليق ليس من الرسغ، أو التعليق بالمقلوب, وكانت أطراف اقدامه تلامس حافة الشباك فيحس ببعض الراحة، ولكنه لم يكن يفعل ذلك بوجود الجلاوزة، كان يبدي التأوه والألم وما أن يغادرون الغرفة، يعمد للاتكاء بكعب قدميه على حافة الشباك فيخف الضغط على كتفيه. شعر بالسعادة لھذه الصدفة الممتازة، ضحك في
سره، أن اكتشف فائدة واحدة لقصر القامة …! وبين ساعة وأخرى كان يطل عليه أحد رجال التحقيق
ـ ھا ھل تريد الاعتراف ..؟ ـ يا عمي أنا ميكانيك، اسألوا علي في الشيخ عمر. يجيبه إسماعيل، وھو يبدي الألم. ثم تناھى لسمعه، أن رئيس المحققين يلاحظ، أن ليس ھناك من يحتمل التعليق بھذه المدة، فأمر: تأكدوا من اعتراف سعد .
أنزلوه، وقال له المحقق الثاني، أنھم يتركوه للغد، وسنرى.
وانزوى إسماعيل بطرف الزنزانة، كيف له أن ينام ورصاصة في ساقه، ويعاني من آلام مبرحة في فكه، ولكنه كلما فكر أن عاصفة حقيقية مرت عليه: رصاص، ولكمات حطمت فكه، وتعليق، وتھديد، يوم ، أو
36
أمسية حافلة، مضت دون أن ينھار، بل لم يفكر حتى بالانھيار، وعندما تذكر والدته، لم يكن ليستطيع الامتناع عن الضحك …
أفاق ًصباحاً على صوت طرق متوال على الباب: إسماعيل ميكانيك، عجباً لقد تسلل ھذا اللقب إلى ھنا أيضا، ثم أنه لا يتذكر كيف غفى في زاويته المزرية تلك، وھذه اعتبرھا من العناصر الإيجابية، وسرعان ما فُتِح الباب ليواجه وحشاً جديداً لا ينتمي إلى وحوش الأمس.
ـ إذن أنت لست حزبياً .. ماذا إذن ..؟ ـ أنا ميكانيكي … ميكانيكي في شارع الشيخ عمر. ـ اسمع إسماعيل ميكانيك، ما تزال رصاصة في ساقك، والجرح ربما يتعرض للتعفن، يعني غنغرينا .. ھل تفھم معنى ذلك ؟ أرح نفسك وأرحنا إذن. أنت تسلمت مھام حزبية كبيرة في بغداد تكلم سريعاً عن تلك المھام والأشخاص، ولا بد أن يتم ذلك اليوم ؟ ھل فھمت .. اليوم. ـ أنا لا أعمل في السياسة، ولست حزبياً وأخشى أنكم متوھمون ؟
تلقى إسماعيل ركلة على مؤخرته قذفت به على الأرض وأحس أن جرح ساقه يوخزه بشدة.
تصنّع إسماعيل شعوراً طاغياً بالألم ممسكاً بساقه وبدأت الدماء تنز من اللفافات الطبية. ولكن ذلك لم يكن ليوقف الوحش المتنكر بثياب رجل أمن، بل يبدو أنھم أوكلوا إليه استنطاق الميكانيكي العنيد.
علّقوه من جديد ولكن على شباك جديد، كانت قدماه معلقتان حقاً في الھواء، ولم يطل الأمر كثيراً ففقد الوعي، وشعر أنھم أنزلوه وكان الخدر قد استولى على كتفيه، وكان يتمنى الموت، لينتھي من ھذه المعاناة التي لا نھاية لھا. واعتبر أن حظه كان سيئاً إذ لم تصبه الرصاصة في مقتل.
أخذوه للمحقق مرة أخرى. ـ ھل تعتقد أنك سنقتنعنا برواية محل الميكانيك ..؟ ـ ليس لدي ما أقوله لكم … أنا عامل على باب الله. ـ ولماذا تطلق النار على رجال الأمن. ـ لم أكن أعرف أنھم رجال أمن، وتصورتھم لصوص يريدون الاستيلاء على ما في جيبي من مال.
وأعيد للتعليق، وشاھد بنفسه قطرات من الدم تسيل من ساقه حًيث كان معلق، كان الألم يضغط على كتفيه، تذكر تلك الأمسية التي تسلم فيھا تنظيمات بغداد، كان مستغربا ھل تعرفه القيادة لھذه الدرجة ؟
أنا إسماعيل عبد الحميد .. تعرفني القيادة القطرية للحزب بالاسم ..؟
واسترسل إسماعيل في أفكاره، فاعتبر أن الجزء الأعظم من الملحمة قد انتھى، وھا ھو يعانق مجد الصمود في ھذا المعتقل الرھيب، ويذيع اسمه بين الرفاق، وسيصبح الجميع أن يفخروا بإسماعيل ميكانيك الرفيق )ع( الذي اقترحه لقيادة منظمة بغداد، وسائر الرفاق الآخرون، بل وحتى والدته، وشقيقته التي كان يكلفھا بنقل البريد الحزبي، المعجبة بشقيقھا المناضل، وكم سيخيب ظن كل ھؤلاء إذا انھار وتھاوى، أنه
سيفقد نكھة حياته كلھا. لا لن تفعل ذلك إسماعيل …
37
ھا أنت تحمل رصاصة في جسدك، ولكمة حطمت لك فكك، وتعلّقت يومين، والأھم من ذلك وقع الصدمة الأولى.
كان الألم يضغط على كتفيه، ولكنه كان يسبح في بحر الامتنان من نفسه، من الحزب الذي وضع الثقة فيه. ق ّرر أن يكون أھل الثقة.
إن ھذا الألم ھو في الواقع ليس شيئاً مھماً، المھم ھو الحزب، المھم ھو القيام بالواجب، المھم ھو المجد الذي سيناله بين الرفاق، المھم أن لا يكون لديه شيء يخجل منه، كم كان فخوراً عندما ينادوه. . رفيق إسماعيل … لابد أن يجتاز الرفيق إسماعيل ميكانيك ھذا الاختبار … لا بد …
وفقد وعيه.
شعر بأن المضمد يفتح لفائف ساقه، ثم كأنه سمع بأن الرجل يقول لھم أن الجرح سيلتھب حتماً ثم أن فكه المحطمة مشكلة أخرى. لا بد أن يعرض الرجل على طبيب أخصائي. وبعد استفاقته، أُخذ إلى المحقق.
ـ إسماعيل … لابد لك من الاعتراف، ھيا وإلا سيكون الوقت متأخراً فغداً ھو اليوم الرابع، ومن المؤكد أن بعض المواعيد الحزبية قد مرت، وحالة ساقك تسوء، واليوم ھو آخر فرصة لك، لابد من أن ننتھي من الأمر ھذه الليلة.
ـ يا عمي لماذا لا تريدون تصديقي، أنا مجرد عامل ميكانيك … بإشارة من رئيس التحقيق، قبضت يد قوية على كتفيه، تجرجره إلى الشباك.
وكانت وجبة تعذيب، كان إسماعيل خلالھا يھذي ويئن، ويتأوه بصوت منخفض، كأن من العار إبداء الألمً والوجع أمام ھؤلاء الأوباش. كانت كل دقيقة تمضي يعتبر نفسه أقرب للخلاص، فھو إما سيموت ساحبا معه إلى القبر أسرار التنظيم وھو أھم ما كان يستولي على عقله وفؤاده، ومن جھة أخرى، نھاية من يد ھؤلاء الأوباش الذين كانوا يركزون في ضرباتھم على ساقه الجريحة كان الألم ينخره، لا تصرخ… لا تتألم … فيفرح عدوك، ويتوھم بأنه قريب من ھدفه، ھدفه ھو إسقاطك، أنت مؤتمن على أھداف شعب وأمة، كيف ستحقق أھداف عظيمة دون آلام، كيف ستثق بك الجماھير وأن لا تجتاز أول امتحان…. ومع أنه يا للعنة امتحان صعب، ولكن ھ ّون عليك فليس سوى امتحان الأطفال فقط سھل، فكر للحظة أنه إذا استشھد سيحتفلون بذكراه وبصدر بيان من قيادة الحزب يحمل صورة له … لا الموت أھون من الاستسلام
..!
كن عزيزاً كن قوياً كن طاھراً كن أبياً …و … فقد إسماعيل وعيه .. ـ سيدي ھذا الميكانيكي فقد وعيه ..
أفاق إسماعيل ووجد نفسه على سرير أبيض نظيف، وممرضات أنيقات بثياب بيضاء نظيفة، فتصور للحظة أنه في السماء في مرحلة ما بعد الموت، وعندما استعاد بعد ھنيھة حواسه، أدرك أنه في المستشفى. وبعد قليل جاءته الممرضة جنان، ھكذا ع ّرفت عن نفسھا، قالت له ھامسة، يا إلھي ماذا حل بك ؟
ـ اصطدمت بشاحنة كبيرة. قالھا وضحك.
38
ـ لا أنا أعرف من أين جاؤوا بك، فھذه ردھة خاصة في مستشفى الشعب للموقوفين، ولكن حالتك فظيعة،
ً
فأنت كنت على وشك أن تفقد ساقك. ولكن ھذا لم ينته فسوف تجرى لك عملية قريبا. ما ھي قصتك ؟
ـ أنا فظيع … قالھا وغمز بعينه، فمثله يمزح بلطف لا يزعج، ابتسمت الممرضة وابتعدت عن سريره.
في اليوم التالي خضع فعلاً لعملية جراحية طويلة، أخرجت الرصاصة وكانت قد حطمت قطعة صغيرة من العظم في طريقھا، كما أعيد فكه المخلوع إلى مكانه. ـ ستصبح على أفضل ما يرام ..ھا ..؟ أنا الدكتور سعد أخصائي العظام. ـ أشكرك دكتور سعد، سعد يحطم ساقي وسعد يصلحھا ..!
ً
ـ لم أفھم . قال الطبيب مستفھما.
ـ لا شيء.. لا شيء البتة، إنھا مصادفات فقط. ـ ستكون على أفضل ما يرام، ولكني أخشى أن ساقك اليمنى ستكون أقصر من اليسرى ببضعة ملمترات، ـ وھل ستكون لھذه آثار أخرى ؟ ـ كلا، سيكون بوسعك السباحة والركض، ولكنك لن تستطيع التنافس في بطولات الساحة والميدان.
قالھا الطبيب وضحك، وشاركته الممرضة جنان، وإسماعيل الذي بھر الجميع بصلابته وقوة معنوياته.
تمضي أيام وإسماعيل في المستشفى، كاد الجرح أن يشفى. ولكن لا الممرضة أو الطبيب كانوا بموقف يستطيعون به التصريح بشفاء المريض، فھم يدركون أنه سيعود إلى سياط الجلاوزة، وإسماعيل قال لھم أن أمامه جولة ملاكمة جديدة، فبھت الطبيب وتصور للحظة جدية القول، ولكن ابتسامة إسماعيل جعلتھم
يدركون أنه يتندر على عذابه، بل يسخر ممن يحاول تحطيمه.
تع ّرف إسماعيل على شاب في مستشفى السجن، وكان ھذا شجاعاً جريئاً، كان قد ثأر لأخ له وقتل قاتله، وأصيب أثناء المعركة فجيء به للمستشفى. وتوطدت الصلات بينھما، وكان للاثنان مصلحة بمحاولة الھرب، فعودة إسماعيل تعني المزيد من التعذيب، وإن كان أقل مما واجھه إلى حد الآن، باعتبار أن أمام المحققين قضايا جديدة طازجة، وقضية إسماعيل أصبحت من القضايا القديمة، فھناك خلايا وتنظيمات جديدة بحيث تنعدم أھمية تنظيم إسماعيل. أما الشاب محمد فأمامه قضية سينال عليھا سجناً لمدة لا تقل عن
عشرة سنوات.
أدرك إسماعيل أن لدى محمد شيء يقوله. وعندما دنا منه بعد العشاء كان ھذا صريحاً، فجاً كشخصيته البعيدة عن اللياقات، ولكنه أدرك بفطرته أن إسماعيل شأناً خاصاً بالنظر لعناية الأطباء به، والتشديد عليه وعدم السماح له بمواجھة ذويه.
ـ شوف يا أستاذ إسماعيل إني أعرف أنك شخصية مھمة، أنا أخرجك من ھنا، وأوصلك إلى الحدود، وما عليك إلا تدبير أمر قبولي في الدولة المجاورة. ما رأيك ؟ ضحك إسماعيل وقال : يا أخي أنا لست أستاذاً ولا بطيخ، ما أنا سوى عامل ميكانيك فقط.. ـ عقلي يقول لي شيئاً آخر، لا تريد أن تقوله لي، ولكن دعنا من ذلك ما رأيك بالفكرة ؟ ـ دعنا نفكر بالموضوع. ً ـ الأمر لا يحتمل التفكير فغدا سيعيدونني للموقف وأنت بعدي بيوم واحد، ھذا ما علمته من قلم المستشفى اليوم. ـ إذن ما العمل ؟ ـ سنخرج اليوم ليلاً وأنا قد رتبت الأمر كله، وھناك من عشيرتنا من ينتظرنا على باب المستشفى، والأمر كله مدروس بعناية.
39
لم يكن لإسماعيل أن يرفض، نعم ھي مغامرة كبيرة، ولكن ما ھي المغامرة الصغيرة ؟ ُدھش إسماعيل فقد كان يتصور أن المناضلين العقائديين فقط ھم الذين يتمتعون بجرأة ورباطة الجأش، فقد كان محمد يتصرف وكأنه مقدم على نزھة بسيطة، ترى ھل ھذه تعني استخفاف بالمخاطر أم جرأة غير
معقولة، أم اطمئنان قد يبدو مبالغ به ؟
كان محمد قد استطاع أن يجد باباً تعطل أحد أقفاله، يفتح بحركة بسيطة جداً من يده، وھكذا وبعد أن اجتازا الحديقة الصغيرة وجدا نفسيھما قرب باب المستشفى الرئيس حيث عشرات من سيارات الأجرة وباعة الحلويات والأطعمة وموقف سيارات ً المراجعين وموظفي المستشفى، فما كان أسھل عليھما أن يندسا بين الجموع بسھولة غريبة، وكانت حقا سيارة أقرباء محمد بالانتظار، ودون إضاعة وقت توجھت بھما السيارة صوب الحدود، وھناك تسلمھما شخص تبدو عليه آيات الاحتراف، وبعد ساعتين فقط كانا على
وشك اجتياز الحدود.
تطلّع المھرب المحترف صوب محمد وقال: ھل صاحبنا، قالھا وھو يشير إلى إسماعيل سيضمن لنا العبور بأمان ؟ ـ حتماً، اتجه لأي مخفر شرطة حدود وسيكون كل شيء يسير.
تأكد إسماعيل أنه قد أصبح في الجانب الآخر من الحدود. وعندما دخلا مخفر الحدود الذي كان يبدو قد اعتاد مثل ھذه الأحداث
ـ ھل ھناك من يزكيكم يا أخوان؟ ـ نعم، اتصل بالجھة الفلانية المكتب )س(، وأعتقد أنھم سيتعرفون على اسمي بعد إجراءات بسيطة. ـ ھل أنت متأكد أنك معروف لدى الجھة الفلانية ؟ ـ نعم، أو أنھم سيسألون عني وربما الأمر لن يستغرق أكثر من بضعة أيام. وأمسك مأمور المخفر بسماعة الھاتف بين مص ّدق ومك ّذب، ھذا الشاب العراقي القصير القامة الذي يسير بصعوبة، ولكن ملامح الرجال أمامه لا تشير بالكذب. ـ ھالو .. ھنا مخفر الحدود الشرقية رقم كذا، يا سيدي ھنا رجلان يدعي أحدھم واسمه إسماعيل، لحظة رجاء، ما اسم الأخ إسماعيل؟ ـ قل له إسماعيل ميكانيك .. ـ إسماعيل ماذا )قالھا مأمور المخفر وغطى سماعة الھاتف( ـ إسماعيل ميكانيك ھذا ھو اسمي. ـ يا سيدي الرجل يقول أن اسمه إسماعيل ميكانيك، نعم … نعم يقول اسمه إسماعيل ميكانيك. ـ تأمر سيدي ، حالاً سيدي وأعطى قائد المخفر سماعة الھاتف لإسماعيل . ـ من أنت ؟ ـ أنا إسماعيل ميكانيك ـ من أي تنظيمات ؟ ـ تنظيمات فرع بغداد ؟ ـ ھل أنت الرفيق إسماعيل المنقول من تنظيمات المكتب العمالي ؟ ـ نعم . ـ أعطني قائد المخفر رجاء. ـ نعم سيدي ، نعم ، فوراً.
40
تطلب القيادة حضورك فوراً إلى قيادة الحزب، أھلاً بك أيھا الرفيق وإني آسف على شكوكي، وقد أمرت أن أسھل أمر مرافقك ھذا أيضاً، ستسافرون بالطائرة إلى العاصمة، سيكون ھناك مندوب من القيادة باستقبالكم في المطار يسرني أني استقبلتك أيھا الرفيق.
تاه إسماعيل فخراً .. ثم أنه خجل من تكريم مدير المخفر له لم يكن إسماعيل ميكانيك غير ذلك الرفيق المناضل ابن الجماھير حتى يومنا ھذا ..
برلين
21 / سبتمبر ـ أيلول / 2005
41
*? ?
تقرير عن يوم غير اعتيادي
??
9 / 11 / 2007
استيقظ سليم في الثامنة صباحاً، كان نور الصباح يتسلل عبر نافذة الغرفة المطلة على حديقة خلفية للعمارة السكنية التي يقطنھا منذ أربع سنوات ونصف، وكان بوسعه إن رفع رأسه قليلاً عن الوسادة، أن يشاھد نھايات الأشجار العالية، التي تحجب العمارة العالية التي أطلق عليھا بناتھا اسم ” طاحونة الرياح ” ربما
ً
باعتبارھا أعلى بناية سكنية في برلين تتألف من 24 طابقا، وكان سليم قد سكنھا لمدة ثلاثة سنوات كاملة
قبل أن ينتقل إلى البناية الحالية التي يفصلھما عن بعض حديقة وملاعب أطفال، قبل أن يستقر نھائياً في ھذه الشقة متنقلاً للمرة الثالثة في ھذه المنطقة بالذات من برلين.
تطلّع من النافذة، وحاول أن يستطلع فيما إذا كان الطقس ممطراً، فھي عادة سكان برلين، لأن على ھذا سيتقرر طبيعة الملابس التي سيرتديھا المرء. كان الجو رمادياً، وبالكاد كان بالإمكان مشاھدة زرقة السماء عبر ثغرات في القبة الرمادية، أغلق منبه الساعة، فقد استيقظ بدونھا قبل نصف ساعة، إذ كان قد أوى إلى فراشه مبكراً وھو الذي يعاني منذ عشرة أيام من أرق وانشغال بال لم يكن ليستطيع أن يتغلب عليه أو
يخفيه.
كان سليم قد استلم رسالة من محاميه يشير عليه بضرورة مراجعة دائرة الأحوال المدنية شخصياً وتاريخ الرسالة ھو 29/ أكتوبر، وفي حيثياتھا إشارة إلى رسالة الدائرة الوسطى للأحوال المدنية برلين )المؤلفة من 12 دائرة(، فاشتعلت الھواجس في رأسه فھو يقيم إقامة قلقة، فيما لم تكن أوضاع بلاده تترك له مجالاً للتفكير، فھو بذلك أشبه بكيان فاقد السيادة والسيطرة على مقدراته، دولة تابعة كما يس ّمونھا في العلوم
السياسية Vasall Staat.
عشرة أيام عانى فيھا من قلق يمزق ًالأعصاب، فالأمر مھم على أًية احتمال، جفا فيھا النوم مقلتيه، ورغم ذلك كان يستيقظ في الخامسة فجرا ثم يستحيل عليه النوم، ًعبثا يحاول عزل الأفكار عن رأسه، وھو الخبير في السيطرة على الھواجس وقد أمضى ستة عشر عاما يعانق فيھا القضبان وجدران السجن العالية،
اخترع خلالھا مقولة شھيرة أصبحت دارجة في السجن:
” امسك المقص واقطع بعناية كل الأشرطة الكھربائية التي تربطك بخارج السجن “.
اللعنة إنك لست في السجن الآن .. بل على مبعدة مائتي متر فقط من فيشر إينزل )جزيرة وسط نھر الشبرية(، حيث جنة متاحف العالم )خمسة متاحف ويعاد الآن إعمار المتحف السادس(.. ألا تستطيع أن تنسى …
نھض بتكاسل، ومضى بلا حماس يقوم بالأعمال الصباحية بالتسلسل، تعديل الفراش، والاستحمام الصباحي ثم تناول القھوة، ومنذ أيام لم يكن يتناول فيھا فطوره البسيط، فالأمر ضرب من النسيان أو اللامبالاة أو عدم الشعور بالأھمية، وإن شئت تجاھل لقواعد الحياة اليومية والتي تستحيل إلى ممارسات
آلية لا يلعب فيھا التفكير أي دور … أو لا وجود للأسباب الجوھرية … 42
ھل قلنا جوھرية …؟
وھل بقي شيء جوھري منذ ما يقارب الخمس سنوات ..!
لم يشأ أن يمنح الأمر طابعاً احتفالياً أو تقاليد المناسبات الفاخرة، ولكنه أراد أن يبدو نظيفاً ومرتباً وأن يمنح انطباعاً بالنظام … تذ ّكر فيما بعد أنھا بقايا ھواجس شرقية تتدخل دون إرادته فتفرض نكھتھا وتعبيراتھا، شيء يسكن في اللاشعور ..
ارتدى ملابساً لم تكن تعني شيئاً محدداً وغادر شقته بھدوء غريب استولى على حواسه، ثم أنه فطن إلى أنه ربما كان متأخراً بعض الشيء وبالقرب من المصعد تذكر أن يتأكد فيما كانت حقيبة اليد تضم كافة المستمسكات المطلوبة، ثم اعتمر بيرية ً سوداء ھو يرتديھا بطريقته المميزة، وھي بنوع ما إشارة إلى المعجبين بالثورات الشعبية المغدورة أبدا، والتي تفخر بشھدائھا وتحتفظ بصورھم بقدسية لا يشوبھا شيء
من طفيليات العالم الرأسمالي وميكروبات العولمة ..!
خرج من باب العمارة، واستقبلته أولى النسائم الباردة، لم تكن محطة الباص تبعد عن بيته كثيراً، في شارع كارل ليبكنشت )على أسم القائد الثوري الكبير(، حيث يقيم، مقابل كنيسة مارينين كيرشة .. بل بضعة خطوات فحسب، فما عليه سوى أن ينتظر الباص TXL المختص بنقل ركاب العاصمة إلى مطار تيغل، وليتوقف في بعض المواقف المھمة من الطريق، وھناك دائماً مستخدمين لھذا الخط، مسافرين تفضح سفرتھم الوجوه المترقبة المتوترة وحقائبھم المرزومة بعناية، فالسفر مشروع ينطوي على قدر من
المجھول، أو ربما ركاباً متنقلين ضمن العاصمة كما يفعل سليم في ھذا النھار الرمادي القلق.
في موقف الباص تطلّع إلى اللوحة الكھربائية التي تشير إلى الزمن المتبقي لقدوم الحافلات بأرقامھا وبوجھاتھا المختلفة. ستصل حافلته بعد 5 دقائق، سيدة مع زوجھا تنم ملامحھما عن جدية تامة، وشابة بيدھا حقيبة سفر، فھي إذن ستسافر إلى واحدة من القارات الخمس .. من يعلم … سفرة عمل أو للقاء
عزيز، أو ..
كان قد التقى مرة فتاة شابة في مقتبل العمر في مطار فرانكفورت، كان مسافراً إلى روما، فسألھا عن وجھة سفرھا، وھي تحمل حقيبة ظھر فقط، فأجابته: إلى جوھانسبرغ .. أريد أن أشاھد جوھانسبرغ ..
ف ّكر … أنه يسافر أيضاً، بل ھو يقوم بسفرة لم تخطر على باله طوال حياته .. ولكن دون حقيبة يضع يديه في جيوبه بدون اكتراث وبدون حماسة وش ّك أكيد بھدف الرحلة ..!
الساعة التاسعة والنصف ھو وقت زحام في العاصمة الألمانية، تقطع الحافلة فرع نھر الشبرية حيث تحرس كاتدرائية برلين رأس شارع الزيزفون، ومقابلھا يجتھد العمال بتقويض ما تبقى من البناية الشھيرة ” قصر الجمھورية ” التي كانت فخر العاصمة في الأيام السالفة، وقصر الرئاسة )الجمھوري( القديم أيام الاشتراكية، ثم تمر الحافلة من أمام جامعة برلين / ھمبولت، وعلى امتداد شارع الزيزفون تذكر أولى
ً
أيامه ھنا .. قبل أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما.
لقد طرأت تغيرات طفيفة على ھذا الشارع الذي يعود بتاريخه إلى أكثر من أربعمائة عام، شھد فيھا أحداث كثيرة، وإذا كانت نھاية الإمبراطورية، وإعلان الجمھورية كان قد تم في مدينة فايمار في جنوب شرق ألمانيا يوم التاسع من نوفمبر عام 1918، إلا أن تفاعلات الحدث تمت ھنا في برلين، بل في شارع الزيزفون، حيث قُتل ھنا بالتحديد بالقرب من الجامعة يوم الخامس عشر من كانون الثاني 1919، القائدان
43
العماليان الشھيران روزا لكسمبورغ وكارل ليبكنشت، حيث سيطلق اسم ليبكنشت على الجزء العلوي من الشارع )وحيث يسكن سليم في ھذا الحي منذ عام 1975(، ابتداء من القصر الإمبراطوري الذي تق ًّوض خلال الحرب، وكاتدرائية برلين، فيما سيطلق اسم روزا لكسمبورغ على الشارع الموازي له صعودا إلى
حي برينسلاوربيرغ العمالي.
كانت الحرب العالمية الثانية قد قضت على بعض أشجار الزيزفون حيث دارت ھنا معارك طاحنة في الأيام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة للحرب العالمية الثانية، إذ يقع دار المستشارية القديم التي اتخذ ھتلر في ملجأ قريب منه مقراً له حتى انتحاره، بالقرب من بوابة براندنبيرغ الشھيرة، ولكن السلطات فيما بعد الاشتراكية والرأسمالية على حد السواء أعادت زراعة أشجار الزيزفون وبذلت العناية به، فلا يعقل أن يكون شارع الزيزفون بلا زيزفون، فالأمر ھنا لا علاقة له بالاشتراكية أو الرأسمالية، والزيزفون وشارع
الزيزفون جزء مھم من تاريخ مدينة برلين.
وھنا أيضاً تشاھد ورش عمل تعمل منذ زمن على استعادة واجھة عمادة جامعة برلين ذو الشرفة التاريخية حيث ألقى ھنا ھتلر خطاباً واحدة من خطبه النارية والكارثية، عشية فوزه بمنصب مستشار الرايخ، وھنا في ھذه الساحة مقابل مقر الجامعة شھدت يوم التاسع من نوفمبر 1933إحراق الكتب فيما أطلق عليه بليلة الكريستال، التھمت النيران فيھا الكتب التي ارتأى النازيون أنھا معادية للشعب الألماني، في مشھد كارثي
يصعب على الذاكرة نسيانه.
والآن فقد اقتلعت أرضية الساحة منذ العام المنصرم و ُشيّد تحت أرضية الساحة موقف سيارات فخم ذو عدة طبقات، فيما بقي الحال على ما كان عليه فوق الأرض ، ويعاد ترميم الكنيسة البروتستانتية ذات القبة الخضراء الشھيرة، والتي تحتوي على أعظم أرغن ھوائي في العالم، كما أعيد ترميم بناية مجاورة مشيدة على طراز الروكوكو لتصبح فندقاً فخماً يرتاده الأثرياء لينعموا بأجواء وسحر شارع الزيزفون، والذي
يحكي كل متر مربع منه عشرات القصص والأحداث.
وفي ھذا الشارع أيضاً بوسعك أن تستعرض ذاكرة العالم الفنية عبر أبنية تحمل على الأرجح طابع الباروك و الروكوكو والباو ھاوس، وسياسياً، لك أن تتخيل مشھد نابليون يختال بجواده في ھذا الشارع .. والعربة التي تجرھا أربعة خيول والتي تعلو بوابة براندبيرغ الشھيرة تتجه صوب الشرق … العربة متجھة صوب الشرق .. وللأمر مغزاه السياسي والعاطفي بالطبع ..ألم يشيد كارل ھاوسھوفر نظريته الشھيرة المجال الحيوي)Lebensraum( على الأساس الاستراتيجي الجيوبولوتيكي : الزحف نحو
الشرق )Drangen nach Osten( ولكن ھذه السياسة ج ّرت الويلات على ألمانيا وشعبھا …
ولن نستطرد رغم جاذبية الموضوع، وإلا انقلب الأمر إلى محاضرة في الفكر السياسي …..!
وھنا عدة أبنية ھي من تصميم المعمار الألماني الذائع الصيت كارل فردريك شنكل، بناية الحرسً الإمبراطوري، والمتحف القديم، وأوبرا الدولة أبولو، حيث عزف ھنا مرة صديقه منير بشير منتزعا الإعجاب من جمھور ذكي يصعب إرضاؤه، وإلى الجوار يعاد بناء أكاديمية الفنون وھي من تصميم شنكل أيضاً، ھدمت عوادي الزمن البناية ولم يبقى منھا سوى زاوية وضلع، يعمل الخبراء في المعمار إلى إعادة
ً
البناء إلى ما كان عليه، ويقع مقابل وزارة الخارجية الألمانية تماما.
على بعد أمتار قليلة موقع بناء في زاوية شارع فردريك الكبير، شركة بناء شھيرة تعيد بناء صرح معماري في موقع فندق كان قد ُشيّد ھنا على عجل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبرلين تستعيد قديمھا، ولكن بعناية وذكاء. وھنا أيضاً أُعيد بناء فندق أدلون التاريخي وھو الآخر جزء من شارع الزيزفون، ثم ينعطف الباص ليدخل شارع فيلھام التاريخي، الذي كان شارع الحكومة في مطلع القرن
44
المنصرم، فھنا كانت بناية وزارة الدعاية في عھد الوزير فرانتز غوبلز، التي أصبحت مقراً للجبھة التقدمية في زمن الحكم الاشتراكي، وھنا أيضاً بناية شيّدت حديثاً بعيد الحرب العالمية الثانية وانتقلت إليھا سفارات العديد من الدول العربية وغيرھا ومنھا سفارة الجمھورية العراقية حتى كانون الثاني / 1976، ومقابلھا تماماً على رأس تقاطع ًشارع كلارا زيتكين )الشارع باسم القائدة العمالية الشھيرة( بناية جميلة ذات عمارة متميزة ھي تاريخيا مقر كلية العلوم التابعة لجامعة برلين / ھمبولت ولا تزال، ثم جسر مارشال الشھير، وتطل عليه بنايتان أعيد ترميمھما لتحتل الأولى وھي الأكبر القناة التلفازية الأھم ARD، والأخرى لتكون مقر القناة التلفازية الشعبية RTL وبعد الجسر مباشرة، بنايات تاريخية أصابت منھا قنابل الحرب العالمية الثانية جروحاً عميقة ولكن أُعيدت إليھا الحياة مؤخراً، ومقابلھما مبنى البرلمان الألماني الشھير الرايخستاغ، ومباني البرلمان الحديث البندستاغ في مزج رائع بين الأبنية القديمة ذات المھابة
والذكريات التاريخية.
ثم ھناك بناية لا تبدو عليھا الفخامة، ولكن كل برليني يشتھي الدخول إليھا، فھنا شھدت حفلات يحار المرء في وصفھا، نادي السينمائيين )الموفي كلوب( وبخاصة الحفلات التنكرية التقليدية في ألمانيا التي تبدأ 11/11 من كل عام وتستمر لمدة شھر كامل، وكان بعض الأصدقاء قد احتالوا على سليم وسھر معھم
بضعة ليالي في ھذا النادي الأسطوري.
الباص ينحرف بالقرب من تمثال رودلف فيرشوف قبالة مستشفى الشاريتيه وقد افتتح حديثاً مقھى ومطعم ھو شاھد على الديمقراطية الغربية والمطعم يحمل اسم كانسلر كافيه )مقھى المستشارين( ويضع في مقدمة المطعم بطريقة لا تحمل على النفور، لا ترتطم بالوجه بفضاضة مزعجة كما ھو الحال في بلداننا، صور مظللة للمستشارين الذين حكموا ألمانيا منذ نھاية الحرب الثانية: أديناور، إيرھارد ، كيسنجر، براندت،
شمدت، كول، شرويدر، وأخيراً السيدة ميركل.
تجولت الأفكار في مخيلة سليم فذاًكرته تحتفظ في كل زاوية من ھذه الأماكن بذكريات وصور عمر البعض منھا أكثر من ثلاثين عاما، يوم كان يعمل في برلين ثم خلال دراسته الجامعية، فأمام جسر مارشال مباشرة حدث مرة أن صدمت سيدة ألمانية كانت تقود بسرعة سيارته، ثم انخرطت في نوبة بكاء، فأخذ يواسيھا ويھون عليھا، رغم أنه كانت المتسببة بالحادث. وفي إحدى الأبنية التاريخية ھنا ذات الأعمدة
والسلالم الحجرية حيث كانت دائرة الجمارك، استخرج إجازة استيراد.
الباص يقطع طريقه في الزحام، وبسبب زوال الجدار الذي كان يفصل بين شطري مدينة برلين، الذي
ً
يصادف سقوطه مثل ھذا اليوم أيضا: 9/ 11 يتوقف أمام محطة القطارات الرئيسية في برلين والذي كان
يُسمى سابقاً ليرتا بانھوف، والبناية الجديدة عملاقة وآية في الفخامة، ولربما ھي أفخم محطة قطار في
العالم، إذ تسير القطارات بعشرات الأرصفة في أربعة طوابق، والبناء العملاق يضم عشرات المطاعم
ومحلات بيع اللوازم الضرورية وھو بأكمله من الزجاج الصلب، وعندما جاء سليم في المرة الأخيرة
ًً
ليستقر ھنا، كان ھذا البناء ل ّما يكتمل بعد، وھكذا فقد تسنى له مراقبة اكتماله شيئا فشيئا.
وتلك البناية الحمراء العملاقة ھي سجن، سجن قديم وشھير في برلين سجن موابيت وھو اليوم سجن موقف التحقيقات، وفيه أعدم النظام النازي معظم الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية حزيران / 1944 بقيادة العقيد كلاوس شتاوفنبيرغ، وقد قامت قبل وقت قصير شركة أمريكية بتمثيل فلم عن ھذه الأحداث يقوم ببطولته الممثل الأمريكي الشھير توم كروز، ورؤية السجون تثير في سليم شجون وردود فعل نفسية، فھو قد أمضى ثمانية عشر عاماً من عمره في السجون، لأنه يحب بلاده .. وكما يقول سانت جون بيرس
والحب لا يمنح حامليه سوى النزف على الشواطئ ..
وھكذا فقد نزف سليم الكثير على شواطئ بلاده .. 45
وھنا مجمع إعلامي / ثقافي، مكاتب إدارة مجلة فوكس التي تعد من مجلات المقدمة في ألمانيا، واستوديوھات النقل الخارجي، فمن ھنا تمت مرة مقابلة تلفازية مع سليم لمدة ساعتين، وھنا أيضاً معھد اقتصاد العمل حيث اتبع سليم دورة قبل أكثر من سنتين مع عشرة من الأكاديميين الذين يحملون شھادات
عليا حصراً)دكتوراه(.
بلغ الباص محطة شارع تورم، وغير بعيد من ھنا، يقع ميدان ماتيلدا ياكوب بلاتز) 1 ( حيث دائرة الأحوال المدنية الدائرة الوسطى برلين …
تر ّجل من الباص … سار بتكاسل، أو إن شئت الدقة يقدم رجلاً ويؤخر أخرى … خائفاً ..؟ متردداً …؟ حائراً .. ؟ نعم حائراً ذلك ھو الوصف الأدق، فھو كالذي سار في طريق وعليه أن يت ّمه ..! الأشياء تقرر وتحكم نفسھا بنفسھا، وتلك ھي أسوء الأحكام، بغير قناعة كبيرة .. لا تسل عن القناعات رجاء ..
المسافة من موقف باص شارع تورم حتى ماتيلدا ياكوب بلاتز 1 أقل من مئة متر لا يقطع خلالھا سوى شارعاً فرعياً واحداً، وھناك علامة ضوئية لتنظيم السير في ھذا الشارع الفرعي، ولكنه خا ٍل من السيارات تقريباً .. امتثل رغم ذلك للإشارة الحمراء ..
دخل البناء العريق في قدمه .. واتجه صوب المصاعد الثلاثة الفسيحة التي يتسع كل منھا ربما لخمسة عشر شخصاً .. ضغط على الرقم 3 …
في الطابق الثالث يقود سھم يؤشر أرقام الغرف التي على المراجعين التوجه إليھا حيث طلبوا إليھا .. نظر إلى الساعة، العاشرة وعشرة دقائق، ھناك عشرون دقيقة تفصله عن موعده، سار قليلاً في الممر الطويل الذي يبلغ ربما أكثر من 200 متر طولاً ووجد بسرعة الغرفة التي يقصدھا رقم 355 ما زال ھناك حوالي العشرين دقيقة، كان التوتر يتصاعد يحاول كبحه .. لعله اشتاق في تلك اللحظة للتدخين الذي كان قد أقلع عنه في نوفمبر / 1992، خلع البيرية السوداء، ولكن البرد أرغمه على الإبقاء على المعطف الجلدي الأسود الذي كان قد اشتراه من بغداد في شھر نوفمبر عام 2002 .. أه .. أيضاً نوفمبر ھنا .. ثم تذكر يوم حصوله على جواز السفر في نوفمبر أيضاً .. يا للدھشة .. نوفمبر دائماً .. وقد التقطت له ابنة شقيقه صورة تذكارية وھو يتصفح ضاحكاً جواز السفر الذي دفع من أجله ستة عشر عاماً خلف القضبان، وك ّماً
خرافياَ من العذاب.. من أجل جواز سفر … فقط …!