الشعر في عالم فدوى طوقان… تمرد على المألوف
الحب مُذ كان إكسير الحياة وَفَوْحُ الشعر، وليس صدفةً أنّه شكّل لدى أصحاب المعلّقات – وكلّهم ذُكور – مطالع قصائدهم. لكنّه عند مُعظم الشاعرات العربيات الرائدات في المجتمعات الذكورية، حيث المرأة ترسف بأصفاد التابوهات، بوحٌ ضبابيٌ ومونولوغات، تناجي الحبيب المتخَيَل الغائب والمُشْتهى. كلّ يوم تتأكّد مقولة الرائدة النِسْوِيَة الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف (1882 -1941) مؤلفة «غرفة تخصّ المرء وحده» الهادلة بحرية الفكر أساسًا للكتابة «إنّ النساء لكي يكتُبْنَ بحاجة إلى دخل ماديّ خاصّ بهنّ، وإلى غرفة مستقلة ينعَزِلْنَ فيها للكتابة».
لكنّ الاستثناء رفيق القاعدة، فقد عرف الشعر العربيّ القديم ـ وفق الرواية – شاعرات جريئات كَسَرْنَ التابو والمألوف، وأبدَعْنَ في كتابة شعر مرهف وعميق صورةً ومعنًى. فالشاعرة الجاهلية عِشْرقة المحاربية، باحَتْ بجرأة واعتزاز وريادة بحبّها الذي لا يُجارَى وتجربتها الكبيرة فيه:
جَـريـتُ مـعَ العـشّاق في حلبةِ الهوى / فَـفُـقـتـهـم سَـبـقـاً وَجـئت عَـلى رِسلي/ فَـمـا لبـسَ العـشّـاقُ مِـن حُللِ الهَوى/ وَلا خَلعوا إلّا الثيابَ الّتي أُبلي / وَلا شَــرِبـوا كَـأسـاً مـنَ الحـبّ مـرّةً / وَلا حــلوةً إلّا شَـرابُهــمُ فــضــلي.
زهرةُ الفلّ وإسقاطاتُها
الشاعر بشكل عام لا يكتب من فراغ، والشاعرة الفلسطينية بشكل خاصّ، حمّلت يراعها مِدادًا مُتْرَعًا بحنظل العيش، الذي تجرّعه شعبُها، إبّان الاقتلاع من وطنه وتشريده. لم تحتف الشاعرة الفلسطينية بعواطفها وبذاتها الأُنْثَوية، ولم تَعِشْ حياتها المُشتهاة، لأنّ الفرح سُرِقَ منها بفعل النكبة، وبسبب قمعها وتدجينها وتفتيتها من أسرتها ومجتمعها الذكوريّ، الذي هصرها وأطفأ شمعة روحها، وسجنها مدى الحياة بأصفاد في غرفة مغلقة. هذا التوصيف يندرج على الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، سيزيف الشّعر الفلسطينيّ، إذ حمل شعرُها قضايا شعبها الفلسطينيّ ومُعاناتها الشخصية. وَرَسمَ صورة المرأة الفلسطينية المَقموعة مَهيضة الجناح في مُجتمع ذُكوريّ قاسِ. كتبتْ فدوى طوقان من القفص البيتيّ شعرَها الترميزيّ التائق إلى الحرية والمُحتفي بالحبّ الضائع، والمُكَرّس للهمّ الفلسطينيّ، أي أنّ بُرتقالتها الشعرية حَمَلَت شَطْرَيْن من هُموم الوطن الجَمْعية وَهُموم الذات. هذا المُضمر السّرديّ الخاصّ بـ»الأنا» الشاعرة، والتعبير عن الذات، جاء كاشفًا وفاضحا أكْثر للمجتمع الفلسطينيّ الذكوريّ في نَثرها، ففي سيرتها «رحلة جبلية رحلة صعبة» 1985، باحت الشاعرة وهي على عتبة عقدها السّابع، بتهميشها وإقصائها «لدى وصولي تلك المرحلة من العمر، لم أكن أعرف شيئًا عن الحب على الإطلاق، فلم يكن هذا الموضوع مما يتناوله أفراد الأسرة على مسمع منا نحن الصغار.
أشعار فدوى طوقان الذاتية غارقة في السَوداوية والتلاشي والاغتراب، وعناوين دواوينها «وحدي مع الأيام»، «أعْطِنا حُبٍّا»، «أمام الباب المغلق»، «على قمة الدنيا وَحيدًا»، مرايا عاكسة لحياتها السيزيفية.
وجاء الربيع، وعرفت هذا الشيء المسمّى حبًّا، الذي ظلّ يشرنق حول وجودي إلى ما لا نهاية. هنا جاء جواب السؤال الذي حرمته عليّ أمّي، جاءني محمولًا على زهرة فُلٍّ عبقت رائحتها وعلقت بجدران قلبي. ما أزال حتى اليوم أحسّ وكأنّ يدًا خفية تقذف بي إلى ذلك الماضي، أو تقذف به إليّ كلّما نفحتني زهرةُ فُلّ بعطرها». وتسترسل فدوى طوقان في بَوْحها «كان غلاما في السادسة عشرة من العمر. ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية في ذهابي – وإيابي، فما كان لمثلي أن تزوغ يمينًا أو شمالًا. كانت الطاعة من أبرز صفاتي، وكنت مسكونةً دومًا بالخوف من أهلي. كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو زهرة فُلٍّ، ركضَ إليّ بها ذات يومٍ صَبيٌّ صغيرٌ في (حارة العقبة) وأنا في طريقي إلى بيت خالتي. ثُمَّ حلّتِ اللعنةُ التي تضع النهايةَ لكلّ الأشيْاءِ الجميلةِ». وعلى إثْرِ هذه الحادثة فُرِضَتِ الإقامةُ الجبريةُ عليها، من قبل أخيها، في البيت حتى يوم مماتها، وأصبحت الزهرة تشكّلُ في قاموسها فوبيا وكابوسًا لماضٍ وجيعٍ وشبابٍ ذابلٍ وسليبٍ. وبسبب هذا الظلم والاستلاب، فكّرت فدوى بالانتحار بطريقتين، كما باحت بسيرتها، «أحيانًا كنت أدخل المطبخ، وأقف عند صفيحة (الكاز) وبيدي علبة الثقاب. لكنني كنت أنصرف بدون تنفيذ الأمر، وأنا أفكّر بطريقة أخرى تكون أقلّ عنفًا من الاحتراق بالنار. كثيرا مع خطر لي تناول السم، ولكن من يأتيني به؟ بالإضافة إلى كونه يسبب آلامًا شديدة قبل الموت. كنت أريد التعبير عن تمرّدي عليهم بالانتحار.. الانتحار هو الوسيلة الوحيدة، هو إمكانيتي الوحيدة للانتقام من الأهل». هذا المناخ الخانق الذي سرقَ وصادرَ ربيعَ شبابها ومشاعرَ قلبها، شكّلَ في حياتها طَوْقًا ثانيًا، إضافةً إلى طَوْقِ الاحتلال، لكنّه لم يُثْنِ الشاعرة عن البَوحِ من داخل الأقفاص، وسكب قارورة عطرٍ شعرية عابقة بخلجات قلبها الكسير، العازف على أوتارٍ مقطوعةٍ، بلغة شاعرية حارّة في مناداة الحبيب الافتراضيّ في قصيدة «كلّما نادَيْتَني» من ديوان (وَجَدْتُها ) 1957: «يا حبيبي كلما ناديتني/ هاتفًا عبر المسافات: تعالي/ عبقت في خاطري يا جنّتي/ جنّةٌ، وانهلّ ضوءٌ في خيالي/ وبدا لي/عالم ريّان، ورديُّ الظلالِ/ من شباب وفتون وغوى/ أسكرت آفاقه خمرُ الهوى/ وتعرَّت فيه أطياف الجمالِ/….. نادِني من آخر الدنيا ألبّي/ كلُّ درب لك يُفْضي هو دَرْبي/ يا حبيبي أنتَ تحيا لتنادي / يا حبيبي أنا أحيا لألبّي/ صوتَ حُبّي/ أنتَ حبّي / أنت دنيا ملء قلبي/ كلما ناديتني جِئْتُ إليكَ / بكنوزي كلِّها مُلْكُ يديكَ/ بينابيعي، بأثماري، بخصبي/ يا حبيبي». الشاعرة رُغم وَحْدَتها وحياتها الصحراوية الظمآى للحبّ، ناجت الحبيب المَنشودَ البعيد، ورسمت شوقها بمشاعر دافقة، مفعمة بالحرارة والنداءات المتكرّرة، بلغة هادئة وبصوت ذاتها الباحث عن نصف دائرتها الضائع. وفي قصيدة «غَيْران» من ديوان («أعْطِنا حُبًّا» 1960، تناجي الزنبق الغَيْران حامل سيميائية الإخلاص في الحبّ وتنعته بالحبّ الأخير،
تعبيرًا عن الوفاء بأسلوب الإفهام الإنكاريّ «ظَلمْتَ؛ من قال حَبَبْنا سِواك/ من قال بِعْناكَ وعُفْنا شَذاك / وأنت دُنْيانا التي نعشقُ / يا حُبَّنا الأخيرَ يا زنبقُ». إنّ الحبيب المُنادى في أشعار فدوى طوقان يختفي ولا يعود، فتنهال نداءاتها الرومانسية إليه، حتى تتيقّنَ أنّها تُنادي سرابًا، هذا ما يتراءى في «غب النوى»: مَضَيْتَ؟ إلى أينَ؟ هلّا تعود/ لروحي اللهيف، لقلبي الغريب؟ ويا لَكَ وَهْمُ سرابٍ تألّق/ في قفر عُمري لقلبي الشّريد / حَنانَكَ عُدْ، كيفَ أحْيا الحياة/ وَاًنْتَ هُناكَ بَعيدٌ بَعيد». وفي قصيدة «حياة» من ديوانها «وحدي مع الأيام» رسمت بورتريه لها شِعْرًا بِلَوْحَة سَوْداوية: «حياتي دموعٌ / وقلب ولوعٌ / وشوقٌ، وديوانُ شعرٍ، وعودْ «.
إنَ أشعار فدوى طوقان الذاتية غارقة في السَوداوية والتلاشي والاغتراب، وعناوين دواوينها «وحدي مع الأيام»، «أعْطِنا حُبٍّا»، «أمام الباب المغلق»، «على قمة الدنيا وَحيدًا»، مرايا عاكسة لحياتها السيزيفية ولنفسيتها المحطّمة فهي تحمل في قصيدة «الصخرة» صخرةً سوداءَ فوق صدرها، وتُعْلن انكسارَها «انْظُرْ هنا / الصخرة السوداء شُدّتْ فوق صدري/ بسلاسل القدر العتيّ / بسلاسل الزمن الغبيّ/ أنظر إليها كيف تطحن تحتها/ ثمري وزهري/ نحتتْ مع الأيام ذاتي / سَحَقَتْ مع الدنيا حياتي/ دَعْني فَلَنْ نَقْوى عليها».
لكنّ فدوى في صورتها الشاعرية في الهموم الجَمعية لشعبها، المنحوتة بصخرة الانتماء الفلسطينيّ، تتمظْهَرُ أُسطورةً عصيةً على الانكسار، تحمل وطنها أيْقونَةً وتفتخر وتنشدُ البقاء في الوطن حيةً، أو ميّتةً، والانصهار في ترابه والانبعاث فيه، كما في قصيدتها المنحوتة على ضريحها «كفاني أموتُ عليها وأدفن فيها/ وتحت ثراها أذوب وأفنى/ وأُبْعَثُ عُشْبًا على أرضها/ وأبْعَثُ زهرةً إليها/ تعبثُ بها كف طفل نمته بلادي/ كفاني أظل بحضن بلادي». الشّعر في عالم فدوى طوقان المُطَوّقة يحملُ التمرّد على الثابت المجتمعيّ القامع، والاحتفاء بالفرح والحبّ الوهميّ المُرتجى.
٭ كاتب فلسطيني