ماكرون وسيكولوجيا الحنين( النوستالجيا )
د.عامر صالح
قام الرئيس الفرنسي بزيارة الى عاصمتين منكوبتين هما بيروت وبغداد, الاولى بكارثة تفجير مرفأ بيروت الذي حول الى اكثر من 30% من العاصمة اللبنانية الى أنقاض وركام الى جانب فساد نظامها المافيوي, والثانية منكوبة في سياقات نظامها الطائفي والاثني من عدم الاستقرار السياسي والفساد الاداري والمالي وتفشي المليشيات المسلحة المنفلتة خارج القانون ويشكل بعد الدولة العميقة في العراق الحاكم في الظل. وفي كلا الزيارتين تم الترحيب الشعبي والرسمي برئيس جمهورية فرنسا ماكرون, ولو في الحالة العراقية كان الاحتفاء الشعبي ليست كما هو اللبناني, وكان ذلك مرتبطا بقصر زيارة ماكرون الى بغداد وعدم تنقله او تجواله في مناطق بغداد كما فعل في بيروت, وبالتأكيد فأن روابط لبنان مع فرنسا ذات عمق تاريخي, وكان الاحتفاء عراقيا بماكرون على المستوى الشعبي جرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح, وهناك كالعادة سيل جارف من نظريات المؤامرة والتشكيك بنوايا ماكرون وكأن الحياة جنة في كلا العاصمتين وجاء ماكرون ليقلب عاليها اسفلها.
عكست زيارة ماكرون نموذجا من سلوكيات اللبنانين والعراقيين في الحنين الى الماضي وكانت اشد تركيزا في بيروت منه في بغداد, ولكن في بغداد اتخذت من رمزية ماكرون حنينا خاصا الى حقب عراقية سابقة لعام 2003. الى أي حد من الذل والظلم والأضطهاد الذي تمارسه الأنظمة” الوطنية ” الحاكمة الجائرة بحيث يندفع المواطن الى الأستغاثة بالمحتل ويبكي بين يديه ويطلب منه عودة الأحتلال من جديد او وضع بلاده تحت الوصاية الدولية في محاولة للخلاص مما اصابه من احباط ويأس, انها مفارقات زمن فساد الانظمة المتعفنة التي تدفع مواطنيها في لحظة ما الى الخلاص او الاستعانة بالشيطان في تلمس أفق المستقبل. بالتأكيد انه حالات من الحنين او عودة الى الماضي مؤطرة بقساوة الحاضر وشراسته, وهي حالات يطلق عليها سيكولوجيا ( نوستالجيا ) او سيكولوجيا الحنين الى الماضي.
يعود أصل كلمة نوستالجيا إلى اليونانية، فكلمة نوستوس تعني العودة للوطن وكلمة ألغوس تعني الألم، وعلى الرغم من كون الكلمة حملت معنى تاريخياً سلبياً مرتبطاً بالمشاعر الجارفة نحو العودة للوطن، والتي كان يعيشها المغتربون والبعيدون عن عائلاتهم وأوطانهم، إلا أنها مع الوقت اكتسبت معنى جديداً في علم النفس؛ وهو الحالة النفسية التي يشعر فيها الإنسان بالحنين للعودة لمرحلة أقدم من حياة الإنسان؛ إلى طفولته وشبابه وأيامه التي خلت, وكذلك الحنين الى العودة الى حقب وازمنة تاريخية سلفت, وقد يكون الحنين فرديا, اي ان الشخص يحن الى ماضى من احداث او امكنة او الى زمن بكامله, وعلى المستوى المجتمعي او الجماعي فهي مؤشر ان هناك دلالات غير مطمئنة في الحاضر.
وعلى المستوى الفردي فأن الحنين اذا بقى في حدوده الطبيعية فأنه مؤشر ايجابي وممكن ان الشعور في الطمأنينة ويخرج الفرد من حالة الحزن ويجعلها اكثر خفة,كما يعتبر التفكير في الماضي طريقة للتأقلم مع مخاوف المستقبل المتعلقة بسؤال الموت والخلود، وسؤال أهمية الحياة وجدواها, كما تربط النوستالجيا الفرد بالآخرين. ففي العادة ما يكون التفكير بالماضي وأحداثه وتجاربه مليئاً بذكرى الأماكن والروائح والموسيقى التي تكون غالباً مرتبطة بأشخاص معينين، مثل أصدقاء الطفولة وشخصيات مؤثرة التقيتها في العمل الأول والمدرسة والرحلات, وفي احيان كثيرة فأن الحنين الفردي احد مصادر التفريغ لأنفعالات الحاضر مما يبعث نسبيا على الشعور بالدفئ, وحتى كتابة مذكرات الماضي يبعث نوعا من الدفئ العاطفي وحتى الجسدي في لحظات الحاجة القصوى لذلك.
اما على مستوى الجماعات البشرية او المجتمعات المحلية فهي محاولة الهروب الجماعي من الحاضر،تحت وطأة واقع يعاني ولادات متكررة وصعوبات بالغة الأثر ورداءة ظروف العيش الحاضر. ان أكثر ما يميز النوستالجيا الجماعية في واقعنا وخاصة العراقي هو الحنين الى عودة البعث والحنين الى عودة الملكية او تمنيات بعودة الجمهورية الاولى, وجميعها تفسر انتكاسة الحاضر, فلا الملكية كانت كما في اذهاننا الحاضرة نموذج السعادة, ولا البعث بمصائبه وكوارثه كان مطمئننا, ولم تكن الجمهورية الاولى نموذجا بدون اخفاقات وارهاصات مختلفة وكانت سبب في انتكاستها. ولكن ما يجري في المجتمع العراقي هو حنين مشروع بيمكانزمه كتعبير عن الاخفاق المستديم ولكن محتوى الحنين يعبر هو الاخر عن صور مشوهة من الواقع وهو اشبه بعملية تدوير النفايات بفعل عوامل اليأس والقنوط وقد تكن الصورة مطابقة للجموع اللبنانية, رغم فرط العواطف الى جانب ماكرون في حالة بيروت, حيث بقايا العمق الثقافي حاضرا في التواصل مع باريس.
حالة الحنين في العراق الى مرحلة سابقة بما فيها الحنين الى المحتل او الى الزائر الفرنسي فهي تجسد بعمق افلاس النظام السياس ما بعد 2003 وعدم مقدرته في حل المشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتمترسه في الاطر الطائفية والمذهبية والاثنية المتخلفة وغياب دولة المواطنة الى جانب الفساد الاداري والمالي والاخلاقي الذي افقر الشعب خلال سبعة عشر عاماو وعملية سياسية ديمقراطية قائمة على التزوير وشراء الذمم والتهديد والافساد في كل قطاعات المجتمع, كل ذلك شدد من قبضة الحنين لمختلف الازمنة وتمني عودة السيئ بأعتبار الحاضر اسوء, وبالتأكيد انها آلية لا تفضي الى الحل وفقا لظروف العصر والحياة المتجددة, ولكن هذا الحنين يحمل في طياته قدرة استثنائية للخلاص من الظلم والتعسف والجور بأعتبار ذلك آلية خاتمة المطاف وقد جسدتها انتفاضة الاول من اكتوبر التي اندلعت في العام الماضي بوضوح بعد استنفاد كل سبل الاصلاح من داخل بنية النظام المحصصاتي