محمد بودية المسرحي الذي اختار فلسطين حتى الموت
تذكرت، وأنا في جريدة الجمهورية (وهران) أني قرأت حواراً مهماً لمحمد بودية (1936 ـ 1973) المناضل والمسرحي الجزائري، الذي اختار مناصرة فلسطين حتى النهاية، حتى وجد نفسه في أعالي المسؤوليات في منظمة التحرير، فقد كان صديقاً لوديع حداد وحسن سلامة، إلى يوم اغتياله بسيارة ملغومة في باريس كما حدث لصديقه غسان كنفاني. يقول في الحوار المذكور مدافعاً عن نفسه من تهمة الإرهاب: «من يحدد مفهوم الإرهاب؟ المنتصر أم المنهزم؟ القوي طبعاً. أنا أمام قضية انتميت إليها كما انتمى أجدادي الأوائل إلى الثورة الجزائرية التي كانت تعني تصفية الاستعمار. في فلسطين، أنا أشتغل بالمنطق نفسه. عصابات الهاغاناه والشتيرن، إرهابية لأنها هاجمت ناساً بسطاء وطردتهم من أراضيهم. نحن لا نفعل هذا أبداً، ولكننا نناضل من أجل حق تاريخي.
لهذا، فاستشهادي منتمياً للقضية الفلسطينية هو خياري». لهذا، لا يكفي التذكر لإعادة قراءة التاريخ، ولكن نحتاج إلى عين حيوية تعيد ترتيب الأشياء في خصوصياتها، ولكن أيضاً في سياقاتها العامة. قتل الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ، التي اشترك فيها بودية، هو بلا شك عمل مرفوض إنسانياً، لكن هذه الإنسانية غير مفصولة عن السياق العام. هل يكفي هذا التصور التبسيطي عندما يكون الفلسطيني في مواجهة دولة بنت مشروعها الصهيوني على شيئين أساسيين: فكرة الهولوكوست والدفاع عن الذات، وإحلال شعب مكان شعب آخر تم جلبه من مختلف أصقاع الدنيا؟ تأمل بسيط يبين أن المسألة في النهاية وجودية. لأن العنصر الأساسي هو تحرير أرض مسلوبة، وشعب شرد.
وكان يجب انتظار زمن طويل ليدرك الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء، أن دائرة العنف والعنف المضاد يمكن أن تتحول إلى دائرة جهنمية، وبدأت الحلول، مهما كانت ظالمة، تبرز في الأفق قبل أن يعود الوضع على حالته الأولى عندما عادت إلى الواجهة كل التطرفات القاتلة. الذي لا يدريه الاحتلال هو أنه يعيد اليوم إلى الواجهة المناخات الحربية نفسها في تماديه في تهويد القدس، واستعمال القوة، وإلغاء، وملء السجون بالمعتقلين، إمكانات الحلول السياسية بل وإضعاف الحكومات الفلسطينية الهشة، وتصغيرها أمام شعبها. نحن على أبواب نشوء منظمات متطرفة، نسميها كما نشاء مقاومة أو إرهاباً، حسب موقع كل واحد.
ليست المشكلة بلاغية، لكنها أفق يجعل كل إمكانات الحوار غير ممكنة، وأن ما يقوم به ترامب هذه الأيام ليس إلا ترسيماً للدفع بالمشروع الأمريكي الصهيوني إلى الأمام وعزل فلسطين مرة أخرى وتحويلها في النهاية إلى غيتو. إثارة موضوع بودية تدخل في عمق ما يحيط بنا في زمن عربي قاتل لكل إرادة تغييرية. لقد قتل بودية في سيارة ملغومة من طرف المخابرات الإسرائيلية، ولكن ذلك لم يحل أي إشكال بل عقده. فالإرباك الذي قاد في سبتمبر/ايلول 1972 الدولة والحكومة وجهاز الأمن في إسرائيل إلى إيجاد الحلول، أكد في التاريخ أن إرهاب الدولة يولد ردة فعل أقسى وأخطر، وحق الدفاع عن النفس. فقد أمرت غولدا مئير، رئيسة الحكومة وقتها، بالانتقام من مرتكبي عملية ميونبخ.
شُكلت لجنة وزراء مكونة من غولدا مائير، ووزير الدفاع موشيه ديان، ووزير الخارجية يغئال ألون، وإسرائيل جليلي وهو وزير بلا حقيبة والممسك بخيوط اللعبة، وأهارون ياريف، ورحبعام زئيفي، كمستشارين لرئيسة الحكومة للاستخبارات، ورئيس الموساد تسفيكا زمير، وكان القرار النهائي هو الحكم بالإعدام ضد الذين كانوا وراء عملية ميونيخ. وتم تجميع وتجنيد أفضل ضباط المخابرات العسكريين، ومنهم شموليك غورين، وباروخ كوهين، وتصادوق أوفير، ورافي سيتون، وغايزي تسفرير، وآخرون.
كانت القيادة تضم مايك هراري رئيس الوحدة التنفيذية، وشموليك غورين رئيس «كيشت» وحدة تجميع الاستخبارات، وناحوم أدموني رئيس «تفيل» المسؤولة عن العلاقات بالجهات الاستخبارية الأجنبية. لم يكن الأمر ثانوياً، ولكن جهز له كما يجب ومن طرف دولة. يمكن أن نفتح اليوم كل الملفات من جديد، ونعيد قراءتها بكثير من الموضوعية حتى في جانبها القاسي على الفلسطينيين والعرب، ولكن وضع دولة عسكرية في مواجهة مصير تصنع كل يوم جزءاً من تاريخها الدموي. هل تغيرت تلك النظرة انطلاقاً دائماً من حالة بودية؟ منذ أكثر من ثلاثين سنة لا يزال المنطق نفسه هو المتسيد.
لنقرأ ما قاله إيتان هابر، رئيس ديوان رابين سابقاً في جريدة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 3-10-2005 عن حالة محمد بودية التي لا تؤكد إلا على هذه الرؤية العمياء التي لا ترى الإشكال إلا من زاوية واحدة، ولا تريد أن تتسع قليلاً مستعملة كل وسائل التقزيم السياسية والعسكرية وحتى الأخلاقية: كان محمد بودية إرهابياً حقيقياً. كان أحد أفراد جبهة تحرير الجزائر. سُجن في فرنسا لثلاث سنوات، وأدار بعد إطلاق سراحه مسرحاً صغيراً في باريس. وكان رجل نساء. في 1972 تطوع بودية لمساعدة الفلسطينيين، وأرسل إلى إسرائــــيل جماعة مخربين: ايفلن بارج، التي كانت المسؤولة عن صندوق مسرحه وعشيقته خارج ساعات العمل، والأختين ناديا ومارلين برادلي، وزوجين مسنين من الناس الغامضين. عندما وصـــلوا إلى مطـــار اللد، لم يكن في حقائبهم أي شيء يثير الشبهة: فقد وجدت ملابس، وأحذية، وأدوات استحمام وقطن.
لكن المحققين اكتشفوا أن الملابس، والقطن، كلها قد تغلغلت فيهما مادة متفجرة سائلة جُففت. جلب زوجا الشيوخ معهما مُفجِّرات في مستقبِل راديو، وكان وصلها بالملابس المُشربة بالمادة المتفجرة سينتج عدداً من القنابل.
لقد كانوا ينوون وضعها في فنادق في تل أبيب. في التحقيق معهم، قاد المعتقلون المحققين إلى بودية. وأدرك بودية أنهم يبحثون عنه وعليه أن يغير من عاداته. لقد بدّل كمدير للمسرح الهويات والملابس والعناوين على عجل. كان تتبعه صعباً جداً. عندما كانوا على شفا اليأس، قرر أناس الموساد ترصد بودية في الممرات تحت الأرض للمشاة… وقد حدث ما لا يُصدق: لقد وُجد. ومنذ تلك اللحظة، لم يتركوه. بعد مضي بضعة أيام استيقظ بودية عند صديقته التي كانت تعمل معه. نظر إلى الرزنامة التي تعود عليها: 28-06-1973 أكل فطوره بهدوء، وشرب قهوته اليومية، ولبس، ونزل نحو سيارته. نظر يميناً وشمالاً، كما تعود أن يفعل، ثم ركبها. في الثانية التي أدار فيها مفتاح سيارة رونو 16 الزرقاء اللون، انفجرت أمام المركز الجامعي (جوسيو اليوم) شارع فوسي برنارد. ومات الرجل الذي جنن المخابرات الإسرائيلية.
مثل قضية المناضل المغربي المهدي بن بركة، دُفنت القضية التي تولى البحث والتحقيق فيها ومتابعتها، القاضي جون باسكال، لكن لا شيء في الأفق حتى اليوم. الموساد اعترف علناً، في السنوات الأخيرة، أنه كان وراء العملية التي استهدفت حياة محمد بودية. سمحت السلطات الجزائرية بنقل جثمانه ودفنه في الجزائر، في مقبرة القطّار في العاصمة، على الرغم من أنه ظل مناهضاً للرئيس هواري بومدين منذ انقلاب 1965 ضد الرئيس أحمد بن بيلا.