عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار
عبد الحسين شعبان
الحلقة الثامنة
“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي
خمسة يطردون خمسة
تساءلت مع نفسي مجدداً كيف وافق عزيز محمد سكرتير الحزب حين اجتمع خمسة رفاق (1989) ليطردوا خمسة رفاق على حد تعبير باقر ابراهيم أحد المطرودين ومعه حسين سلطان ونوري عبد الرزاق وعدنان عباس وناصر عبود، والإشارة إلى اجتماع عزيز محمد وفخري كريم وحميد مجيد موسى وعبد الرزاق الصافي وكريم أحمد وقبلهم وبعدهم تمت التضحية ببهاء الدين نوري وزكي خيري وآرا خاجادور وعامر عبدالله وماجد عبد الرضا ومهدي الحافظ ونزيهة الدليمي وعبد الوهاب طاهر ومكرّم الطالباني وعشرات آخرين.
أعرف أن بعض الذين راهنوا على المؤتمر الرابع للحصول على المواقع، شعروا بالخذلان بعد حين وعادوا واتخذوا مواقف هي أقرب إلى المواقف التي اتخذتها الجماعة المعارضة من الحرب العراقية – الإيرانية والحصار الدولي والاحتلال ، وعبّروا بذات الأساليب التي تم التعبير عنها في أواسط الثمانينات حسناً فلنردد مع الروائي أميل معلوف: “المستقبل لا يعيش بين جدران الماضي”.
سأل الرفيق عزيز محمد ” ما هي المنبر وماذا تريد؟” ، أجاب نوري عبد الرزاق بهدوئه المعروف وفي ذروة الخلاف بين اتجاهين داخل الحزب الشيوعي: إنها باختصار حركة احتجاج ومعارضة حزبية علنية، وقد أعلنت عن نفسها ولديها جريدة هي الأكثر قراءة لديكم.
كان هذا الحديث قد حصل على هامش لقاء منفصل بين مكرم الطالباني المرسل كما قيل من جانب الحكومة العراقية للقاء الكتلتين الشيوعيتين (الحزب الذي مثله عزيز محمد وآرا خاجادور والجماعات المعترضة التي مثلها نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله)، أما اللقاء الآخر فقد انتظم بترتيب من آرا خاجادور الذي أداره (قبل تنحيته) وبحضور عزيز محمد ونوري عبد الرزاق وعامر عبدالله بهدف تلطيف الأجواء وإزالة التوتر، وتبادل الطرفان الحديث عن الأزمة الحزبية وأسبابها وسبل معالجتها والخروج من المأزق، وتم الاتفاق على وقف النشر من الطرفين والاتهامات المتبادلة وفتح حوار مسؤول .
وفي حوار مع نوري عبد الرزاق (المنشور في جريدة الزمان (العراقية) بغداد/لندن على ثلاث حلقات بتاريخ 30 و31/12/2019 و2/1/2020) قال نوري : نحن باختصار لدينا آراء مختلفة عن القيادة الرسمية وتتعلّق بقضايا مفصلية منها الحرب العراقية – الإيرانية والموقف من التحالفات ونهج التفريط وأساليب الكفاح. وقد دعونا إلى اجتماع موسع وكنا مستعدين للحضور ولعرض آرائنا ومواقفنا وبعدها نحتكم إلى قاعدة الحزب (ويمكن مراجعة آراء المنبر في حوار موسع مع الناطق الرسمي لحركة المنبر الشيوعي، الذي نشرته مجلة الغد “الماركسية” (اللندنية) العدد 21 ، تشرين الأول /اكتوبر/ 1987، التي كانت تصدرها القيادة المركزية ، تحت عنوان ” هموم ومشاغل الحركة الشيوعية”، وجاء في تعريفها ” المنبر” تطرح نفسها على أنها ” فصيل شيوعي معارض وجزء من الحزب الشيوعي ولديها وجهات نظر مخالفة للقيادة الرسمية للحزب …) .
أما اللقاء الأساسي مع مكرّم الطالباني فقد أمّنه الرفيق آرا خاجادور بترتيب مع الرفاق التشيك، وبالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية والسفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح (أبو هشام) وبدعم من منذر المطلك السفير العراقي في براغ، وحضره إضافة إلى عزيز محمد ، جلال الطالباني، مع تخويل خاص من مسعود البارزاني الذي قال: ما تتفقون عليه سأوافق عليه؛ وحصل اللقاء في فندق الحزب الجديد، وهو فندق يعود للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الذي يستضيف فيه بعض الشخصيات الحزبية وبعض رؤساء الدول أحياناً.
وكنت قد خوّلتُ من المنبر مع الرفيق الدكتور محمد جواد فارس للقاء قيادة الحزب لنقل تصورنا الأساسي بعد لقاء نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله مع الرفيق عزيز محمد ، فتوجهت إلى دمشق للقاء الرفيق كريم أحمد ، الذي استقبلنا في منزله بمساكن برزة ورحّب بنا وأبدى تفهماً وتأييداً لمبادرتنا، خصوصاً وأنها استكمال للقاء الرفيق نوري مع الرفيق عزيز، ووعدنا بأن جواب قيادة الحزب على توجهنا الإيجابي سيكون خلال فترة لا تتجاوز الشهر الواحد ، لكن الجواب ضاع في دهاليز البيروقراطية ، بل كان الجواب من نوع آخر حيث فُصل نوري عبد الرزاق، بعد أن وجّهت له رسالة إتهامية مخجلة من المكتب السياسي، مع الرفاق الآخرين.
أما آرا خاجادور فظلّ ينتظر بياناً يصدر عن الحزب يرحّب به بالاجتماع الذي جرى بين الرفيق عزيز محمد والدكتور مكرّم الطالباني وإبداء استعداد الحزب لتوجه جديد، لكن هذا البيان الذي حمله الرفيق عبد الرزاق الصافي إلى دمشق لم يصدر وهو ما أطلق عليه خاجادور “البيان المحبوس” وعلّق أحد الرفاق بسخرية على البيان المحبوس ، بأنه البيان المدفون أو الذي لم يرَ النور أصلاً..
وحين أستعيد أسماء الرفاق المفصولين أو المبعدين، سواء من إدارات الحزب أو من كوادره القيادية والوسطية أشعر بكثير من الحزن أن يتم التفريط بطاقات حيوية لأسباب تتعلّق بحرّية التعبير والاختلاف بشأن استراتيجيات الحزب وسياساته، فضلاً عن بعض الممارسات البيروقراطية ،لأن كل واحد من هؤلاء الرفاق يساوي حزباً سياسياً على طريقة الأحزاب الجاهزة الصنع، ولا يعني ذلك بمن فيهم المتحدث ليس له أخطاء سياسية أو شخصية أو نواقص أو ثغرات أو عيوب، لكن ذلك شيء ونهج التفريط والإقصاء والإلغاء شيء آخر، وهو نهج سار عليه صدام حسين في حفلة الدم المعروفة باسم ” مجزرة قاعة الخلد” العام 1979 حين أعدم 22 بعثياً بينهم 5 من أعضاء القيادة القطرية وحكم بأحكام غليظة على 33 كادراً قيادياً، مات بعضهم داخل السجن؛ أما المتبقون فقد كان عددهم 17 شخصاً حينما أطلق سراحهم العام 1983، وقد روى لي غسان مرهون وفارس حسين عن صنوف التعذيب التي تعرّضوا لها بحجة المؤامرة المزعومة. وقد شبّه عامر عبدالله مكيدة المؤتمر الرابع بمجزرة قاعة الخلد.
وفي الوقت الذي كان يتم التفريط بالنخبة الشيوعية كان يجري البحث في الدفاتر العتيقة عن أسماء أكل الدهر عليها وشرب أو بعضهم شيوعيين سابقين ممن تركوا العمل السياسي بسبب مواقفهم الضعيفة وتخلّيهم عن قناعاتهم وانزواء بعضهم لعقود من الزمان.
كان على الرفيق أبو سعود أن يكون حازماً، وأنا شخصياً أعرف أنه ليس مع الاستئصال أو التنحيات والإساءات، فهو يمتلك لساناً دافئاً، لا يذكر أحد إلاّ بإيجابياته وإن أبدى ملاحظة سلبية فستكون مغمّسة بروح المسؤولية والحرص والمودّة، ولكن للأسف لم يلعب مثل هذا الدور، فربما وقع تحت ضغوط كثيرة في الخارج، كما تعرّض لإبتزازات غير قليلة، لم يكن قادراً على مجابهتها لدرجة أنه وقع “أسيراً “ لأوضاع وملابسات أفقدته موقعه الأول، وفي العام 1987 وما بعده كان هناك من يريد تنحيته لأسباب غير سياسية، وكما قال لي آرا خاجادور وأكّده أكثر من مرّة أمام آخرين أنه أحبط المحاولة لسببين ، الأول– كي لا يسجل في تاريخ الحزب أن أمينه العام نحيّ لأسباب غير سياسية، والثاني- أن هناك من كان يسيل لعابه للحصول على منصب الأمين العام ، ولذلك أصرّ على إبقائه مع النقد الذي وجّه إليه؛ وهكذا كانت الأجواء مهيأة لتنحيته، وحين أبقي عليه حتى العام 1993 كان بقاءً شكلياً على الرغم من أن بريق هذا الموقع أصبح خافتاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، لذلك أصبحت المنافسة باهتة وكان هناك عزوفاً عن العمل ، وهكذا انطوت 29 عاماً من إدارة عزيز محمد للحزب.
لقد شعرت في لقاءاتي الأخيرة مع عزيز محمد وكلّها قبل الاحتلال باستثناء لقاء واحد أو اثنين بعده ، أنه استنفذ مخزونه ولم يعد لديه ما يستطيع أن يقدّمه، وكذلك العديد من إداريي الحزب، فلم يعد بإمكانه أو بإمكانهم المواصلة إلّا مكابرة في ظل ظروف جديدة وتطوّرات جديدة وعلوم جديدة وتنكولوجيا جديدة ووسائل اتصال غير مسبوقة، ولذلك كان على الطاقم الإداري الانسحاب، وتلك فضيلة، لأن السياسي سيكون على قدر من الضحالة حين يستمر ولا يهمّه إن كان الناس ضحايا أو حتى إن انتهوا إلى كارثة، في سبيل فكرة ما سواءً كانت جيّدة أو رديئة، وتلك واقعية السياسة، فالسياسي الذي يفتقر إلى الإحساس بالواقع تكون إنسانيته قد أصيبت بالشلل وضميره تعرّض للخدر. ولا شيء يضرّ بالسياسي إلّا حين يكون ممثّلاً، فسيبدو مثل الزهور الاصطناعية التي سرعان ما يكسوها التراب وأخيراً يكون مصيرها مثل الزهور الذابلة في المزبلة، وتلك حال البعض.
مذكرات عزيز محمد
ومع كل ذلك يمكنني القول أن عزيز محمد يتمتّع بكاريزما كبيرة، وهو محترم من جانب الشخصيات العربية والكردية ومن جانب جميع القوى والشخصيات السياسية، وهو شخصية مقنعة ومسالمة وهو بارع في التكتيكات والمناورات، لاسيّما التي تخصّ موقعه وكنت آمل أن يلعب هذا الدور بعد خروجه من “إدارة الحزب”، لكنه حسبما يبدو، فضّل الابتعاد، على الرغم من بعض المساهمات المحدودة حين حاول رأب الصدع داخل الحركة الكردية بين العام 1994- 1998.
وقد حضرنا في القاهرة للمشاركة في مؤتمر الحوار العربي- الكردي العام 1998. وهناك جمعته مع الرفيق بهاء الدين نوري بعد قطيعة دامت لسنوات حيث كان الأخير مدعواً من أوك في حين كان الرفيق أبو سعود مدعواً من حدك، وردّدتُ عليهما بيت شعر من قصيدة لـ قيس بن الملوّح :
وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما …يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
كان يصعب عليّ أن أرى الأمين العام الأسبق بهاء الدين نوري الذي طرد عزيز محمد من الحزب، وكذلك أن أرى الأمين العام عزيز محمد لاحقاً يطرد الأمين العام الأسبق، فذلك شيء لا يحتمل وخارج الدائرة الإنسانية، وأن يأتي كل منهما محميًّا بطرف قومي كردي. ولعلّ ذلك أول لقاء يحصل بينهما بعد حملة التشهير ببهاء الدين نوري العام 1984 ومنعه من حضور المؤتمر الرابع، وإذ أنظر الآن إلى المسألة ليس من جانبها السياسي، بل من جانبها الأخلاقي والشخصي، فأشعر بحزن شديد، لاسيّما لافتراق السياسة عن الأخلاق. وقد دعوتهما على فنجان قهوة وكل أملي ترطيب الأجواء وتلطيف العلاقة بين أمينين عامين سابقين صنع الحداد بينهما ما صنع.
وكنت آمل أن يكون موقف الرفيق عزيز محمد مختلفاً ما بعد الاحتلال وأن يكون كلامه مع بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق صارماً بمطالبته بالانسحاب السريع ودون شروط، لكن الأمر لم يحصل، فربما كانت الضغوط تزداد عليه والأعباء تكبر وتقدّم السن له استحقاقاته، والأمر يشمل أعداداً في إدارات الحزب السابقة، وسواء أكان الأمر قناعة نحترمها أو لاعتبارات أخرى، فليس في ذلك سوى رثاء لأوضاع عشناها، وللأسف فقد كان انطباع بريمر عن هذا اللقاء كما دوّنه سلبياً وهو ما ورد في كتابه “عام قضيته في العراق “، فكما يقول أن حصيلة تجربة عزيز محمد عن فشل الاشتراكية أن بريجينيف كان يستلم رسائل لا يقرأها ويجيب عليها دون اطلاع منه، وهكذا اختزل تجربة الاتحاد السوفييتي لنحو 70 عاماً، وهي أقرب إلى كوموتراجيديا.
وكنتُ قد أشرت إلى ذلك جواباً على سؤال توفيق التميمي، وقلت أتمنى: لأبي “فينك- عزيز محمد” شخصياً الصحة وراحة البال والمزاج الطيب مع معارضتي لموقفه ، كما أنني عبّرت له عن رأيي في منزله خلال زيارتي له بعد العام 2003 وقد تقبل وجهة النظر بكل رحابة صدر، ولم ألتقه سوى مرة واحدة بعد ذلك. وقد شاءت الأقدار أن يرحل عن دنيانا في 31/5/2017 ولم يستجب لمناشدات العشرات من الرفاق لكتابة مذكراته.
وأقتبس نصّ الفقرة الخاصة بالمذكرات التي دونتها في فترة سابقة وهي كالآتي: “وسألت عزيز محمد الأمين العام السابق في إربيل عام 2000 لماذا يا رفيق لا تشرع بتدوين مذكراتك أو تسجيلها بشريط كاسيت أو فيديو ، لتقوم بتحريرها وقد يساعدك آخرون؟ ” أجابني بتواضعه المعهود ودهائه السياسي : “لست زعيماً لكي أكتب مذكراتي، فلا أنا كامل الجادرجي ولا ملاّ مصطفى البارزاني ولا محمد مهدي كبّة ولا الجواهري، لكي يهتم الناس بهذه المذكرات، ثم أنني لست مثلكم من أصحاب القلم ممن يحترفون الكتابة ويعتنون بالحرف ويسهرون على المباني والمعاني” .
ومثل هذا الجواب ليس سوى هروبًا من المكاشفة الضرورية، خصوصاً وقد رحل الرجل ومعه الكثير من الأسرار والخفايا والمعلومات والقصص والحكايات، بل هو مستودع كبير لجزء مهم من تاريخ الحزب في مطبخه الأساسي، لاسيّما العلاقات مع المركز الأممي وأجهزته، والـ KGB على وجه الخصوص، والعلاقات الخاصة بحزب البعث وشخصياته الأساسية مثل الرئيس البكر ونائبه صدام والعلاقة مع الحركة الكردية وامتداداتها وارتباطاتها المتعدّدة والاختراقات التي تعرّض لها الحزب ومعالجاتها، وغير ذلك من سرديات السجن والانشقاقات المتلاحقة ودوره فيها، وما يسمّى بجهاز أمن الحزب مما يستوجب التدوين، بل يكون لمثل تلك الشهادة مسؤولية متميزة، وعدم كتابتها يعني الهروب منها وسلبية أخرى.
وكنت قد كتبت منتقداً الرفيق شوكت خزندار على كتابه ” الحزب الشيوعي العراقي- رؤية من الداخل” وذلك في مقالة بعنوان ” الحديقة السوداء في محطّات شوكت خزندار الشيوعية ” نشرت في مجلة المستقبل العربي- بيروت ، العدد 337 ، تاريخ آذار (مارس)، 2007. وقبل ذلك اعتذرت عن كتابة مقدمة له كان قد طلب مني كتابتها، خصوصاً لما جاء فيه من اتهامات وإساءات وشكوك وتصوّرات وكلام ألقي على عواهنه كما أعتقد، مع قليل من الوقائع الحقيقية.
وبتقديري إن إحجام الرفيق عزيز عن كتابة المذكرات تمثّل جزءًا من شخصيته حيث لا يريد أن يواجه أحداً أو يكتب عن نواقص أحد وظل يتجنب إثارة أي حساسية مع أي كان، وهو جزء من شخصيته التوافقية بمعناها السلبي، وقد ذكر لي الرفيق آشتي الذي سجل له بعض ذكرياته أنه تعرّض لأحد الرفاق بشيء من النقد القاسي، ولكنه بعد نحو ساعة اتصل به وقال له بالحرف الواحد ” أبوس عيونك إحذف ما سجلته عن الرفيق المذكور” وهو ما نقله لي توفيق التميمي أيضاً عن رفيق آخر خلال حواره معه وكرّر ذلك مع الصحافي حمدي العطار الذي طلب منه إلغاء المقابلة إذا لم يحذف ما ورد فيها من انتقاد قد يسيء إلى أحد الرفاق.
إذا كانت أخطاء الحزب و”إدارته”، وهي ليست بعيدة عن أخطائنا ككل يمكن النقاش حولها أو إدراجها في باب الاجتهادات التي كان بعضها خاطئاً ولم تزكّه الحياة، وهو ما ذكرته بحق نفسي قبل الآخرين حين قلت في وقت سابق وبروح رياضية: أنني ضقت ذرعاً بالعمل الحزبي الروتيني والمسلكي منذ أواسط السبعينات وبالبيروقراطية السائدة لدرجة أنني اعتبرت الهواء خارج الصندوق أكثر نقاء مما في داخله، خصوصاً ما رافق التجربة من تشوّهات وروتينية وتخلّف؛
وإذا كان قول الرأي في ظل انغلاق المنافذ، خصوصاً إزاء قضايا استراتيجية كالحرب العراقية – الإيرانية والنزعة التفريطية المغامرة أمر لا بدّ منه وهو ما اتبعناه في كتلة المنبر أواسط الثمانينات، فإن الاستمرار فيه كان يعني مكابرة لا مبرّر لها ، خصوصاً وأن المبادرة قد استنفذت أغراضها وهو ما دعانا لتوجيه رسالة باسم المنبر في 27/12/1990 باتفاق بين نوري عبد الرزاق وبيني وذلك بعد مهاتفة مع د. مهدي الحافظ الذي كان في صلب هذا التوجه، وذلك لإيقاف النشاط دفعاً لأية التباسات مع رغبة أحد الرفاق وإصراره على العودة إلى العراق وتحمّله مسؤولية ذلك.
وكنت قد دعوت لتجمّع يساري واسع وعريض يكون الحزب من بين قواه الأساسية، لأن الكثير من الأمراض كانت تعشعش في الرؤوس والقلوب، ولا بدّ من فنح صفحة جديدة وتوجّه جديد لترميم العلاقات الرفاقية، خصوصاً وقد أدت التطورات العديدة التي حصلت في العراق والمنطقة منذ الحرب العراقية – الإيرانية وغزو الكويت إلى اختلاف مسارات الشيوعيين حول قضايا استراتيجية وطنية وهو اختلاف معلن بين فريقين واجتهادين وموقفين وربما أكثر من ذلك ، ناهيك عن مسعى لإعادة قراءة الماركسية في ضوء الواقع بعيداً عن الكليشهات والمقولات الجاهزة وانسجاماً مع روح العصر والمتغيّرات الحاصلة في الكتلة الاشتراكية.
والمسألة تتعلق بالرأي ووجهات النظر والاجتهاد ، وبغض النظر عن التباعد والافتراق والاختلاف في المواقف، ولذلك ينبغي الابتعاد عن التشهير والتشكيك والتخوين، والمسألة عندي ليست أكثر من تقديم قراءات واجتهادات قد تصيب وقد تخطأ وهي مواقف معلنة ومنشورة وموثقة بكتب ودراسات وأبحاث.
لعلّ من أمراض الحركة الشيوعية المُعدية والمعتّقة والتي وقع فيها الجميع هو كيل الاتهامات وبث الكراهية إزاء الاختلاف، خصوصاً لمن هو غير قادر على الحوار والنقاش والمطاولة، فينزلق إلى مهاوي الاتهام والاتهام المتبادل، وكنت قد كتبت ” لا بد من توقير الصراع وترزين الخلاف”، وفي كل الأحوال، فاللجوء إلى مثل تلك الأساليب تفقد المرء الحجة والمنطق والمعقولية ، فضلاً عن أنها وسائل غدر وعجز وجبن وليس دليل شجاعة أو حجة أو رأي.
لأن ” الشجاعة من فضائل القلب” وهي كرم أخلاقي وسمو إنساني وهي عكس الجبن والخنوع وشحّ الأخلاق، لأنها تتعلق بالخير ، والسياسة بهذا المعنى فعل خير وسعي للخير العام حسب عبد الرحمن بن خلدون، وعكسها خداع وخسّة وهذه ” كلّها شرٌ” ولا علاقة لها بالسياسة ، والشرير ليس شجاعاً في حين أن الشجاع خيّر، وقلوب الشيوعيين ينبغي أن تنبض بالمحبة والصدق والإنسانية ، فما قيمة الأفكار والمبادئ إذا كانت الوسائل خسيسة ودنيئة ووشايات رخيصة وتأليب ومحاولات تشويه سمعة؟ ورذيلتان لا تنجبان فضيلة وكنت دائماً أردد قول الشاعر أبو العلاء المعري :
وَإِذا تَساوت في القَبيحِ فِعالُنا *** فَمَنِ التَّقيُّ وَأَيُّنا الزِّنديقُ؟
ولذلك لم أرغب في تكرار التجربة، خصوصاً وأن لدى كل منّا أخطاءه فلم أكن مستعداً لإضافة أخطاء أخرى ربما بعضها صميمياً إلى أخطائي، والأمر ينطبق على المشاركة في المعارضة في الخارج، التي انحدرت للتعويل على العنصر الخارجي بزعم الدور الموضوعي للعامل الدولي، ناهيك عن الموقف من الحصار الدولي الجائر والعزلة عن الشارع، وهو ما دونته في مذكرتي إلى إدارة المؤتمر الوطني العراقي وفيما بعد بإعلان استقالتي المدوّية 1993 ، إذْ كيف يمكن أن تكون معارضاً للدكتاتورية وتقبل بفرض الحصار على العراق وتجويع الشعب العراقي.
وقد كرّست جهدي الحقوقي التنويري بهذا الاتجاه من خلال كتب أصدرتها في العام 1994 الأول بعنوان: عاصفة على بلاد الشمس والثاني بعنوان: بانوراما حرب الخليج : وثيقة وخبر، سلّطت فيهما الضوء على جريمة الحصار الدولي ومخالفتها لقواعد القانون الدولي، وأدرت مؤتمرات وندوات بهذا الاتجاه، وذلك خيارُ يشهد له العدو قبل الصديق، وحسب الشاعر العباسي الموصلي السري الوفاء:
وشمائلٌ شهد العدوّ بفضلها **** والفضلُ ما شهدت به الأعداء
يتبع