في السؤال النقدي العربي وسلطة الهيمنة؟
تبدو اليوم تجربة النقد العربي الحديث شديدة التعقيد والارتباك. فقد عرف، عبر رحلته الطويلة، أسئلة كثيرة، حاول أن يجد لبعضها إجابات مقنعة، وأبقى الكثير منها معلقة في الفراغ، ليس لأنه لا يملك لها أجوبة أو اجتهادات، ولكن لذعره من المؤسسات الضاغطة والمهيمنة على كل الحقول المعرفية والسياسية والدينية والثقافية أيضاً، التي تتصف في عموم بنيتها الداخلية بالتقليدية والتكرارية، على الرغم من انفجار الأنواع الأدبية والمعرفية. لم يعد نافعاً للتعامل مع جنس تطور بشكل جنوني كالرواية مثلاً، بنفس الوسائط التقليدية التي لا يتخطى فيها النقد الحواشي والعتبات اللغوية والأخلاقية للنص. حتى عندما استعارت هذه التجربة المفاهيم الغربية، فعلت ذلك من موقع إثبات قدرات المؤسسة النقدية على التأقلم. فاستعارتها، في الأغلب الأعم، «كشعارات» نقدية شكلية للمواربة الحداثية أكثر منها خيارات معرفية تلبي حاجة ثقافية حقيقية.
من يتأمل نقدنا اليوم يشعر بهذا الضعف الذي صاحب ويصاحب المؤسسة النقدية العربية. فقد وقعت هذه التجربة في ورطة التعامل مع الآخر، بمقاييس أنوية لم تكن لها السطلة المعنوية والثقافية لمجابهة الآخر معرفياً. على صعيد التمثيل، تبدو مثلاً تجربة الناقد شكري عياد طليعية ونافذة، لأنها عرفت كيف توطِّن المفاهيم، والثقافة الغربية التي استفادت منها كثيراً لإعادة هيكلة النقد العربي مع التنبه لسلسة من المحاذير التي تنبئ عن خوف من هذا الآخر. فهي لا تعيد النظر فيما تأسس تاريخياً ونقدياً عبر الحقب النقدية المتتالية، مع أن جوهر السؤال النقدي هو هذا بالضبط، أي إعادة النظر في المسلمات التي أصبحت ردات فعل ثقافية أكثر منها معرفة محصنة. لهذا، ألح الناقد الكبير شكري عياد على السير حثيثاً على هدي خصوصيات الهوية العربية الإسلامية، التي شكلت بالنسبة لشكري عياد وبعض معاصرين نقدياً، رهاناً أساسياً وجوهرياً ومقياس قبول أو رفض لكل ما هو وافد، أي إقصاء كل ما لا يدخل ضمن هذه الدائرة، واعتباره غير ممتثل للتربة التي تنشأ في رحمها كل التجارب الأصيلة. المشكلة الكبيرة التي خلفها هذا المنظور هي أن شخصية عظيمة مثل طه حسين، مهما كانت آراؤنا حول تجربته، وجدت نفسها خارج المدار النقدي، أي خارج المؤسسة المهيمنة، بتفرعاتها السياسية والدينية والثقافية. فطه حسين والنخبة النقدية الحداثية، التي جعلت من النظريات الغربية مرجعاً أساسياً لتطور رؤاهم النقدية، لفظتهم المؤسسة بالحجة نفسها التي ارتكز عليها شكري عياد للقبول والرفض. وتم عزل رواد هذه النخبة على الرغم من انتمائهم ثقافياً لنفس المؤسسة الدينية (الأزهر) بل ومحاربتهم بحجة التخلي والتفريط في الخصوصية الثقافية والحضارية، وانتقلت الحرب من المعرفة، باتجاه الإيديولوجية. طبعاً طه حسين لم يتخل عن هذه الخصوصية، بل كان في عمقها ولكنه أعاد النظر في البنية الفكرية التي تؤسس وتنتج المعرفة وليس في الميراث الثقافي العربي.
مهما كانت المبررات الأيديولوجية والشكلية التي تساق عادة في مثل هذه النقاشات التي لا تصل على أي
حوصلة تجعل النقد يتقدم، فقد عطل ذلك كلياً ارتقاء المؤسسة النقدية معرفياً، في غرس تقاليد نقاشية جديدة. لو نعيد اليوم، ويجب أن يفعل النقاد ذلك، قراءة سيل الشتائم التي تعرض لها طه حسين مثلاً، جزئياً شراسة المؤسسة الثقافية-الدينية- السياسية في ذلك الوقت، خارج نطاق الأخلاق والموضوعية.
من الصعب إخراج كاتب كبير يفكر بشكل مختلف من دائرة الهوية المتفق عليها. ففي اللحظة التي يشتغل فيها ناقد ما داخل منظومة لغوية معينة، فهو داخل ميراث ثقافي لا يمكنه أن يحيد عنه كينية، لأنه فيه، ومدون بتلك اللغة. نقد الميراث ووضعه في دائرة السجال والمعرفة الإنسانية شيء آخر غير معاداة الثقافة المحلية والحضارة التي نبتت فيها.
لم يكن مؤسس النقد الفرنسي هيبوليت تين، ومعه النقد التاريخي الفرنسي، مهماً بمعرفتنا اليوم، لكنه هو من أعطى هوية للنقد الفرنسي وشكلاً مميزاً للغة الفرنسية ولنقدها، وحضوراً كبيراً نتج عنه نقاد كبار غيروا المسارات النقدية الأكاديمية العالمية، من أمثال غريماس، فيليب هامون، كلود بريمون، وجيرار جنيت، دريدا، ورواد ما بعد الحداثة والسيمائية والتفكيكية. من الصعب إقصاء هؤلاء وكأنهم جسد يقع خارج التاريخ. ففي كل ما قام به طه حسين، وسلامة موسى، وأمين محمود العالم، وغيرهم، رغبة جامحة في وضع الثقافة العربية في مدارات العقل والعالمية، والسؤال أيضاً. على العكس شكري عياد، الذي حينما اصطدم بسلطة الهيمنة التقليدية، تراجع عن أطروحاته في المثاقفة والتثاقف، على الرغم من عقلانيته وجهوده المعرفية التجديدية. أعاد إنتاج المؤسسة في النهاية، ولم ينتقدها جذرياً أو يعيد النظر فيها، لأن سلطان المؤسسة المتعددة الأقطاب والحقول، كان أكبر منه. هذا المنطق الذي تحكم في الثقافة العربية كلياً، لم يسمح بالقطيعة مع الجزء الميت من الجسد العربي، فكانت المآلات حزينة حقيقة. لم تكن خيراً على النقد العربي، إذ لم يستطع لا أن يوطن النظريات كما يجب، ولا أن ينتج نموذجه الذي افترضه، الذي يمكن أن يساعد النص العربي على الشيوع والخروج من دائرة المحلية والإسهام في المشروع النقدي العالمي. شيوع النص العربي اليوم لا يمر عبر حلقات النقد المحلي، كما كان الأمر سابقاً، ولكن عبر قنوات إعلامية لا علاقة لها بالنقد العربي الذي كثيراً ما يكون تابعاً لضغط الخطاب الذي يصنعه الآخر. رواية زينب لهيكل مثلاً، ما كان لها أن تتحول إلى مرجع في الأجناس الأدبية الوافدة من خلال فعل المثاقفة، لولا الجهد النقدي العربي الذي انخرط في السجال بكل قوة، فرض بعض خياراته. النقد العربي اليوم لم يعد قادراً على فرض أي نموذج. قد يتبع الموجة التي تأتي من الخارج، أي أنه يقرأ بعين الآخر وليس بعينه، ولكنه ليس سباقاً أبداً. كلما فازت رواية عربية بجائزة أجنبية، ركض النقد نحوها حتى ولو كانت ضعيفة. هذا دليل على ضعف المؤسسة النقدية العربية وتبعيتها في النهاية. أعتقد أنه في سياق المثاقفة الأدبية Acculturation لا يوجد إلا مثقف عربي واحد ووحيد طرح الإشكالية النقدية وسعى لفهمها، وربطها بالتبصر النقدي والمعرفي الإنساني، مثلما فعل طه حسين في وقته. باقي الفاعلين نقدياً، ظلوا يدورون في النفق نفسه، الذي ما يزال يحكم ثقافتنا حتى اليوم. ليس فقط المسألة الديكارتية التي تشكل حجر الزاوية في تحرير الفكر من المسبقات، لكن طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي وضع العقل العربي أو العقل النقدي أمام تحديات كبيرة، وجعله مثار مراجعة عميقة. يحتاج طه حسين الذي أصبحت مقاربته النقدية تهمة أكثر منها سجالاً، إلى نقاش حقيقي وإعادة قراءة هادئة.
فقد حاول أن يجعل من المثاقفة عتبة فكرية فقط لتحرير العقل، والذهاب به مباشرة نحو فعل التثاقف Interculturalité الذي يعني بالضرورة البحث عن الفاعلية المحلية من خلال استيعاب الآخر معرفياً. لم يكن رهانه تقليد الغرب بشكل أعمى والتخلي عن ثقافته، بل التعمق في صلب هذه الثقافة ومعرفة ما يعطلها للخروج من الدوران الفارغ حول ذات تهزم نفسها قبل أن يهزمها الغير. كان من نتائج ذلك أن حوكم طه حسين وأخرج من دائرة المؤسسة.