برلين
السمات المميزة للفكر العربي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 225
التاريخ : / 2020
السمات المميزة للفكر العربي
د. ضرغام الدباغ
تطرح المقارنة بين الفكر السياسي العربي ـ الإسلامي، والفكر السياسي المسيحي، (بوصفه فكراً واسعاً)الفرصة أمام الباحثين، طرق مباحث لم تكن قد وردت في خلد الباحث عند الشروع بالبحث، بل تطرح أمكانية القيام بدراسات ذات توجه اختصاصي، عميقة الأهداف، والنتائج أيضاَ. وبلا شك لا يمكننا دراسة أي من التجربتين على أسس وقيم موحدة بسبب التباين في ظروف نشأة هاتين الحضارتين وما سبقتهما، وأبان احتدام الظروف الموضوعية والذاتية والتناقضات، والتفاوت في معطيات اقتصادية واجتماعية كثيرة، تجعل إخضاع التجربتين لمقاييس واحدة و ضرباً من ضروب العبث والتلاعب بالألفاظ ومغامرة فكرية ليس إلا.
ولكن مع ذلك، هناك سمات وملامح متشابهة، والسبب هو أن الصلات بين الحضارتين كانت مستمرة متواصلة من جهة، ولأن مسعى الإنسان في التقدم والكمال، وفي تحسين ظروفه هو مسعى عام ودائمي، يمضي صوبه الإنسان حيثما كان وحيثما تأسست حضارات من جهة أخرى. ورغم أننا خلال مباحث الفصول الأربعة التي تضمنها الجزء الثاني، حيث عرضنا الأفكار واتجاهات تطور الفكر السياسي بأسلوب يسهل على القارئ ملاحظة الفروق الأساسية بين الفكر العربي الإسلامي، وبين الفكر السياسي المسيحي الليبرالي في محاور ستة هي من حيث: ـ
1 ـ ظروف النشأة .
2 ـ العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على تطور الفكر السياسي .
3 ـ تأثير الدين على الفكر السياسي.
4 ـ تطور فكرة الدول.
5ـ المؤثرات الثقافية بصورة عامه.
6 ـ المؤثرات الخارجية.
إلا أننا سنقدم باختصار، ما طرحناه من أراء وأفكار واستخلاص العناوين الجوهرية والأساسية، ولا بد من ذكر حقيقة، هي أننا لم نجد دراسات في الفكر السياسي المقارن باستثناء مقالة من صفحات قليلة للدكتور فاضل عبد الواحد علي (وكان ذلك بعد الفراغ من إنجاز عملنا تقريباً) في أوجه المقارنة بين حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل. فمن المؤسف أن لا تكون هناك دراسات كثيرة في هذا الاتجاه (باللغة العربية على الأقل)، إذ بوسع الباحثين التوصل حقاً إلى حقائق كثيرة وأستخلاصات جديدة وإماطة اللثام عن تساؤلات كثيرة وأسئلة حائرة، ربما يبدو بعضها كالألغاز.
1 / ظروف النشأة : ـ
كانت المسيحية قد انتقلت إلى أوروبا من الشرق بواسطة الدعاة الأوائل في ظروف صعبة، فالاضطهاد الديني كان يمارس بشدة وقسوة ضد المسيحيين صادراً عن اتجاهين أثنين: الأول من اليهود الذين كانوا يخشون انتشار الدين الجديد، فقاموا بتسليم السيد المسيح إلى الرومان الذين قاموا بإعدامه. والاتجاه الثاني، كان من السلطات الوثنية الرومانية.
وقد فر أول الدعاة إلى شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا)، فظهرت المسيحية أولا في أواسط القرن الميلادي الأول في الولايات الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وما لبثت أن وصلت إلى اليونان في بداية القرن الثاني، ومضت تكسب عواطف الفقراء والفلاحين والفئات المحرومة لسببين: ـ
الأول / أن وضع هذه الفئات المتردي دفعها إلى قبول المبادئ المسيحية التي كانت تتحدث عن الإخاء والمساواة في الحياة الأخرى.
الثاني / أن العبادات الوثنية في أوربا كانت تتطلب القرابين التي كانت مرهقة مادياَ ومعنوياَ، كما كان نظام طقوس العبادة الوثنية معقداَ، فيما بدت التعاليم المسيحية عبر الدعــاة الأوائل بسيطة في تقاليدها وطقوسها.
ولكن ما أن أنظم إلى المسيحية بعض وجهاء المجتمع بسبب سخطهم على السلطات لأسباب تنافسية أو شخصية، أو لعداوتهم مع السلطات لأي سبب من الأسباب، حتى أخذ تيار المسيحية بالأتساع ليشمل الفئات الميسورة أو الغنية، وقد تصادف ذلك مع مظاهر شيخوخة نظام الدولة الرومانية بسبب عجزها عن حل تناقضات كثيرة أو انحطاطها وكذلك حدوث انشقاقات عديدة في الحركة الفلسفية الرواقية، أدركت السلطات أن اعتناق المسيحية سيمنح الدولة رباطاَ جديداَ وسيكون من مصلحة الدولة حتماَ، والفئات المتسيدة فيه، ومن ثم استيعاب التعاطف الشعبي مع المسيحية، الذي أنطلق وأصبح في القرن الرابع تياراَ شعبياَ قوياَ.
كان إعلان المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع 325 م. فاكتسبت المسيحية بذلك قوة مهمة إلى جانبها (قوة الدولة) ولكنها من جانب آخر بانحيازها إلى الدولة والملك، كفت عن كونها أيديولوجية الفقراء والكادحين والمضطهدين، بل أصبحت جزأ من الدولة، وأصبح الدعاة المناضلون، رجال كهنوت ما لبثوا أن اتخذوا لأنفسهم هيئة مراتبية (درجات في السلك الكهنوتي)، وتربع قادة الكنيسة على قمته ومارسوا النفوذ والهيمنة، متحالفين مع الملك وأمراء الإقطاع.
وهكذا كانت نشأة المسيحية والدولة المسيحية في أوربا، والأمر يختلف عنه في الإسلام، مع أن كلتا الدعوتان لاقتا الاضطهاد، وكان افتتاح ذلك نضال صعب خاضه الرسول محمد (ص)
ضد أبناء قبيلته وجلدته قريش ( 612 م. ـ الإجهار بالدعوة ). وقد مر نضال الحركة الإسلامية بثلاث مراحل :
آ ـ مرحلة دفاع استمرت من 612 م. وهو عام الهجرة حتى 622م..
ب ـ مرحلة تعادل ابتدأت منذ الانتصار في معركة بدر 62 م، وتخللتها الكثير من المعارك والوقائع والأحداث السياسية الهامة، وانتهت هذه المرحلة سنة 630 م. وذلك بدخول الرسول(ص) مكة منتصراً على الأرستقراطية القبلية وابتدأت مرحلة التفوق.
كانت هذه مراحل نضال دامية تمكن الإسلام فيها من إقامة دولته الأولى 622 م. إثر الهجرة من مكة إلى المدينة التي أصبحت بؤرة الثورة وعاصمة الدولة. وكانت منطقة وسط شبه الجزيرة العربية (مثلث: مكة، يثرب “المدينة”، الطائف) ترزح تحت تخلف اجتماعي، واقتصادي، وثقافي، أكثر من أي الأمصار العربية الأخرى، لأسباب عديدة في مقدمتها العناصر الموضوعية التي تتمثل في الطبيعة الصحراوية القاسية، وندرة وسائل العيش التي لم تكن تتيح إلا قدراَ بسيطاَ من حياة وعلاقات متخلفة، بدوية متنقلة ( جنتيلية ) تهيمن فيها أرستقراطية قبلية على نظام إدارة بسيط، ولم تكن منطقة وسط شبه الجزيرة قد عهدت قيام دول ومؤسسات، إلا تلك القبلية منها وقوانين عرفية. فيما كان نظام العبادة الوثني الغيبي يقسم ولاء الناس، والمظاهر الثقافية كانت ضعيفة، والأنشطة الاقتصادية كانت تقتصر على التجارة تهيمن الأرستقراطية على مفاصلها الرئيسية، مع زراعة رقع صغيرة.
وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية لم يتم عبر تحالفات مع السلطات، وكانت الأرستقراطية التي تهيمن على إدارة المدن الرئيسية الثلاث في وسط شبه الجزيرة قد عرضت على الرسول محمد (ص) التعاون معهم وإشراكه في السلطة وفي سائر الامتيازات الأخرى، مقابل التخلي عن الدعوة للدين ومنهج التغير الذي كان يهدد مصالحهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكن الرسول(ص) رفض ذلك، فقد كان يريد السلطة بأكملها ووضع العقيدة ( المنهاج )
موضع التطبيق، ولا بد أن التناقض كان جذرياَ فقد كان هناك عبيد من بين القيادات والزعامات الإسلامية التي لم تكن تقيم وزناَ لمكانة الفرد القبلية وانحداره الطبقي.
وإذ تطلعت القيادة الإسلامية ( الدولة الإسلامية ) إلى خارج منطقة البؤرة الثورية (شبه الجزيرة العربية) فأنها فعلت ذلك لسببين رئيسيين: ـ
الأول ـ كانت القوى التي تهيمن على هذه المراكز( العراق ـ الشام ـ مصر)، تمثل قوى أجنبية، فارسية، رومية، أرادت أن توجه ضربة إجهاضية استباقية لبؤرة الثورة التي نجحت خلال فترة وجيزة من إقامة الدولة، ثم بسطت هيمنتها على مثلث شبه الجزيرة، وما لبثت أن بسطت سيطرتها على كامل شبه الجزيرة، فقررت توجيه ضربة إلى هذه الدولة الفتية، التي رأت فيها تهديداَ لمصالحها التوسعية.
الثاني ـ كانت هذه القوى تمثل قوى عظمى في عصرها، وقد استولت بالقوة المسلحة على هذه الأمصار العربية ومنعتها من أن تشكل أنظمتها السياسية التي تختارها، وبدلاَ منم ذلك أقامت كيانات تابعة هي عبارة عن فقرات في نهجها التوسعي. فقد أقامت الإمبراطورية الفارسية مثل هذه الكيانات في العراق، وأقام الروم البيزنطيون كيانات مماثلة في بلاد الشام ومصر. وقد قمعت القوى العظمى هذه كافة المحاولات للتحرر من قبضتهما، وحاولت تمزيق الصلات والعلاقات الاقتصادية والثقافية بدرجة أساسية، كما كانت تعرقل الفعاليات التجارية و كانت سبباَ في التخلف الاقتصادي.
وعلى هذا الأساس فأن انتشار الإسلام إلى خارج شبه الجزيرة العربية كان يمثل إشعاعا تحررياً استقبلته شعوب تلك الأمصار العربية، وأبدت المساندة التأييد، فقد كان ينطوي في ثناياه وإن لم يكن ذلك قد تبلور بصورة واضحة، على أيقاظ للوعي القومي. فقد قاتل مسيحيون عرب إلى جانب الجيش العربي الإسلامي في سوريا ومصر ضد الرومان والبيزنطيون المسيحيين، كما قاتل وثنيون عرب في العراق مع الجيش العربي الإسلامي ضد الفرس الوثنيين، فالأمر إذن كان ينطوي بهذا القدر أو ذاك على بواكير الوعي القومي، والشعور بالرابطة القومية.
وبالفعل، فأن العامل القومي (أطلق عليه علماء السياسة العرب مصطلح العصبية) لم يبرز في أوربا المسيحية إلا بعد حركة الإصلاح الديني، اللوثرية في القرن السادس عشر أو السابع عشر، أي بعد ظهور الإسلام بعشرة قرون، ولم يحدث ذلك إلا على أيدي البورجوازية التي رأت فيه (العامل القومي) رباطاَ يحل بدلاَ من الو لاءات الطائفية التي قادت في أوروبا إلى حروب دموية، ويساعد على بلورة مقدمات لدولة حديثة على الأساس القومي كشرط ضروري، كي تواصل البورجوازية برنامجها السياسي والاقتصادي والثقافي.
فالإسلام أنتشر تحت شعارات التحرر الوطني والقومي في الأمصار العربية، بل وغير العربية، مثل الفرس اللذين انظموا بسرعة إلى الإسلام تخلصاَ من جور وظلم حكامهم وتناقضات متفجرة عميقة بين قياداتهم ولسماحة التشريعات الإسلامية. وكذلك فأن العرب لم ينزلوا الأندلس (أسبانيا) إلا بناء على رغبة فئات كثيرة منها: تخلصاً من صراعات داخلية بين الأمراء الأسبان والصراعات بين الكنيسة والأمراء واضطهاد الأقليات لا سيما اليهود منهم
2 ـ دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في التأثير على تطور الفكر السياسي:
من المؤكد أن الموقف الاقتصادي / الاجتماعي هو من العناصر البالغة الأهمية في التأثير على مسيرة تطور الفكر السياسي بصفة خاصة. وقد يختلف المفكرون في أولوية العامل الاقتصادي و الاجتماعي، ولكننا نعتقد ولأسباب بديهية سوف نستعرضها، أن لا مناص من الإقرار بتأثيره الكبير على تطور الفكر السياسي.
ويقول الأستاذ الفرنسي المعاصر بيير بورجلان Pierre Burgelin في تقديمه لمؤلف جان جاك روسو الشهير ” في العقد الاجتماعي : ” السياسة بالنسبة لنا هي فن إدارة المجتمع والمحافظة على السلم الاجتماعي فيه، وتحويل التشريع لمطابقته مع التغيرات التي يجلبها التاريخ ومراقبة مختلف فعاليات الناس بحيث تكون المؤسسات عادلة وفاعلة وضبط العلاقات بين الدولة والدول الأخرى “(1)
ودون ريب فأن ما يقصده الأستاذ بورجلان، في تعريفه للسياسة هو من ضمن المفاهيم السياسية للرأسمالية المعاصرة، ويقصد بالسلم الاجتماعي، هو الحفاظ على مستوى الموقف الحالي الذي تهيمن فيه الطبقة السائدة على النظام، وإبقاء التسلسل الاجتماعي وهذا الهدف، وهو تعريف صحيح تماماَ بالنسبة للفكر البورجوازي.
أذن والأمر كذلك، فلا بد أن الموقف الاجتماعي كان على الدوام مؤثراَ بدرجة كبيرة عند نشأة الفكر الإسلامي أو المسيحي الليبرالي، وفي التطورات اللاحقة وهذه حقيقة لا غبار عليها وهو مؤثر في كافة مراحل التطور السياسي في كلتا التجربتين.
ففي ظروف النشأة، وهي ظروف مهمة في تأريخ الفكر السياسي العربي الإسلامي، كان مجتمع البؤرة الثورية والذي هبت منه رياح التحول، مجتمع منطقة وسط شبه الجزيرة العربية مثل العقدة الأكثر تخلفاَ على كافة الأصعدة وخصوصاً مكة التي كانت تخلو من أي نشاط اقتصادي سوى التجارة. فقد كانت تقع على طريق مرور القوافل القادمة من اليمن والمتجهة صوب غزة على ساحل البحر المتوسط. وكان تقديم الخدمات على أصنافها العديدة إلى القوافل تمثل النشاط الرئيسي لها، ولكن ما لبثت أن تحولت الأرستقراطية القبلية إلى ممارسة التجارة وانتزاع ذلك الدور من أيدي تجار اليمن بسبب الأحداث السياسية التي سادت اليمن من تدخل وهيمنة القوى الأجنبية (حبشية وفارسية)وإطلاقهم لعواصف الإصطراع الديني والطائفي بين مسيحيين ويهود ووثنيين، الأمر الذي أحال مكة إلى مركز تجاري مهم.
كان الربا( الفائدة على رأس المال )الظاهرة الاقتصادية الثانية، فقد نشأت اشتدت بسبب الظاهرة الأولى(التجارة)، إذ كان كل فرد يطمح بتطوير وضعه الاقتصادي ومداخيله وتحسين مستوى معيشته، يجد في التجارة والنشاط التجاري ميداناً للمغامرة. والنشاط التجاري كان يتلخص باستلام السلع والبضائع الواردة إليهم من الهند وأفريقيا (عبر موانئ اليمن) وتسويقها إلى العراق والشام ومصر(ومن هناك ربما إلى اتجاهات أخرى) وشراء سلع من تلك الأمصار والاتجار بها في شبه الجزيرة العربية بما في ذلك اليمن، ومواصلة تصديرها إلى أفريقيا والهند. وبناء على ذلك فقد مثل الربا الظاهرة الأكثر بروزاَ في التسلط الطبقي، وهو قائم على أساس اقتراض مبالغ من المال من المرابين (العاملين بالربا) لقاء فوائد عالية تتراوح بين 40 – 100 %، تمثل فرصة الفرد في المساهمة في النشاط التجاري. لذلك كان محتماَ على الإسلام كثورة أن يتصدى لهذه الظاهرة التي كانت تلحق أوخم العواقب بالفئات الفقيرة، إذ يضطر الفرد عند عجزه تسديد القرض والفائدة إلى بيع أحد أفراد أسرته أو نفسه كعبد أو حمل امرأته أو أبنته على ممارسة البغاء، ولهذا السبب فقد أدان الإسلام الربا والمتعاملين به بشدة أكثر من عشرة مرات في القرآن.
وعندما تصدت أرستقراطية مكة المتمثلة بقريش للدعوة الإسلامية، اكتسبت الحركة الدينية طابعاَ ثورياَ بتصديها للفساد الاقتصادي والاجتماعي، الربا والعبودية، بمساواتها بين العبيد والأحرار. ومنع استلاب الإنسان للإنسان واضطهاده طبقياَ واجتماعيا، فقد لاقت الحركة شعبية واسعة بين الفقراء وأفراد البدو والمضطهدين ورسخت بذلك نهجها الثوري، بل أن مؤرخاَ أوروبياَ يقرر: أن جوهر الإسلام كان سياسياَ واقتصاديا أكثر مما هو دينياَ، ومستشرقاَ هولندياَ يرى أن الداعي لظهور الحركة الإسلامية كانت تتيح حياة متساوية للبشر، ولكن تطبيق مثل هذه المبادئ في تلك العصور يعد شيئاَ كبيراَ وفريداَ، فقد كانت حياة الفقراء والصعاليك في عرضة دائمة للإخطار والعذاب، فلا قانون يحميهم ولا شريعة تنقذهم من هاوية الموت الاجتماعي والرق الأبدي، وكانوا يعيشون في وديان وشعاب البلدة وأطرافها البعيدة في بيوت حقيرة وحياة ضنك وجوع مستمرة.(2)
وعلى هذا الأساس، مثل الفكر السياسي الإسلامي والدولة لاحقاَ، إنقاذا لهؤلاء البشر الذين جاء عنهم في القرآن (فقال الملئ الذين كفروا من قومه، ما نراك إلا بشراَ مثلنا، وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا ” 27 هود ) وقد أستمر هذا الطابع هو الغالب على الحركة ولكن المتغيرات اللاحقة عندما أصبحت الدولة إمبراطورية عالمية عملاقة وأصبحت الفئات الأرستقراطية، طبقة إقطاعية تمتلك الأراضي والمزارع وقطعان الماشية. وتضاعفت مكانة وقوة ونشاط الرأسمال التجاري، وتغيرت موازين القوى الاجتماعية ومالت لصالح الفئات الثرية، وشابت الدولة الراشدية الدسائس وتخللتها الفتن وتحولت من جمهورية إلى ما يشبه النظام الملكي. ودارت عمليات التحول من نظم الأرستقراطية إلى الإقطاع والتجارة الدولية. وتحركت تناقضات سادت أرجاء الإمبراطورية، أصابت نظام الدولة بالشلل والعجز عن مواجهة المشاكل المتفاقمة، ولما سقطت الدولة العربية الإسلامية على أيدي القبائل الهمجية البربرية، كانت أولى أجنة الورش اليدوية والحرف تنهض في المدن، وكانت ستتحول إلى أجنة البورجوازية، لو قيض لها الاستمرار والتطور والنمو. ولكن تلك المنجزات التي تحققت أو تلك التي كانت على وشك التحقق، أجهضت وتوقفت عملية التطور المنشود في حدوده الدنيا.
كانت مسيرة التطور في أوروبا تختلف، فأن حياة البداوة لم تستمر طويلاَ بين القبائل، إذ استقرت قبائل آوروآسيوية وأخرى جاءت من شرق أوروبا استقرت حيث تتوفر المياه الوفيرة والمراعي، وأقامت دول المدن في اليونان قبل الميلاد وفي شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا) مستفيدة ومتفاعلة مع التجارب الشرقية التي سبقتها في مسيرة الحضارة، ولم تتعرض إلا بدرجة محدودة لغزوات خارجية (الفرس والقرطاجيون)، وفي القرون الميلادية الأولى، كانت أنماط العبودية تتجه إلى التلاشي بعد أن أصبحت عائقاَ أمام تقدم وتطور علاقات إقطاعية أكثر تقدماَ، الأمر الذي حسم أيضاَ مصير دولة روما العبودية.
وقد شهدت القارة الأوربية في تلك القرون، أغارات من قبائل جرمانية بصفة خاصة وسلافية وغوطية وفايكنك وهون وغيرهم، وبنتائج تلك الإغارات وصراعات قبلية داخلية، سقطت الإمبراطورية الرومانية سنة 476 م وكان ذلك إيذانا بنهاية العلاقات العبودية وبدء العلاقات الإقطاعية، فيما لم تبدأ العلاقات الإقطاعية في البلاد العربية الإسلامية قيل القرن السابع أو الثامن الميلادي لا سيما في الأمصار المتخلفة ذات الطبيعة الصحراوية ولأنماط العلاقات البدوية، وبذلك فقد قطعت التطورات الاقتصادية في أوروبا أشواطاَ أسرع من تلك التي جرت في أماكن أخرى، ولكن حلول الإسلام وانتشاره السريع بصفة استثنائية (لم تستغرق الفترة بين تأسيس دولة المدينة وهيمنة العرب المسلمين على أجزاء واسعة من قارتي آسيا وأفريقيا و جزء من أوروبا سوى 13-15 سنة) قطع فيها الفكر العربي الإسلامي أشواطاَ سريعة وأكتسب نضجاَ أكثر بكثير مما توصل إليه الفكر السياسي المسيحي حتى حلول القرن السادس عشر، حيث تزامن عصر النهضة مع حركة الإصلاح الديني، الأمر الذي أعطى دفقه حيوية مهمة للفكر السياسي الأوربي الذي كان يتعثر بين المنجزات الفلسفية الإغريقية /الرومانية وبين اللاهوت المسيحي، حتى حل عصر الليبرالية، ومن ثم عصر التنوير الذي وضع هذه المنجزات في إطار فلسفي / سياسي / قانوني متماسك. ووضع أوروبا، الأقطار المتطورة منها بصفة خاصة، على طريق التحولات العميقة وفي المقدمة منها الاقتصادية / والصناعية / السياسية و الدستورية .
3ـ تأثير الدين في الفكر السياسي : ـ
أدركنا في كافة مراحل تطور الفكر السياسي، أن الدين مثل على الدوام عنصراً مهماَ في الحياة السياسية للمجتمعات منذ أن عرف الإنسان الاجتماع، فقد لعب دور الملاذ الروحي للإنسان لا سيما حيال القضايا التي تمثل لديه المجهول: الموت، القدر، الظواهر الخارقة، الكون، البعث….الخ ناهيك عن تفاصيل ومفردات كثيرة، كان عقل الإنسان يقف أمامها عاجزاً. ولكن هذا الجدار الحاجز كان يقل ارتفاعاَ ويقصر مدىَ كلما تقدم الإنسان في معارفه وكلما تقدمت المجتمعات وصار الإنسان سنداَ للإنسان، وتمكن من السيطرة على القوى الطبيعية وأدرك أسرارها.
وقد مرت المجتمعات الإنسانية في مرحلة كان المعبد فيها هو مقر الحكم، والكاهن الأعظم هو الملك بنفس الوقت، ونظريات حكم تزعم الحلول الإلهي، أي أن جزاْ من الآلهة قد حلت في الملك نتيجة اتصال بين الآلهة ووالدة الملك، التي كانت على الأرجح من العاملات في المعبد أو وفق نظرية التفويض الإلهي، أن الملك يحكم باسم الآلهة وتفويض منها.
وفي تاريخ العرب قبل الإسلام، لعبت الآلهة (وكان نظام العبادة عند العرب يعتمد نظام العبادة المتعدد القوى الغيبية Polodomnisim ) دور الوسيط بينهم وبين الخالق. وكانت الإلهي كثيرة العدد والوظائف، وربما كان لكل قبيلة آلهتها الخاصة بها. وكان في ذلك تشتيت للقبائل. وكانت القيادة الأرستقراطية تتخذ من الكعبة رمزاَ دينياَ ووسيلة للسيطرة السياسية، إذ كانت مستقراَ لعدد من الآلهة المهمة. وتمارس أيضاَ من خلالها نفوذاَ اقتصاديا خلال مواسم الزيارة والحج بتقديم القرابين والهدايا للأصنام والأوثان وإقامة الأسواق التجارية المهمة في المناسبات الدينية والتي قد تستغرق عدة أشهر سنوياَ ومناسبة للقاء التجار والمرابين وعقد الصفقات. فقد مثل الدين بالنسبة للأرستقراطية القبلية وسيلة للهيمنة السياسية والنفوذ الاقتصادي والسيطرة على القبائل من جهة، كما مثل من جهة أخرى غطاء للمصالح الاقتصادية والتجارية، الأمر الذي كان يضمن الزعامة والسيادة للتحالف القبلي الأرستقراطي بقيادة قريش.
وفور تشكيل الدولة الإسلامية مثلت الشريعة (القرآن ـ السنة = أحاديث أفعال الرسول (ص)) القانون الأساسي (الدستور)، والدليل النظري والسياسي للاجتهاد، وكان الرسول محمد (ص) حتى قبل وفاته يوصي ممثليه من ولاة المناطق بالعمل وفق نصوص الشريعة والاجتهاد والقياس عند عدم توفر النص وبالاجتهاد عند عدم وجوده.(3)
ولابد من الإقرار، أن الإسلام قد جاء بالكثير، وأثرى الفكر السياسي العربي بما مثل تقدماَ كبيراَ. فقد ذكرنا في مباحث الفصل الأول من الجزء الثاني الأفكار الرئيسية التي جاء بها الإسلام (ضمن الشريعة) أبرزها:
ـ الأمارة ومن مبادئها: أداء الأمانة (سياسياَ) ـ الشورى ـ القيادة الجماعية ـ العدل
ـ الدعوة إلى العمران ومن مبادئها: العلم ـ المساواة ـ العمل ـ الحريات الجمعية.
ـ الأمر بالمعروف ومن مبادئه: الصدق ـ التعاون ـ التضامن ـ الجهاد.
ـالنهي عن المنكر ومن مبادئه : الانتهازية ـ الفتنة ـ الخيانة ـ الرشوة ـ الربا .
ـ الاجتهاد والقياس : المبادئ المشتقة عنهما .
ـ مبادئ سياسية عامة : لا ضرر ولا ضرار ـ المحذورات تبيح المحظورات
سد الذرائع ـ رفع الحرج ـ البراءة الأصلية ـ مبادئ
الاقتصاد بالقوة ـ الابتعاد عن حكم الهوى. أحكام التعامل
مع العدو .
الإسلام لم يؤسس دولة ثيوقراطية، ولم تكن هناك مراتبية في المهام الدينية وليس هناك كهنوتية أو سلك رهبنة ولا أكريلس (قضاء ديني)، نعم، كان هناك التحام بين المهام الدينية والدنيوية(تركز ذلك في مرحلة الدولة الراشدية)، ولكن كان هناك اجتهاد وهناك تشريع جديد يساير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بصفة خاصة. والاجتهاد هو أحد الفصول الرئيسية التي جاء بها الفكر السياسي الإسلامي، مكنت الدولة العربية مواصلة العمل السياسي واتخاذ المواقف والقرارات السياسية، وبعض تلك المواقف، لم تكن تطابق أحكام الشريعة، فهناك مرونة بدرجة مقبولة، في حدود معلومة، لا تلغي شخصية السياسي المسلم المميزة ولا تجعل منه منافقاَ انتهازيا، أو متحجراَ في إطار معين لا مخرج منه. وقد تطور الاجتهاد إلى علم واسع يختص باتخاذ القرارات على كافة الأصعدة وفي مقدمتها السياسة.
ومن أهم المميزات السياسية التي جاء بها الإسلام، وكان ذلك أمراَ مهماَ في تلك القرون المبكرة، هو في صراعه مع قوى رجعية أرستقراطية قبلية كان نظامها السياسي يعتمد على الولاء للقبيلة والأسرة، والنظام كان عبارة عن سيادة تحالف قبائل وأسر وقوانين عرفية قبلية غير مكتوبة، فيما ركز الإسلام بصفة قاطعة على الولاء للدولة والعقيدة والدستور(الشريعة) وليس لقبيلة أو أسرة. وقد أضحت هذه المبادئ المنهل الرئيس الذي يستقي منه السياسي العربي المسلم قراراته وبذلك أثبت الفكر الإسلامي مرونته في تعامله مع الوقائع والأحداث ومع المستقبل.
الفكر الإسلامي لم يكن نرجسياَ، بل تعامل وتفاعل وتأثر وأثر بحضارات ومنجزات شعوب أخرى، ولم يكن فوضوياَ ولو كان كذلك لسقط في فخ التطرف. فقد آلت إلى الفشل والإخفاق والتلاشي تيارات سياسية إسلامية وغير إسلامية لمجرد أنها جنحت نحو التطرف. ولعل أبرز السمات الإيجابية، هي أن الشريعة الإسلامية لا تنطوي على نصوص تفصيلية، فعلى سبيل المثال، تنص الشريعة على وجوب اتخاذ الأمارة (وجود الدولة والحكم)، لكن دون الدخول في تفاصيل، ولو فعل ذلك لاستحال تنفيذها في كل مكان وزمان وكذلك حول مسألة الشورى، وهي فقرة مهمة في الفكر السياسي الإسلامي ولكن ليس هناك نصوص محددة حول أقامتها.ولكن مع أشارات كافية لضرورة قيامها .
وفرق مهم آخر، كبير ومهم بين المسيحية والإسلام. فالإسلام مثل للعرب الخروج من نفق مظلم، من الجهل إلى المعرفة، من التخلف إلى آفاق واسعة للتحضر والتطور ومن التبعية للقوى الكبرى، ليصبحوا هم بأنفسهم القوة الأعظم في العالم، ومن التجزئة إلى الوحدة وهو الشرط الأساسي والضروري لمواصلة بناء الحضارة العربية وتطور الفكر السياسي العربي بصفة خاصة.
وبالمقابل، فان المسيحية واجهت بناء فلسفياَ، فكرياَ وثقافياَ شامخاً في أوروبا. فالمنجزات كانت كبيرة حقاَ، تمثلت بأعمال الفلاسفة الإغريق والرومان على الأصعدة، السياسية والقانونية، ناهيك عن اتجاهات فلسفية عميقة. أما بصدد الدولة، فقد كان لتزاوج الفكر السياسي الإغريقي مع الفلسفة القانونية الرومانية ثماره ليس فقط على صعيد الفكر، بل على صعيد إقامة دول وإمبراطوريات عظمى، فقد كان هناك تجربة لإسكندر المقدوني التي امتدت من أوروبا حتى أواسط آسيا وشمال أفريقيا، وكذلك تجربة الإمبراطورية الرومانية. ومن البديهي أن فكرة الدولة كانت متطورة فيما لم تتقدم المسيحية بأي مشروع فلسفي أو فكري حول الدولة، أو حول قضايا سياسية وقانونية أخرى.
وليس هناك وضوح أكثر من إقرار الأستاذ الأمريكي، في مؤلفه (تطور الفكر السياسي) قوله: ” بالنسبة للأفكار السياسية، فأن أفكار أباء الكنيسة كانت أغلبها هي أفكار شيشرون وسنيكا. ولتحقيق هذه الدقة في التاريخ، فأنه لا يوجد سبب لاعتبار عصر المسيحية بداية لمرحلة جديدة في الفكر السياسي، والمسيحية ذاتها وإقرارها كدين رسمي للإمبراطورية كان نتيجة للتغير الاجتماعي الفكري، الذي تفاعل لمدة طويلة، والذي أثر بدرجة تقرب من التساوي في مفكرين لم يعتنقوا الدين الجديد “.(4)
ثم يقول الأستاذ سباين في مكان آخر من مؤلفه الهام: ” ويجدر بنا أن لا ننسى، أن هذه الإصلاحات في القانون الروماني لم تكن من نتاج المسيحية (النهوض بمستوى القانون العام إلى مستوى إنساني في احترام الفرد) بالرغم من أنها استكملت كيانها بعد العصر المسيحي، وليس هناك دلائل تبين وجود أثر للجماعات المسيحية من فقهاء التشريع في القرنين الثاني والثالث، ربما فيما بعد، في مراحل متأخرة حيث كان الهدف وضع قانون للكنيسة ورجالها وحماية مصالحها “.(5)
إذن فالمسيحية لم تضف شيئاَ جديداَ على الفكر والفلسفة في أوربا، لذلك نشأت مدارس تحاول أن تلائم بين الفلسفة التي كانت تمثل تياراَ قوياَ بتسيد ساحة الفكر والثقافة، مدارس مثل السكولاستية وغيرها، فيما كان الإسلام بالنسبة للبلاد العربية (موضع بحثنا)، فاتحة عهد للثقافة، وتطور الفكر السياسي بصفة خاصة.
قلنا أن المسيحية في باكر عهدها وجدت أمامها فلسفة إغريقية / رومانية ناضجة، ولم يكن بوسعها تجاهلها، بل هي أكثر نضجاَ بكثير من اللاهوت المسيحي الذي لم يكن ينطوي على اتجاهات فكرية وسياسية، لذلك فقد استوعبت الأفلاطونية في نظامها اللاهوتي على يد فلاسفة مثل: جيستان وتيوفيل ولوغستيان، ولكن سرعان ما نشب الصراع بين الفكر الفلسفي البحت والفكر الديني المدعم بالفلسفة المحورة (المعدلة)، وبدأت الكنيسة تتسلح بها، معدلة ومعدة لنقد ودحض اتجاهات الفلسفة المختلفة لاسيما تلك التي تقلل من أهمية الكنيسة واللاهوت. بيد إننا نجد أن هذا الصراع سيأخذ أشكالاَ هامة ومتطوراَ في المناخ الثقافي الإسلامي، وان الدين الإسلامي لم يظهر كاستمرار لفلسفة ما، فقد كان هناك انقطاعا طويلاً بسبب الهيمنة الأجنبية بين آخر كيان شرقي / عربي في المنطقة (سواء في اليمن ـ العراق ـ الشام ـ مصر) من تطور الفكر السياسي والفلسفي بصفة عامة، ثم كانت الصلات خفيفة أو نادرة بين الفلسفة العربية والهندية أو الإغريقية، بل أن الفكر الإسلامي جاء متناقضاَ بصورة تامة مع الفكر السائد في شبه الجزيرة العربية (نظم العبادة الوثنية المتعددة).
كان الفكر الإسلامي في موقفه من التاريخ وقضاياه المهمة استكمالياَ Melioriste أي أن العالم الراهن هو خير عالم مع إمكان صيرورته خيراَ مما هو بفضل ما يبذله الإنسان من جهود. (6)وهذا بحد ذاته هو موقف تقدمي (بالنسبة لما قبله)، لذلك جاء الفكر الإسلامي متناقضاَ مع الفكر الذي كان سائداَ في شبه الجزيرة العربية ( نظم العبادة الوثنية المتعددة) ومع معظم التقاليد الاجتماعية. فالإسلام ألغى معظمها، وأبقى على بعض التقاليد العربية. وكان ذلك مهماَ لأجل أن يدرك الفرد العربي خاصة والمسلم عامة، أن الدين يحترم كيانات المجتمعات ووجودها في احترام بعض التقاليد الاجتماعية. ولما كان لابد للمسلمين من فهم تعاليم دينهم الدينية والدنيوية والغوص في معانيه والعمل حسب قوانينه، فقد تكون فكر فقهي مستقل عن التأثيرات الفلسفية وغيرها، كما تكون فكر تاريخي عربي بحت لم يتأثر إلا قليلاَ بعوامل خارجية عن المناخ الثقافي العربي، وما لبث أن أتسع الفكر العربي ليأخذ في عصور ازدهاره (القرن الثامن الميلادي فصاعداَ)، أبعاداَ جديدة راقية في الفكر السياسي والاقتصادي.(7)
وإذا كان أول كتاب يضم بعض من مبادئ الفكر السياسي قد ظهر في أوروبا على يد جون سالسبري كان في عام 1159 م. وكان العرب المسلمون قد أنجزوا حتى ذلك الوقت المئات من الأعمال السياسية والاقتصادية، بعضها يمثل إنجازا كبيراَ في دنيا الفكر مثل: كتاب الخراج للقاضي أبو يوسف الذي ظهر في أواسط القرن الثامن الميلادي وكتب الماوردي، منها عمله الهام (الأحكام السلطانية)، القرن العاشر الميلادي، على أن الفكر الفكر السياسي الأوربي لم ينتج كتاباَ يستحق أن يعتبر سياسياً إلا على يد ميكافيلي في القرن السادس عشر وقوبل بالإدانة والمنع من قبل الكنيسة. ولم نجد مؤلفاَ يستحق الاهتمام فعلاَ، إلا مؤلف مونتسيكيو(روح القوانين 1734 )، ولم نشاهد بعده كتباَ سياسية مهمة، إلا في أواسط المرحلة الليبرالية، وحتى عصر التنوير، القرن الثامن عشر فما فوق، كتابات تفوق كتابات علماء السياسة العرب المسلمين التي كانت قد صدرت حتى ذلك الوقت، على أن هناك أعمالاَ رائعة حقاَ في الأدب والسياسة والتاريخ مثل: الخراج لأبي يوسف، الأحكام السلطانية للماوردي، المقدمة لأبن خلدون، أراء في المدينة الفاضلة للفارابي، سلوك المالك في تدبير الممالك لأبن أبي الربيع، السياسة الشرعية لأبن تيميه، بدائع السلك في طبائع الملك لأبن الأزرق، وغيرهم كثير.
ثم أن هناك ملاحظة أخرى تستحق التمعن فعلاَ: أن اليهودية قد حلت أولاَ في المشرق العربي، ولكن ألا يستحق التساؤل لماذا لم تتمكن أن تكون تياراَ نافذاَ، نعم كان هناك بعض التجمعات وأماكن العبادة قامت بأدوار ثقافية معينه، ولكن إشعاعها الفكري كان ضعيفاَ وظل محدوداَ في أضيق الدوائر، في كافة المجتمعات العربية، المتقدمة منها (الشام والعراق) أو المتخلفة منها (وسط شبه الجزيرة العربية) ولعل أبرز الأسباب في ذلك، أن اليهودية لجأت إلى تمزيق ولاءات الناس وإقامة كيانات وطقوس غريبة، وكان الأحبار يستعلون على بسطاء الناس ويمارسون التفوق عليهم، بفعل عقدة اضطهاد لم يتمكنوا التخلص منها حتى اليوم، كما أنهم تعاملوا في الوسط السياسي بانتهازية، وتعاونهم مع قوى أجنبية مثل: الفرس والأحباش في اليمن ودخلوا ميدان السياسة ليس كطرف وطني مدافعين عن المصالح الوطنية. وكان الرومان المسيحيون، ليظهرون الاحترام للمشاعر الدينية للمسيحيين العرب في العراق والشام ومصر، لذلك فقد قاتل مسيحيون عرب إلى جانب الجيوش العربية الإسلامية في كل مكان بشكل ظاهر وجماعي.
ولكن الدين والشريعة والعناوين المتفرعة عنها، لم تفقد أهميتها في الفكر السياسي العربي الإسلامي، بل مثلت المحور الذي دارت حوله الأفكار والاتجاهات اليسارية واليمينية على حد السواء، فكل الأطراف اعتمدت بسبب المرونة الفائقة في تأويل أهدافها، بناء على مفردات الشريعة، حتى تلك الحركات والانتفاضات التي كانت في جوهرها وأهدافها سياسية، إلا أنها ارتدت طابعاَ دينياَ بهذا القدر أو ذاك من التزمت أو المرونة من أجل كسب الجماهير وتعبئتها فحركات مثل الخوارج والمعتزلة وحتى المرجئة هي حركات يسارية، وانتفاضات وثورات مثل: الزنج والقرامطة، كانت اجتماعية الأهداف، إلا أنها اعتمدت تفاسير وتآويل من الشريعة وبسبب أن الدين كان يمثل قوة معنوية وسياسية هائلة يصعب تجاوزها، لا سيما عند السواد الأعظم، وقد أدى تفاعل هذه الأهداف بحيوية ونشاط إلى نضوج الفكر السياسي وكانت كل جهة تحاول أن تضعه في موقع يتلاءم مع الدين، أو أن لا يقف منه موقف العداء ولا نطلق على مثل هذه الاتجاهات سكولاستية، لأن السكولاستية كانت تحاول أن تلائم المسيحية مع الفلسفة الإغريقية / الرومانية، ليس مع أحداث العصر والتعامل مع أزماته.
أما في المسيحية، فقد كان الأمر يدور بطريقة متشابه ومختلفة، متشابهة بحكم أهمية الدين و الكنيسة في الحياة السياسية والاجتماعية، ومختلفة في التفاصيل والمفردات، فاللاهوت المسيحي ينص على أن الكنيسة تختص بالشؤون الدينية، والملوك والقياصرة بالشؤون الدنيوية، ولكن وضع الحدود بين السلطتين كان أمراَ عسيراَ حقا، والسلطة السياسية الحاكمة كانت تمثل الملك كسلطة دنيوية تمتلك قوة التنفيذ مدعومة بنظرية الحق الإلهي، والكنيسة كسلطة روحية تبارك وتمنح الشرعية، وأمراء الإقطاع والنبلاء بوصفهم سادة المجتمع والمهيمنين على الفعاليات الاقتصادية. وقد استمرت هذه المعادلة قائمة حتى عصر النهضة الذي كانت حركة الإصلاح الديني اللوثرية/الكالفينية من أبرز أسبابه وملامحهَ.
ولكن قبل ذلك لابد من أيضاَ من التشخيص بدقة، أن دور الكنيسة وهيمنتها الفكرية أولاَ، ومن ثم السياسية، كانت قد بدأت بالانحسار التدريجي منذ القرن الحادي عشر، بسبب نشاط الفلاسفة والمفكرين الأوربيين الذين كانت الأفلاطونية الأرسطوطاليسية ما تزال مؤثرة وقوية وقد ضاعف في تأثيرها، الأعمال الفلسفية العربية، لاسيما أعمال أبن رشد، الأمر الذي أضطر الكنيسة لمسايرة هذا الموقف المضطرب، بقيام رجال الدين من الاكليرس، بتطويع وتحوير الفلسفة الإغريقية /الرومانية/الرشدية العربية، بما لا يخرج عن اللاهوت. وأبرز من قام بهذه المهمة هو رجل الدين توما الاكويني122ـ1274، ولكن مهمة الاكوينيين الذين أطلق عليهم التيار السكولاستي Scholastism، (المدرسية) أخفقت أمام جسامة التطورات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية التي سادت القرن الخامس عشر والسادس عشر، حتى كانت الحركة اللوثرية تعبيراَ دقيقاَ عن رضوخ الكنيسة لمتطلبات العصر وقبل كل شيء، للتحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية، فقد كانت حركة الإصلاح الديني بمثابة إعلان لإطلاق التيار الديني الليبرالي التحرري.
والحركة الفكرية والفلسفية والفنية، بالإضافة إلى حركة الاكتشافات العلمية والجغرافية والاختراعات، أدت إلى تدوير حركة اجتماعية واسعة النطاق في المجتمع كما أدت إلى بلورة مواقف اجتماعية / طبقية جديدة، وبروز فعاليات اقتصادية / تجارية (مانفكتورات)، أدت بدورها إلى تراجع لدور الكنيسة في الحياة السياسية، ثم أعقبه مباشرة بروز دور البورجوازية التجارية / الصناعية، الأمر الذي قاد إلى تراجع دور الإقطاع، ليطرأ تحول مهم في الائتلاف القيادي ليصبح متمثلاَ بالملك والبورجوازية. وإذا كان قد بقي ثمة دور للكنيسة والقطاع، فليس أكثر من هامش بسيط، سوف يتلاشى ابتداء من عصر التنوير الذي كانت الثورة البورجوازية أبرز ظواهره بالإضافة إلى الثورة الصناعية.
وبالمقابل، فأن السلطات الدينية استمرت حليفاَ للسلطة الدنيوية، وبناء على ذلك، فأن الفكر السياسي كان لا يخرج عن إطار الدين وحتى العلماء المتنورين الذين كانوا يرفضون دور الكنيسة السياسي، كانوا لا يجهرون بالإلحاد أو أبعاد الكنيسة نهائياَ عن الحياة الاجتماعية، ولم يحدث ذلك إلا في المراحل أكثر نضجاَ وثورية من الثورة البورجوازية الفرنسية، أما تلك المحاولات التي ابتدأت في القرن الحادي عشر فصاعداَ، والتي أطلق عليها السكولاستية، فقد توارت نهائياَ، وبدا عسيراَ عليها الإجابة على تساؤلات القرن الثامن عشر، على ضوء الاختراعات والاكتشافات الجديدة.
وكان الفكر السياسي العربي الإسلامي قد خطا بدوره خطوات مهمة، باتجاه قبول تصاعد دور الدولة والمؤسسات التنفيذية والقضائية وتقليص هيمنة الخلافة، وقبول فكرة انفصال تام أو جزئي بين السلطتين الدينية والدنيوية، حدث ذلك عندما برزت قوى اجتماعية / إقطاعية وسياسية تمثل مراكز قوى تكونت في أرجاء الإمبراطورية العباسية، فنشأت مراكز خلافة في الأندلس وفي مصر الفاطمية، والإمام الزيدي في اليمن والإمام الخارجي في عمان والإمارة الحمدانية في الموصل وحلب، وعدد كبير من الكيانات هي في الواقع عبارة عن مركز نفوذ تمثل نفوذ قبيلة أو تحالف قبلي، كانت تدير نفسها بما يشبه الاستقلال، بالإضافة إلى الخليفة الشرعي في بغداد وقد أضحت مؤسسة الخلافة شكلية ليس إلا.
في مقر الخلافة، وعاصمتها بغداد، هيمنت قوى عسكرية / سياسية فظهر منصب أمير الأمراء أولاَ، ثم السلطان وكان يلي الخليفة في بروتوكول الدولة ويسبق منصب رئيس الوزراء وفي الواقع لم يعد للخليفة سوى الواجبات الدينية، فنرى أن المفكرين والفلاسفة العرب المسلمين تعاملوا مع هذه الظاهرة ووضعوا لها الإطارات القانونية. فقد كتب في هذه الموضوعات المهمة مفكرون مثل الماوردي وأبن تيميه، فتحدثوا عن وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، وعن منصب السلطان وأمير الأمراء، ولا يهمنا هنا كثيراً معرفة بأي وجه كان المفكرون مضطرون لقبول هذه الظاهرة أو تلك، بقدر اهتمامنا أن الفكر السياسي العربي / الإسلامي تعامل مع الواقع الموضوعي بمرونة وتطور بما يلائم حاجات السياسة واحتمالاتها، وإن لم يتوصل إلى إقرار لآليات انتقال السلطة، ولكن للآسف أصيب الفكر العربي الإسلامي بانتكاسة خطيرة إذ أطفأت تلك الشعلة الوهاجة بسقوط الدولة العباسية وعموم المشرق بيد قوى همجية في وقت كان الفكر والعلم يخطو خطواته الحاسمة المهمة، ولربما كان فيها المفكر العربي، مع تسارع تنامي أجنة الأنشطة البورجوازية في القرن الثالث عشر الميلادي. ولعل توقف حركة الفكر في ظل الاحتلال الأجنبي يشير بجلاء إلى حقيقة أخيرة تستحق أن نشير إليها، هي أن الفكر لا ينمو ولا يترعرع إلا في ظل الحرية، وليس الحرية الشخصية، بل حرية الأوطان.
4 ـ تطور فكرة الدولة : ـ
خضعت تطور فكرة الدولة في كلتا التجربتين، الشرقية / الإغريقية والإسلامية / المسيحية لعناصر متشابه إلى حد كبير والتفاوت حاصل في المفردات بحكم تفاوت الظروف الذاتية والموضوعية وظروف الزمان والمكان ولكن جوهر الأمر متشابه كما هو الحال في البواعث المتشابهة.
فكما أن تطور الإنسان حتمت عليه الاجتماع، فأن الاجتماع أفضى بدوره إلى مجموعة من النتائج منها، أول تقسيم للعمل، ثم ضرورة الحكومة والدولة التي تقود الفعاليات وتسيطر على الأنشطة الدائرة. فمجالس إدارة القبائل كانت الأنماط الأولى للإدارة حيث كان يشترط جملة من الصفات القيادية منها: سعة التجربة وعادات العمل والمهارة في الصيد والبسالة الحربية والحكمة، ولم تكن السلطة وراثية، كما لم يكن الزعيم يتميز بشيء عن سائر أفراد القبيلة أو التحالف القبلي.
ولكن مع ظهور الأديان 50- 40 ألف سنة قبل الميلاد، والتي عبرت عن ضرورتها للإنسان، تبرر عجزه عن فهم الظواهر والأسرار الطبيعية، بالإضافة إلى إيمان الإنسان بالسحر والخوارق، طرأ جديد على نمط تفكير الإنسان وسلوكه، وأصبح الدين الذي كان فد غدت له مؤسساته (معابد رئيسية وفرعيه ـ كهنة ـ حاشية ـ وخدم المعبد ـ أراضي وإقطاعات ـ وكلاء للكهنة بين الناس ـ تقاليد ـ طقوس ـ تقاليد..الخ)، وأصبح عنصراَ مهماَ في حياة الناس، وقد وجدت هذه الأهمية تجسيدها في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.
وفي مرحلة لاحقة للأديان، عندما توصلت البشرية إلى مرحلة علاقات الإنتاج العبودية وهي مرحلة أكثر تقدماَ من النظام المشاعي البدائي فقد أفضى نمو الإنتاج الزراعي واشتداد عملية تقسيم العمل في الزراعة إلى تفاقم الحاجة إلى العبيد، وبالتالي لم يكن بوسع مالكي العبيد، إخضاع العبيد والمشاعيين البسطاء إلا بوجود جهاز يمثل القوة وجهاز للعنف والقسر، وقد تكون هذا الجهاز تدريجياَ بشكل دولة وكان شن الحروب من أجل المزيد من العبيد والاستيلاء على الأراضي والثروات، بالإضافة إلى مهامها الداخلية من أبرز واجبات الدولة.(8)
وإذا كان الحاكم (الملك) قد مثل القائد للتحالف القبلي الأقوى فان المعبد والكهنة مثلوا القوة الروحية التي كانت السلطة بحاجة لها من أجل إسباغ شرعية السلطة وإجراءاتها، لذلك فأن المعبد كان يدير الفعاليات الحكومية. ولكن ما لبث أن أنفصل القصر عن المعبد كدلالة على اتساع عمل الدولة ومهامها. بيد أن التحالف أستمر وثيقاَ بين القصر والمعبد وليس نادراَ ما كان الملك بنفسه هو الكاهن الأعظم من أجل الحصول على مزيد من السلطة والشرعية معاّ لمنصبه. فالحاجة هي إذن متبادلة بين القصر الذي هو بحاجة إلى نظرية أخلاقية إضافة إلى القوة. والمعبد يكتسب نفوذ وقوة الدولة في إرهاب الرعية وفي ضمان الامتيازات الاقتصادية حيث امتازت المؤسسة الدينية بوصفها المالك الأعظم للأراضي أو أفضلها خصوبة وريعاَ (العوائد ).
أردنا بهذه المقدمة الوجيزة، استعراض التأثيرات والمنفعة المتبادلة بين الدولة والمعبد، ومن خلال هذا التحالف الوثيق، نشأت نظرية الحلول الإلهي، أي حلول جزء من الآلهة في الملك، ومن ثم تطورت بنتيجة وعي الناس إلى نظرية ما زالت قائمة حتى اليوم في بعض الدول، وهي نظرية الحق أو التفويض الإلهي، أي أن الحاكم مخول باسم الآلهة أو الله. وقد أطلق على الملوك أحياناَ: ظل الله في الأرض.
وبعد نهاية الدولة المستقلة في الشرق، نهاية الدولة البابلية الثانية والآشورية ( حوالي 500 ق.م )توقف تطور نظريات الدولة والحكم بسبب هيمنة الإرادة الأجنبية على البلاد العربية (المشرق العربي بصفة خاصة) وما شهدته المنطقة من أنظمة سياسية كانت عبارة عن دول صغيرة (نسبياَ) وفي معظم الأحوال، مثلت إرادة القوى tالعظمى في تلك الأزمنة (الفرس ـ دول الديادوشين Diadochen: بطليموس في مصر وسلوقس في المشرق. ـ الرومان ) فأقامت أنماطاَ من الأنظمة: دول تحت الحماية Protektora، أو دولاَ تابعة Vasall state، أو دولاَ حاجز (وساده) Buffer state، فيما بينها لتكون أدوات في سياستها ولبسط الهيمنة والنفوذ، في توظيف قوى محلية لخدمة مصالحها وسياستها. وفي هذا الإطار مثلت دول تدمر ـ البتراء ـ الحضر ـ دولة الغساسنة ـ دولة المناذرة، وغيرها من الإمارات الصغيرة وقد مثلت نقاط عزل أو توازن بين القوى العظمى التي كانت تقف بقوة ضد طموحات قادة هذه الدول في التحرر والتوحد وممارسة تطور الدولة والفكر، كنظرية وممارسة، كما حدث مع دولة تدمر وملكها أذينة وزوجته الملكة زنوبيا من بعده.
بيد أن الإسلام أتاح هذه الفرصة للتطور النظري والعملي. فإلى جانب كونه دعوة دينية، كانت تنطوي على معاني سياسية واجتماعية، تحرر اجتماعي من الداخل وتحرر من القوى الأجنبية من الخارج. أما على صعيد الدولة، فأن فاتحة عمل الدولة الإسلامية كان صياغة دستور، سمي بميثاق المدينة(الصحيفة)، وكان دستوراً وضعياَ ينص على حقوق وواجبات الدولة والتزاماتها وكذلك حقوق البشر كأفراد مجاميع (قبائل) أو كطوائف دينية، وقد ضمن حرية التفكير الاعتقاد والعمل. وكان ذلك فور تأسيس الدولة في الطائف (المدينة) وكان ذلك في: 20 أيلول 622 م .
ولكن تلك المرحلة انقضت بعد أحد عشر عاماَ بوفاة الرسول(ص) الذي كان فيها القائد الديني والدنيوي، وكان على الدولة والحركة الإسلامية أن تختار من يخلفه، فاختارت القيادات والزعامات الإسلامية نظام انتخاب خليفة تتم مبايعته، فالبيعة هي قانوناَ تكريس أو تأكيد اختيار أو ترشيح أو تزكية. ولكن هذا المبدأ لم يكن محدد بدقة بسبب خلو الشريعة من مبادئ انتقال السلطة، فقد أختار الخليفة الأول (أبو بكر الصديق) قبل وفاته من يحل في موقعه بعد وفلته، ولكن البيعة كانت ضرورية في كافة الأحوال، وأختار الخليفة الثاني أسلوباَ جديداَ إذ عهد إلى ستة رجال ينتخبون أحدهم في نظام يضمن سلامة انتقال السلطة بأقل قدر من أسباب الخلاف والشقاق، ولكن مع ضرورة البيعة، فالترشيح هو ترشيح الحركة الإسلامية، والبيعة هي قبول تزكية الترشيح من قبل ممثلي الشعب.
والدولة الراشدية التي استمرت ثلاثون عاماَ تقريباَ، انتهت باغتيال الخليفة الرابع عام 6 61 م وكانت الدولة الراشدية قد أدت مهمتها التاريخية، ولكن التطورات الاقتصادية / الاجتماعية بالدرجة الأولى فرضت من خلال تبلورات جديدة، على هذه الأصعدة، لم تكن موجودة من قبل في عاصمة الخلافة، وفي الأمصار، علاقات جديدة قادت إلى تناقضات وصراعات لم تستطع دولة الخلافة من حلها واستيعابها في نظام علاقات يضع آليات مبتكرة لحل الأزمات والتيارات السياسية التي نهضت في أواخر العهد الراشدي، كانت تشد صوب ثلاث اتجاهات:
الأول ـ اتجاه الدولة: ويمثله الخليفة الراشدي الرابع (علي بن أبي طالب)، وهو اتجاه لا يخرج عن إطار الدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية.
الثاني ـ المعارضة المكية: وهي معارضة تمثلت باثنين من أصل ثلاثة من جماعة
الشورى(بما في ذلك الخليفة نفسه)وهو اتجاه يهدف إلى أحياء التقاليد الأرستقراطية.
الثالث ـ المعارضة الشامية/ المصرية وقد تمثلت بحاكم الشام معاوية بن أبي سفيان وحاكم مصر عمرو بن العاص وهو اتجاه ديني/دنيوي يمثل التبلورات الاجتماعية/ الطبقية الجديدة المتمثلة ببروز الإقطاع.
وبعد صراعات وحروب وفتن ودسائس، تغلب اتجاه المعارضة الشامية، وهو توجه يهدف إلى إعطاء الدولة أبعاداً جديدة بناء على التطورات الاجتماعية والسياسية، وبنتيجتها تأسست الدولة الأموية والتي أحتفظ الحاكم فيها بلقب خليفة، إلا أن ذاك كان شكلياَ وكذلك كانت البيعة، وأصبح الحكم أقرب فيه للنظام الملكي منه إلى النظام الشوروي الراشدي الذي كان أقرب إلى النظام الجمهوري وفق المفاهيم المعاصرة)، والحكومة فيه مركزية، تدير الولايات إدارة مباشرة من العاصمة.
ويمكننا القول، أن ظروف تطور فكرة الدولة كانت مترافقة بمؤشرات ثلاثة: ـ
آ ـ التوسع في الأرض لاسيما في أواسط آسيا، بعد أن وجدت الدولة هناك مجتمعات ذات هياكل سياسية واجتماعية هشة شبه بدوية ضمن موزائيك من الأعراق والطوائف وبتفوق عربي إسلامي واندفاعا من تلك شعوب تلك المناطق لتقبل الدين الجديد على أمل أن يحررهم من قيود العلاقات شبه العبودية.
ب ـ كانت عمليات التبلور الاجتماعي الطبقي، تدور ببطيء نسبياَ بسبب أتساع مسلحة الدولة وتدخل عناصر عديدة إلى صورة الموقف، أبرزها موقف الموالي (وهم المسلمون غير العرب) وكان التطور الفكري/الثقافي، لاسيما على الصعيد الفكر السياسي وتطور الدولة يدور تحت شروط معقدة، فالدولة كانت تواجه مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية تستدعي أيحاد حلول لها، فمن جهة تمثلت التحديات الخارجية بأعداء الدولة التقليديين، الإمبراطورية البيزنطية، وكان لابد من فعل الكثير لكي تكتسب الدولة ومؤسساتها صفة الاستقرار. وقد جرى تثبيت الدواوين (الوزارات) وكذلك إصدار عملة عربية وتعريب العمل في الدواوين، وسن قوانين وأنظمة لا سيما على صعيد الضرائب وغيرها.
وبهذا المعنى، فالتجربة العربية الإسلامية كانت تخوض على صعيد الدولة فكراَ ومؤسسات معركتها معتمدة على تجربتها الذاتية، وكان عليها أن تقدم الحلول الناجعة لمشكلات لا قبل لها بها، ولا بد أن تكون هذه الحلول غير بعيدة عن الشريعة وأحكامها، وهكذا نشأت الحاجة إلى تطور فكر الشريعة.
كانت التجارب والفكر الروماني والبيزنطي والفارسي، تمثل المصادر الرئيسية المتاحة بالإضافة إلى ما هو متراكم في الفكر والتراث العربي والتجارب الذاتية، وهي أيضاَ مصادر ثرية. ولكن لم يكن بوسع الدولة العربية الاقتباس عشوائياَ، فتلك التجارب لم تكن ناجحة في مطلق الأحوال، بدليل أنها أخفقت في إدارة الأمصار العربية، وعملية الاختيار والاقتباس من تلك التجارب لم تكن أمراَ بسيطاَ، ولكن الأساس الجوهري كان: أن الدولة كانت تختط أسلوب وفكر دولة يتلاءم مع الشريعة أولاَ، ثم مع ذهنيتهم ومزاجهم وتقاليدهم.
فيما كانت مهمة اللاهوت المسيحي أسهل بكثير، حيث لم يكن ينطوي على أفكار سياسية ولا مبادئ حكم، وكانت قضية الدولة متطورة فكراَ وممارسة، وكانت فكرة الدولة قد جرت مناقشتها بتردد لدى أفلاطون ولكن بعمق أكبر عند أرسطو، وقد انحاز لفكرة الدولة الدستورية وتلك خطوة متقدمة، والدولة عند أرسطو قانونية دستورية والحاكم مقيد بالقانون وإن كان حكيماَ فيلسوفاَ.
ولكن الأنظمة الأوربية، حتى ما بعد اتخاذها المسيحية ديانة رسمية، لم تكن لتعتمد دوماً على أفكار الفلاسفة. فالكثير منها ظلت أفكار مثالية، ولكن المدارس الفلسفية الأخرى كالرواقية مثلاَ، لعبت دوراَ مهماَ وكذلك رجال سياسة وقانون، أدواراَ مهمة في تطوير فكرة الدولة. وعندما حلت المسيحية في أوربا منذ القرن الرابع انتشرت وأصبح للكنيسة كيان مستقل عام 756 م (الفاتيكان) ابتدأت تمارس نفوذاَ في الحكم، إذ كانت المسيحية قد أحرزت مكانة شعبية، وسلطة الدولة كانت بحاجة لها. وإن فكرة الحق والتفويض الإلهي هي قديمة منذ العصور الوثنية، فالسلطة دوماَ بحاجة إلى قوة روحية، والسيطرة على الجماهير تستدعي قوة، عدا حراب السلطة.
ويقول أيتان دي لابواسي في القرن السادس عشر ” كيف يمكن لهذا الجمع من الناس والمدن والأوطان أن تتحمل كل شيء من طاغية لا حول له إلا ما يقدمه الناس إليه، فليس له أي سلطة حتى يلحق الضرر بهم، إلا إذا أراد الناس لأن يتحملوا ذلك منه، أو أن يسيئ إليهم إلا إذا حبذوا ذلك منه ولم يعارضوه. أنه فعلاَ لشيء مدهش أن نرى ملايين من الناس مكبلين خاضعين مطأطئين الرأس لعبودية محزنة، لا لأنهم قد أجبروا على ذلك، بل لأنهم كانوا مفتونين بأسم واحد أحد ” .(9)
ومنذ القرن الحادي عشر ابتدأت مكانة الكنيسة بالانحسار، أولاَ بسبب فشل وعقم محاولاتها بالتلاؤم مع الفلسفة، وبالذات في القرن الحادي عشر ابتدأت الأفكار السولاستية في البروز، وهي محاول تجميل فلسفية للاهوت المسيحي. ورغم أن هذه المحاولات لاقت في البدء بعض التقدم على يد مؤسسيها الأوائل ثم أكثر من ذلك في عهد رجل الدين /الفيلسوف توما الأكويني،إلا أنها لم تصادف النجاح التام بسبب التطور السريع للأفكار الفلسفية، ولم يكن بوسع اللاهوت اللحاق بها. ومن جهة أخرى، كان التقدم على جبهة العلوم والثقافة والفنون عاملاَ حاسماَ آخر ساهم في إفلاس السكولاستية نهائياَ على أعتاب القرن الخامس عشر، فيما أوغلت الكنيسة الكاثوليكية في رجعيتها الدينية (قضية صكوك الغفران ـ عصمة البابا) واجتماعيا وسياسياَ بتحالفها الوثيق مع الرجعية الإقطاعية والقياصرة والطغاة. تلك كانت تناقضات لم تعد سكولاستية جديدة قادرة على حل إشكالياتها، فجاءت حركة الإصلاح الديني اللوثرية بأفكارها المثيرة، تلبية لضرورات اجتماعية / اقتصادية بالدرجة الأولى. فقد انطوت أفكار لوثر على ليبرالية واضحة، وجدت فيها البورجوازية ضالتها.
ثم أن التبلورات الجديدة قادت إلى موقف تحالف قيادي جديد في الدولة والمجتمع، فالمشروع البورجوازي للدولة وتصورها كان يتسم، بل يعتمد على الاستقرار ومتانة الموقف الداخلي لذلك كان الاعتماد على أجهزة الجيش والشرطة والقضاء كبيراَ لتحقيق ذلك الاستقرار. والتحالف الاجتماعي الجديد ضعف فيه نفوذ الإقطاع إلى أقصى حد، فيما تقدمت البورجوازية التي كان نفوذها قد بدأ يتسلل إلى كافة مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية و الفنية وكان لابد من تجسيد هذا النفوذ عبر وجود قوى في الدولة، بل أن وجود الدولة وفق المشروع البورجوازي ستصبح تدريجياَ أداة بيد البورجوازية ليس إلا. وبهذا سوف يتحقق القانون: أن الدولة هي عبارة عن أداة الطبقة المسيطرة وأنها تستخدم قدرات الدولة لتحقيق هيمنتها، وقد كان الأمر كذلك يوم كانت الأرستقراطية القبلية بالتحالف مع المعبد (الكنيسة) ومع الملوك، يمثلون قمة الهرم القيادي، وفيما بعد أزاح الإقطاع الأرستقراطية القبلية، وأخذ النبلاء وأمراء الإقطاع مكانهم، وها هي البورجوازية قد حلت كقوة اقتصادية واجتماعية كبرى في المجتمع، فلا بد أن تأخذ موقعها، وقد ساعد على تحقيق هذا الهدف، أن البورجوازية (بسبب كونها أكثر رقيا وتحضراَ) وخلافاَ للأرستقراطية والإقطاع، كان لها مفكريها وفنانيها، شعراء وأدباء، نحاتين ورسامين وفلاسفة وموسيقيين، أبدعوا وتمكنوا من المساهمة في إتمام سيطرتهم وهيمنتهم.
أذن كانت فكرة الدولة عبر مراحل التاريخ تتطور أساساَ بناء على أمر جوهري وهو: التحولات والتطورات في الموقف الاقتصادي /الاجتماعي بالإضافة إلى عوامل أخرى هي في الحقيقة ناتج جانبي لهذه العملية، التي على هدى تسارعها وشدة وضوح التبلور الطبقي، كان الموقف السياسي على تلك الدرجة من الوضوح، فانتقلت فكرة الدولة من دولة المعبد إلى الملكية المطلقة، الملكية المتحالفة مع المعبد والأرستقراطية، إلى تحالف الدولة مع المعبد والإقطاع. وها هو الموقف التحالفي الجديد: الدولة (الملك) متحالفاَ مع البورجوازية.
أما في العالم العربي فقد توقفت هذه العملية التاريخية ذات المحتوى السياسي /الاقتصادي / الاجتماعي / الفلسفي، بسبب وقوع الأقطار العربية تحت الهيمنة الأجنبية، وتحالف الإقطاع وفئات طفيلية مع السلطات الأجنبي المحتلة. ولم تصدر أي محاولات فكرية، فلسفية جديدة إلا مع بدايات عصر النهضة العربية، وفجر استقلال البلاد العربية فبرزت أفكار جديدة تبحث في العلاقة بين الدولة والدين وتطور فكرة الدولة. ومن أبرز علماء تلك المرحلة: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، علي عبد الرازق، وآخرون.
استمرت البورجوازية في أوروبا تحقق المزيد من المكاسب وتحقيق طفرة مهمة بتلاحم البورجوازية التجارية مع البورجوازية الصناعية الوليدة التي تمكنت من تطوير(المانفكتورات) الورش اليدوية إلى صناعات يدوية، وبذلك خطت الدولة إلى فكرة الدولة الدستورية الملكية، و الأنظمة الجمهورية.
5ـ المؤثرات الثقافية : ـ
ساهمت المؤثرات الثقافية بكل فروعها الفلسفية ـ العلمية ـ الآداب ـ الفنون، على مسيرة تطور الفكر السياسي في كلتا التجربتين. ولكن بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. فالثقافة عامل مهم في رفع مستوى الوعي الإنساني، ولتفهم الظروف المحيطة به ولطبيعة الأنظمة والعلاقات.
ويهتم البحث بالإجابة على التساؤل التالي:- هل تأثرت التجربتان بمؤثرات ثقافية على تطور الفكر السياسي ؟ وبأي مقدار ؟ وهل هناك اختلاف بين التجربتين ؟ .
ولابد لنا بادئ ذي بدئ أن نقول، أن الفلسفة في كلتا التجربتين تختلفان وتتناقضان مع الدين في مسألتين هامتين: ـ
الأولى: أن الفلسفة تدعي أن لا شيء خلق من لا شيء. والدين يؤكد (الإسلام والمسيحية) أن الله خلق الكون من لا شيء.
الثانية: أن الفلسفة تقول أن ليس هناك شيء مطلق خارج المناقشة والبحث، والدين يؤكد أن الخالق هو خارج المناقشة.
ولكن هذه الملاحظات عوملت بمرونة وبشدة في أحيان أخرى.
والفرق يكمن في: أن اللاهوت المسيحي وجد بناءَ فلسفياَ سامقاَ لا يمكن تجاهله، فقررت المؤسسة المسيحية التعامل معه. وأنظم الفلاسفة الأوربيون، ومنهم وثنيون، إلى الديانة الجديدة وهكذا أصبح للكنيسة فلاسفتها الذين حاولوا تضيق الفجوة بين الفلسفة الأفلاطونية الأرسطوطاليسية، وسائر المنجزات الفكرية والفلسفية الإغريقية والرومانية، فنجحوا في ذلك حيناَ، وفشلوا حيناَ، وليس نادراَ ما أتهم فلاسفة أوربيون بالهرطقة والإلحاد أو نشر أفكار وثنية وكان التصدي لهم يجري بأعنف الأساليب، ولكن بصفة عامة لم يعلن اللاهوت أو الكنيسة موقفاَ معادياَ رسمياَ من الفلسفة، بل أبدى، وإن ظاهرياَ، التقبل له والتعامل معه ولكن بحذر شديد.
في الإسلام، كان الأمر مختلفاَ بعض الشيء. فالشريعة الإسلامية لم تجد أمامها فلسفة عربية أو حتى فارسية أو هندية، ومنجزات الفلسفة الإغريقية لم تترجم إلى العربية وتطرح بين أيدي المفكرين والفلاسفة العرب إلا بعد مرور ما لا يقل عن 200-150 من الهجرة أي من العصر العباسي الوسيط فصاعداَ، ولكن قبل ذلك، ولا بد من تأكيد ذلك، واجه المفكرون العرب المسلمون، أنشطة وفعاليات ثقافية كانت تقوم بها الكنائس والأديرة المنتشرة بحدود معينة في العراق وسورية ومصر. وكان بعض الرهبان ورجال الدين المسيحيين يخوضون المناقشات مع المسلمين للدفاع عن معتقداتهم، وأن أصول علم الفقه الذي نما ونشط بعد الإسلام، وبعد انتشاره في الأمصار العربية وغير العربية. ويقول الأستاذ مصطفى عبد الرازق: ” أن أصول الفقه موضوع حقيقي للفلسفة، وأن العرب كغيرهم كونوا مناهجهم وآرائهم الفلسفية قبل اتصالهم بالفلسفة اليونانية. فالإسلام عندما توسع في البلدان المجاورة، وجد كنيسة منظمة تدافع عن المسيحية بمناهج منطقية مدروسة ومحللة بواسطة الديالكتيك اليوناني، وكذلك أديان وثقافات. فكان على رجال الإسلام في معاركهم الأيديولوجية أن يدحضوا الخطاب بالخطاب، وأن يستعملوا الديالكتيك والحوار وأن يدافعوا عن العقيدة الإسلامية وأن يبحثوا في مشاكل فلسفية كالعدل والحرية والكون وقد تجلى ذلك في فكر المعتزلة.(10) ولكن ذلك لم يحدث كما قلنا قبل عام 800-750 م فما فوق.
وفي الواقع، أن الفلاسفة العرب المسلمين تعاملوا مع الفلسفة بمواقف متفاوتة. فمثلاَ أن الفارابي لم يكن يخفي إعجابه بالفلسفة الإغريقية، ولكن دون أن يخرجه هذا عن إطار الشريعة، ولكن الغزالي تعامل مع الفلسفة بتحفظ ولم ينكر أهميتها ودراستها والتعامل معها بقوله: “أعلم أن العقل (الفلسفة) لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء ولن يثبت بناء ما لم يكن له أساس. والعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من الخارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. قال الله تعالى: ” قد جاءكم من الله نور وكتاب بين يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ” 16-15 /المائدة فالشرع عقل من الخارج والعقل شرع من الداخل وهما متعاضدان بل متحدان “” (11).
ويضيف الغزالي بقوله: “فالشرع هو نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة الدالة على مصالح الدنيا والآخرة ومن عدل عنه فقد ظل سواء السبيل و إلى العقل والشرع قال الله تعالى ” ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاَ ” 85-84 /المائدة.(12)
فالفلاسفة المسلمون لا يعلنون موقفاَ معادياَ من الفلسفة، حتى أن فيلسوفا مثل الغزالي الذي له ردود قاسية على الفارابي وأبن رشد ويتهمهم بالدهرية، والدهرية موقف يشابه موقف السكولاستية، أي محاولة أيجاد سبل ملائمة الفلسفة والدين.
ومن المفارقات الغريبة، أن نجد نصاَ من النصوص المسيحية في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، إذ يحاول القديس توماس بكلمات متشابهة إلى حد مدهش ما ذهب إليه الغزالي إذ يحاول أن يثبت صحة اعتقاد العقل و الإيمان (الدين والفلسفة) يقوله: ” أن اللاهوت مكمل للنظام الذي يكون العلم والعقل بدائه، ولا يقضي على اتصاله مطلقاَ، والإيمان متمم للعقل وهما معاَ مصدرا العلم و المعرفة، ولا يمكن أن يصطدما أو يعملا باتجاهين متضادين “”.(13)
اللاهوت المسيحي وجد صعوبة في التنصل من منجزات الإغريق والرومان قبل حلول المسيحية ففي التعرض الصريح لها إلغاء لتراث مهم من حضارة الشعوب الأوربي، على عكس الشريعة الإسلامية التي كانت تتحرك بحرية نسبية، فالحركات والأحزاب السياسية العربية الإسلامية، كانت في تكونها ومواقفها من الدولة الأموية ثم العباسية، تشهد حركة فكرية نشيطة، وكانت هناك مواجهات أيديولوجية عنيفة، تستخدم الفلسفة لتبحث في أصول السلطة السياسية وقوامها الدين وفهم الدين بما لا يتعارض مع المآرب السياسية. فقد أكدنا مراراَ أن الشريعة والشعارات الدينية كانت البوابة التي عبرت من خلالها الشعارات السياسية، واستخدمتها الأطراف كافة، اليسار واليمين على حد السواء.
فالمسلمون تعاملوا مع الفلسفة ولكن بحذر، حذر الوقوع في شرك الأسئلة. فالفلسفة جذابة في قوة منطقها، والثقة التي تطرح نفسها فيه، والفارابي (950-870)، على سبيل المثال الذي لقب ( المعلم الثاني وكان أرسطو قد لقب بالمعلم الأول )، أخذ من غيره ولكنه وضع فلسفة في الإطار الذي يتلاءم وظروف البيئة التي عاش فيها. فقد أخذ عن أرسطو وأفلاطون، ولكنه فعل ذلك بصيغة إسلامية واضحة، وكان الفارابي يهدف إلى التأكيد، أن المعتقدات الإسلامية لا تتناقض مع الفلسفة والفلسفة الإسلامية خاصة.
ويلاحظ هنا كم تتشابه هذه المساعي مع السكولاستيين، ولكن مع فارق مهم، أن السكولاستية تيار قام بمباركة الكنيسة أنها أدركت أنها عاجزة عن مواجهة الفلسفة، لأنها لا تمتلك شيئاَ تواجهه به. والسكولاستيون كانوا في الغالب رجال دين، فيما وصفت مثل هذه التيارات عند المسلمين بالدهرية وهي صفة سلبية عند المسلمين، وكان من يتهم بالدهرية يسعى جاهداَ نفي هذه الصفة عن نفسه وفكره. وفلاسفة مسلمون مثل الغزالي لا يهاجمون الفلسفة علناَ..! ، وقد نفى الدهرية عن نفسه فلاسفة كالفارابي أو محدثون مثل الأفغاني ( 1897-1839 )، الذي كان ينفي الدهرية عن نفسه، فيما كان يسعى إلى ترويج أفكار تحاول أن توفق بين الدين وعقلنه الحياة ولكن بحذر وتردد.(14)
ونزعة التوفيق وهي نزعة عرف عنها ليس الفارابي فقط، بل وعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين العرب، فقد بدا من العسير حقاَ تجاوز أو تجاهل ما جاء به الإسلام من نهضة علمية وفكرية، فالإسلام لم يكن قط معادياَ للعلم والتقدم، ولكنه حذر من الدخول في ممرات ودروب تفضي إلى السؤال الأكبر: ماذا بعد الموت..؟ من خلق الكون ؟ ومحاولة فلاسفة عرب ومسلمون التعامل مع معطيات الحضارة الغربية كانت فاشلة لأنها و كما يقول الأستاذ التريكي (الفلسفة الشريدة)، وبها يصف تجربة الأفغاني ومحمد عبده بالذات ” توفيقية وتلفيقية، لأنها لم تستطع أن تتفاعل تفاعلا مجدياَ مع الحضارة الغربية لإنتاج البديل الثقافي الخلاق ” ويرى الأستاذ التريكي أن الابتكار الفلسفي في الإسلام يكمن في علم الكلام الذي أنتج مذاهب كبرى في تفسير الكون واكتشاف القوانين الوجودية وتوصلهم إلى فهم الوجود للحركة والعلة، ولا بد أن نشير إلى الإبداع في الفلسفة العربية ليظهر بكل جلاء في الخطاب الخارجي للفلسفة، ذلك الخطاب الذي أرتبط بميادين أخرى، لهذا نراه في الفقه والكلام وفي الرياضيات وفي العلوم الأخرى، وفي الجماليات وفي الفلسفة الاجتماعية السياسية وما جاء به الطبري والبيروني وأبو حيان التوحيدي وأبن مسكويه وابن خلدون وغيرهم.(15)
وبالمقابل، فقد أحدثت الفلسفة تيارات، وربما أعاصير في المسيحية وإن اختلفت شكلها ومضمونها عن تلك التي حدثت في الإسلام، ولكن بجوهر واحد. قلنا أن اللاهوت المسيحي منذ البداية قبل بالفلسفة لعجزه عن مقاومتها، وقام بمجهودات رسمية على يد قساوسة لتجسير الهوة بين الفلسفة الغريقة / الرومانية وبين اللاهوت. ولكن ذلك لم يكن يعني نهاية الصراع . نعم، كان ينظر إلى الفلسفة باحترام، ولكن بعضهم نظر إليه بوصفه من أتباع الشيطان. وجوهر الصراع والخلاف هو واحد في التجربتين، فعدا البحث في الإلهيات والذات الإلهية، كان الصراع في أوروبا المسيحية يتمحور حول مسألة السلطة وحدود السلطتين الزمنية (الدولة) والروحية (الكنيسة).
حقاَ كانت هناك هوة، والهوة كانت هاوية عميقة، أوضحه البابا انوسنت الرابع Annozenz المتوفى1276 )، إذ قرر أن من حق البابا التدخل في السلطة وحتى خلع الملك المستهتر، وأن البابا هو خليفة المسيح بقوله ” أن السيد المسيح نفسه جعل بطرس وخلفاء بطرس خلفاء له حينما أعطاهم مفاتيح ملكوت السماوات وقال لهم ” أطعموا أغنامي “(16). وهكذا فأن البابا منح نفسه سلطة تسبغ عليه مركزاَ قيادياَ وتعطيه سلطة مراقبة ومراجعة فعاليات الدول والحكومات المسيحية والإشراف عليها. ثم جاءت نظرية سانت أوغستين لتدعم هذه النظرية التي أصرت على التمسك بأن النظام المسيحي يحتم أن تكون الدولة مسيحية. ويقول أيجيديوس كولونا ” أن السلطة الروحية التي يتولاها البابا هي سلطة فريدة تعلو على ما عداها وللسلطة الروحية الحق في أن تقيم السلطة الزمنية وتشرف عليها “.(17)
والصراع بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية أسفر عن نشوء نظرية السيفان، جلاسنوس Gelasian، كما أن الصراعات داخل الكنيسة المسيحية أنتجت تيارات ومذاهب لم تتمثل بالانشقاق الرئيسي بين الكنيسة الشرقية والغربية، أو الكاثوليك والأرثودوكس فحسب، بل وأنتج حركات الإصلاح الديني، أشتهر منها اللوثرية ـ كالفن، وكوسوي، وتلاشت حركات أخرى في مهدها بفضل القمع البابوي وبمساندة السلطات، وتحولت أخرى إلى مذاهب دينية /سياسية /فلسفية لاهوتية، مثل اليعاقبة والجزوبت والدومنيكان والفرنسيسكان وغيرهم. كانت انعكاساَ للقضايا التي أثارتها الفلسفة بين القرن الحادي عشر والقرن الثامن عشر، حيث هبت الثورة البورجوازية الفرنسية التي أعلنت رسمياَ تصفية أملاك الكنيسة الدنيوية وحسمت المعركة لصالح الفلسفة بصورة تامة أو شبه تامة، فيما بقيت هذه المسألة في البلاد العربية والإسلامية (الفكر السياسي والدولة) مسألة مثيرة للنقاش والجدال بهذه الدرجة أو تلك من السخونة.
وإذا كنا قد ركزنا على الفلسفة بهذا القدر من الأهمية، فذلك أن دورها كان كبيراَ حقا في تطور الصياغات الثقافية، وأثرت ليس على تطور الفكر السياسي فحسب، بل وحتى على نشوء مدارس ومذاهب داخل الأديان نفسها، كما أنها أثرت بصورة مباشرة على نضج ووعي الناس والاتجاهات الاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية.
وعندما نقرر أن الإسلام مثل ثورة على كافة الأصعدة، فنحن لا نمنحه قيمة اعتباطية. فالحياة الثقافية العربية شهدت قفزة كبيرة إلى الأمام، وابتداء ذلك باللغة نفسها التي هي عماد الثقافة على اختلاف فروعها. فمن الثابت أن اللغة العربية كانت على لهجات متقاربة ومتباعدة عن بعضها ألفاظا وكتابة. ونزول القرآن في نهاية القرن السابع الميلادي، حيث لم تكن اللغات الأوربية قد تبلورت بعد، بل وستمضي قرون كثيرة، حتى تتبلور اللغات الأوربية بشكلها الحالي الذي نعرفه اليوم، فيما مثل نزول القرآن بلغته الحالية (لهجة قريش) جعلها اللهجة السائدة وإلى اللغة العربية الرسمية، لغة سياسة وإدارة وأدب، بالطبع مع اعتبار أن لهجة قريش لم تكن بعيدة عن اللهجات العربية، بل لأنها كانت أساساَ وسطاَ بين تلك اللهجات.(18)
وإذا كان الحياة الجديدة نهضة اجتماعية / اقتصادية في مختلف الأمصار العربية، نهضة نوهنا عنها قي مباحث الكتاب، كان من شأنها الارتقاء بمستوى الحياة مما يؤدي تلقائياَ إلى خلق موضوعات ثقافية جديدة أنطلق صوبها الأدب والثقافة العربية. وإذا كان الشعر هو الميدان الرئيسي في الأدب العربي، وكذلك أدب الحكايات والأساطير وسير الأبطال والحروب، إلا أن الثقافة العربية شهدت بصفة خاصة تطوراَ مهماَ في ميادين جديدة مثل أصناف الملابس والأطعمة وعمارة الأبنية، حيث اختلطت الأذواق والأمزجة العربية والشرقية والإسلامية، بأنماط رومانية وفارسية وهندية، وإن لم تكن هذه جديدة تماماَ فقد كان العرب قد تعرفوا عليها في مراكزهم المتقدمة، العراق والشام ومصر إلا أن التجربة الجديدة كان لها مداها الواسع ونتاجها الثري، فقد تعامل الفكر العربي والثقافة العربية من موقع القوة وبفعل الاتصال الوثيق والمصالح اليومية على كافة الأصعدة.
فقد كان على سبيل المثال، التوجه لبناء المساجد وبروز أنماط جديدة من العمارة العربية، وإذا كان الإسلام قد تعامل مع الرسم بحساسية، إلا أن ذلك أستعيض عنه بفن الزخرفة والموزائيك والفسيفساء، وتجلى خاصة في فن الخط العربي وأنواعه، وقد جاء ذلك واضحاَ بصفة خاصة في المسجد الأموي في دمشق وجامع قبة الصخرة في القدس والجامعة المستنصرية ببغداد وقصور الأندلس وجوامع القاهرة والقيروان.
والقرآن بحد ذاته، قاد بحك لغته العالية أولاَ، والموضوعات التي تناولها: المعاملات مثلاَ، إلى ازدهار الفقه القانوني وتقدم علوم النحو والصرف وقصص الأنبياء الواردة فيه، إلى بروز نمط جديد في كتابة التاريخ. فظهرت أعمال ذات مستوى راق، مثل كتاب الطبري والمسعودى وأبن كثير في التاريخ، ثم موسوعات في اللغة مثل أعمال: أبن منظور والفراهيدي وغيرها، وهي أعمال لم ينجز لها نظير في أوروبا إلا بعد ستة قرون تقريباَ. وكل ذلك يشير في النهاية إلى رقي في الحياة السياسية والاجتماعية، ولولا ذلك الرقي لما استطاع الإنسان أن يقدم هذه المنجزات، وهي بديهية فالمكبل لا يستطيع العمل والإنتاج ولا يزدهر فكره. ويقول د. طه حسين ” الأدب فن راق، إذا ارتقت السياسة أزدهر، وهو منحط جدب إذا انحطت الحياة السياسية وعقمت “.(19)
وفي أوروبا كان الأمر يدور على نحو آخر، فالمسيحية عندما حلت في أوروبا، وجدت ليس ذلك البناْء الفلسفي الشامخ، بل وفنوناَ مزدهرة كالمسح والعمارة بحكم توفر الرخام ذو الألوان الرائعة في اليونان وإيطاليا توفر التراب، وبواسطة الرخام أنجز بناء معابد وأبنية رائعة، وكان الإغريق قد تلقوا أثناء امتزاج الحضارتين الهيلينية والشرقية بفرعيها، الرافديني والمصري فقرات عديدة منها على سبيل المثال: الأعمدة والتيجان التي تعلوها، فهي موجودة في الشرق قبل بناء المعابد اليونانية. والموسيقى والرياضة.
ولكن أوروبا كانت على الرغم من ذلك تفتقر إلى مسألة رئيسية بتقديرنا، وهو الشعور بالانتماء إلى أمه، ولم تكن هناك حدود في أوربا التي كانت عبارة عن قبائل البعض منها تحوم ظلال من الشك حول جذورها. كما كانت أوربا تفتقر إلى اللغة القومية. وبإقرار أوثق المصادر الأوربية، فأن أهم أفضال حركة الإصلاح الديني اللوثرية، هي عندما أقدم مارتن لوثر ( وربما كان ذلك كان عملاَ جريئاَ ) على ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية، وأصبح مرجعاَ مهماَ وبلغة ألمانية موحدة ذات نظام وقواعد واحدة، ولكن ذلك لم يتم قبل القرن السادس عشر، ولعل في ذلك السبب في أن فكرة القومية تأخرت في أوروبا حتى ذلك الوقت. فألمانيا وفرنسا كانتا موحدتين حتى عام 1100 م. وكذلك إيطاليا مع ألمانيا. وكان ذلك مترافقاَ مع عناصر وعوامل أخرى مهمة، على رأسها التبلور الاجتماعي / الطبقي الذي أبرز البورجوازية الصناعية. وهذه جميعها من آثار ونتائج ثلاث تيارات رئيسية في أوروبا:
أولاَ ـ حركة الإصلاح الديني الذي أبعد نفوذ الكنيسة وحرر العقل.
ثانياَ ـ حركة النهضة التي أطلقت إبداع الإنسان الفكري والعلمي والفني.
ثالثاَ ـ الثورة البورجوازية الفرنسية التي حررت يد الإنسان وأطلقت قواه للعمل بلا حدود.
وعلى درجة تطور هذه القوى الفكرية والثقافية، وتنامي المسألة القومية، كان مؤشر الازدهار السياسي والاقتصادي يتصاعد، فقد كانت بريطانيا أولاَ (في القرن السابع عشر ) ثم فرنسا (في القرن الثامن عشر، سباقتان إلى الثورة القومية، لذلك كانت درجة تقدم بريطانيا، والفكر الاقتصادي بدرجة خاصة والفلسفة عامة، هو ما أهلها لافتتاح عصر النهضة الصناعية أولاَ، وبعدها فرنسا، وكان لتأخر هذه الثورة القومية في ألمانيا وإيطاليا (تأخرت وحدتهما القومية) السبب في تأخرهما دخول حلبة الدول الصناعية، المتطورة في بنائها السياسي والدستوري.(20)
وعلى صعيد الفلسفة التي كان لها دورها الأساس في إنهاء احتكار الكنيسة وفي تصديها للمحاولات العبثية لتجميل اللاهوت التي كانت تهدف إلى تبرير وجود وهيمنة الأنظمة الإقطاعية المطلقة والمفاهيم الإقطاعية والدينية، وتلك كانت مهمة مفكري عصر التنوير، وإبراز لأهمية فكرة الوحدة والدولة القومية.
وفي الفكر العربي الإسلامي، كان مفهوم الأمة من المفاهيم التي طرحها الإسلام في القرآن والحديث، وهنا في هذا النص ” وجعلناكم شعوباَ وقبائل لتعارفوا ” 48 – هود ) فهذا القرار للاختلاف بين مجتمع وآخر على مستوى التكوين الديني والاجتماعي والذهني والمزاجي ومكونات اللغة والثقافة، وفي أكثر من آية يشير القرآن إلى إمكانية تعايش المسلمين مع غيرهم من الديانات الأخرى وقد مارسوا ذلك فعلياَ. وكذلك ذهب مفكروا الإسلام مثل: الجاحظ الذي يرى في رؤية مبكرة أن، الثقافة واللغة والأخلاق المشتركة والبيئة الجغرافية هي التي تعطي الأمة صفة الوجود. وكذلك ذهب المؤرخ المسعودي الذي يشير إلى الموقف الحضاري المشترك، ووحدة الثقافة واللغة والقيم المشتركة.(21)
وكان المفكر والفيلسوف أبن خلدون قد تحدث عن العصبية بتفصيل وإسهاب كافيين، على أنها الفكرة الجامعة لشعب أو أمة، وأن السلطة السياسية تشتد وتقوى عندما يجمع شعبها رباط وعصبة قوية. ورغم لأنه لا يذهب إلى درجة كافية من الوضوح ليتحدث عن الدولة القومية بمفهومها القانوني الدستوري الحديث، ولكننا نرى أن إشاراته هي رؤية سياسية / فكرية مبكرة وذات مغزى مهم.
واستطراداَ في مناقشة فكرة الدولة القومية، نتيقن أنها ليست فكرة إقطاعية. ولو كان الأمر كذلك لكانت أوربا قد أدركته خلال عصور الهيمنة الإقطاعية الطويلة على المجتمعات الأوربية، كما أنها ليست بورجوازية، فلو كانت كذلك فكيف أنتبه لها أبن خلدون بهذه الدرجة من الوعي. أن فكرة الدولة القومية هي جزء من الوعي السياسي لأي شعب يحس ويشعر بكيانه ويدرك أبعاد وحدود بلاده ومصالحه الحيوية والاقتصادية في المقام الأول. كما يشعر بلغته وتميزها، وثقافته وتأريخه. فقد كانت حقيقة تاريخية قد ترسخت منذ العصور البابلية والآشورية، أن جبال الأناضول شمالاَ وجبال زاغروس شرقاَ مثلت الحدود الطبيعية لمنطقة كانت على الدوام مرتعاَ لشعب سام يتألف أساساَ في معظمه الغالب من أقوام هاجرت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت أحواض الأنهر، ومضت تواصل تثبيت ألوانها الثقافية، وتكتسب ملامح محددة بمرور الوقت، أنماط معيشة واقتصاد، ثقافة ولغة، عادات وتقاليد، شدتها مفردات الحياة وأحداث تاريخية إلى بعضها البعض. وقرأنا في الألواح البابلية لأول مرة كلمة عرب، عربو، أرابيا، بحدود ألف قبل الميلاد فصاعداَ.
ويكتب الفيلسوف الهنغاري المعاصر جورج لوكاس شيئاَ يقارب ما نذهب إليه: من أن لا قاعدة نهائية للمسالة القومية، فهذه تتشكل وتتكون وتنعقد شروطها وصفاتها بصورة قد تتفاوت من مكان لآخر ومن مرحلة لأخرى، فيقول: ” وعلى نقيض الوضع في إنكلترا أو فرنسا حيث كان التوجه السياسي لأمة قد تحقق فعلاَ بشكل أساسي عندما طرح التصور الاقتصادي للرأسمالية، مسألة الثورة الديمقراطية البورجوازية (القومية) على جدول الأعمال. ولكن تطور ألمانيا قد انطوى على تناقض، وهو أن المجتمع البورجوازي الناشئ كان عليه أن يحقق الوحدة القومية أولاَ وأن تحقيق الوحدة القومية أصبحت المسألة المحورية من ثورتها الديمقراطية البورجوازية “. (22)
وحول المسألة القومية أيضاَ، وانطلاقاَ من فكرة أننا لا يمكننا أن نحكم أو أن نقيم أحداث جرت قبل ألف وأربعمائة عام بمقاييس اليوم، إذ لا بد من الأخذ بالاعتبار، الظروف الموضوعية والذاتية لتلك الأزمنة، والأمر كذلك فعلاَ، فيقول الأستاذ البريطاني (اللبناني الأصل) البرت حوراني، إن فكرة القومية العربية الحالية اكتسبت قوة سياسية في القرن العشرين ولكن: ” إذا ما توغلنا في الماضي نجد أن العرب كانوا دوماَ يحسون إحساساَ فريداَ خاصاَ بلغتهم، وأنه كان لعم قبل الإسلام إحساس عرقي، أي نوع من الشعور بأن وراء منازعات القبائل والعائلات وحدة تضم جميع الناطقين بالضاد والمنحدرين من القبائل العربية.
فمن المؤكد أن التجارب متفاوتة في مفرداتها.(23)
نعم، ساهمت أعمال كتاب وفلاسفة وعلماء وشعراء وفنانون وأدباء في خلق شخصية الأمم ومنحت أعمالهم تلك المرحل نكهتها وطابعها، وهناك شعوب مدينة لقصائد وأعمال فنية وأعمال عمرانية، سواء كانت مساجد أو كنائس أو قصور، أغاني، أعمال فنية وموسيقية خالدة وأناشيد، أصبحت رمزاَ لتلك الأمم وأدت دورها الكبير، مثل المسجد الأقصى والكعبة، المدرسة المستنصرية، أسد بابل، الأهرام، المعلقات، ألف ليلة وليلة، أنشودة الله أكبر، معبد الأكروبوليس في اليونان، أسطورة الماراثون، ملعب الكوليزة في روما، أعمال الواسطي، دافنشي، أنشودة المارسيليز …الخ، أسماء وشواهد كثيرة، هي حصيلة الإنسان في مسيرة الحضارة، بتراكمها أخرجت العالم من ظلام العصور الحجرية إلى القرن الواحد والعشرين و الألفية الثالثة.
6ـ المؤثرات الخارجية: ـ
لا يمكننا تصور قيام وترعرع حضارة لشعب أو أمة دون أن تكون قد اتصلت بمنجزات شعوب أخرى، واقتبست منها، ولا شك أن عزلة شعب من الشعوب هو أحد أسباب لانحطاط درجة أو مستوى تقدمه، فمن الثابت علمياَ أن أحد أسباب تطور البشرية هو قابلية الإنسان على التعلم. التعلم ممن..؟ ، التعلم أولاّ من تجاربه الذاتية، ولكن أيضاَ من تجارب الآخرين وهي تعبر عن ذكاء الإنسان. ولعل انزواء بعض الحضارات وابتعادها عن الاحتكاك والتماس مع الآخرين هو السبب في بقائها حضارات أو تجارب منغلقة، لم تفضي إلى نتائج كبيرة، أي لم تؤدي بها لأن تكون حضارات عالمية المستوى.
فعلى سبيل المثال: هناك 2800 لغة في العالم، ولكن كثير من اللغات لم يسمع بها أحد، ناهيك عن تأثيرها، وكثير من اللغات لم تعد موجودة، وأكثر منها من اللهجات. وكثير من اللغات في العالم هي للحديث وليست للقراءة والكتابة. واللغة هي وسيلة رئيسية لانتقال وتعميم الثقافة. فاللغة العربية اكتسبت هيئتها هذه منذ نزول القرى، حوالي 610 م. وهناك حوالي 550 كلمة عربية في اللغة الألمانية و1000 كلمة في معجم أكسفورد للغة الإنكليزية و 3000 في اللغة الأسبانية. وتستخدم اللغة العربية حروفاَ خاصة بها وكذلك الأرقام وأسماء الأشهر وأيام الأسبوع، وكل هذا قبل نزول القرآن فيما لم تبرز اللغات الأوربية الرئيسية إلا بعد 1500 ميلادية. والثقافة الأوربية كانت تستخدم اللغة اللاتينية التي اندثرت اليوم تقريباَ إلا عند الاختصاصين.
ومع أن العرب لم يمارسوا ضغوطاَ سياسية أو فكرية من أجل تشجيع انتشار لغتهم (وحتى عصرنا الحالي)، بل كانوا يترجمون من اللغات الأخرى بلا عقد أو حساسيات، ويشجعون الحركة الفلسفية والفكرية. ولكن الحركة العامة نحو العربية كانت متصاعدة رغم كل شيء، وقد ساهم في الثقافة العربية الكثير من العلماء المسيحيين العرب، وأن تلاشي أو ضعف اللغات الأخرى (في الشرق بصفة خاصة) مثل السريانية الآرامية والقبطية والبهلوية (الفارسية القديمة)، لم يكن اعتباطا، وليس بسبب الإسلام وانتشاره في الأقطار العربية المجاورة، بل بسبب قوة هذه اللغة وثرائها وملاءمتها للمنطق والمزاج، بالإضافة إلى الاستخدام اليومي، والعلوم على حد السواء.(24)
وإذا كان عمل الموسوعات والمعاجم والقواميس أحد دلائل تقدم ثقافة أي شعب أو أمة، فأن العرب كانوا سباقين في وضع المعاجم العديدة وأشهرها: (كتاب العين) لخليل بن أحمد الفراهيدي 786 م، وقد وضع بعد ذلك معاجم أشهرها معجم الأصمعي المتوفى عام 828 م وكتاب التهذيب وضعه أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى عام 980 م. والصحاح ووضعه أبو نصر إسماعيل الجوهري المتوفى عام 1005 م، ومن مشاهير المعاجم أيضاَ لسان العرب لأبن منظور المتوفى عام 1311 م وغيرهم.(25)
أردنا بذلك القول، أن الثقافة العربية قبل الإسلام وبعد الإسلام تفاعلت وتعاملت مع ثقافات أخرى، ربما بعضها كان أقل إشراقا من الثقافة العربية، ولكن في تفاعل الأمم لا ينبغي التركيز على هذه المسألة، بل المهم هو أن تحتفظ الثقافة أو تلك الحضارة بسماتها وعلاماتها المميزة وإلا فأنها تندثر وتتلاشى بمرور الوقت إذا تعاملت بانبهار وباستسلام. والثقافة العربية تعرضت إلى مثل هذه التجربة أكثر من مرة، في ظروف وأحداث كانت فيها إرادة الأمة السياسية مفككة وضعيفة في ردود أفعالها مستلبة الإرادة لقوى أجنبية جاءت لتفرض بكل شراسة إلى جانب هيمنتها الاقتصادية والسياسية، ثقافتها ولغتها، وقد حاول ذلك في تلك العصور كل من: الفرس والرومان والبيزنطيون والإغريق والأحباش وبعضهم فعل ذلك يطرق منظمة ومدروسة مثل: الإسرائيليات التي حاولت التسلل إلى مصادر الثقافة العربية، وأمعن في التزوير والتخريب، والهيلينية التي حاولت أن تطغي بأنماط الثقافة والتفكير، ثم المدرسة الشعوبية التي حاولت أن تطغي بأنماط الثقافة والتفكير، ثم حاولت مسخ هوية كل ما هو أصيل في الثقافة العربية.
وفي العصور الحديثة، حاولت قوى استعمارية أن تفرض مثل هذه السمات على الثقافة العربية فتجعلها تابعاً ثقافياَ، فحاول ذلك الفرنسيون والإنكليز والإيطاليون والأسبان والأتراك، وخيل لبعضهم أنه قد نجح في مسعاه أو كاد. ولكن نظرة بسيطة إلى الخارطة السياسية والثقافية تنبأ بوضوح الفشل الذريع لتلك المساعي.
وفي مجهود علمي لاستقصاء أثر الثقافات والحضارات الأجنبية على الثقافة العربية، نجد أن هناك مصادر عديدة مثلت دور الروافد التي تصب في النهر الكبير. فلاشك أن الديانات السابقة للإسلام، اليهودية والمسيحية على ضعف نفوذها الروحي إلا أنها مثلت أحد الروافد، فقد كان هناك عدد من المسيحيين في شبه الجزيرة، القليل منهم في مثلث وسط شبه الجزيرة وأكثر من ذلك في اليمن (نجران) ونفوذ أوسع في العراق والشام ومصر على التوالي، والوجود اليهودي كان أفل من ذلك، والتأثير الذي مارسته الديانات الأخرى هي في اتجاهين رئيسيين، بصرف النظر عن حجم هذا التأثير: ـ
آ ـ قصص الأنبياء والرسل والرجال الصالحين المصلحين ولأخبار الأمم والشعوب.
ب ـ رؤية فلسفية وسياسية / اجتماعية.
والرافد الآخر، كان تأثير الأمم الأجنبية التي حلت في البلاد العربية كقوى استعمارية مهيمنة، وهي وإن رحلت، إلا أنها خلفت بعض التأثير مهما كان بسيطاَ. منها التأثيرات الفارسية والرومانية، وقد أتخذ هذا التأثير أبعاده في الأدب أو في طرز العمارة، أو ربما في الأزياء والأطعمة.
ولكن لا بد من التأكيد: أن هذه التأثيرات اكتسبت نكهة عربية، فالدروس الثقافية المقتبسة من اليهودية والمسيحية، ارتدت مسوحاَ عربية إسلامية فيما يتعلق بالنظرة إلى الكون والخالق، كما كانت لها نظرتها الخاصة حتى إلى سيرة الأنبياء والرسل. فالتوحيد وعدم الاقتراب من صيغ الشرك، والابتعاد عن التعظيم وتمجيد الأفراد كانت صفة مؤكدة في الثقافة العربية الإسلامية، ودرج استخدامها في الدين والسياسة لأسباب وضعية لها علاقة بالأهداف والمساعي السياسية وليس الروحية والثقافية. فالإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الفرد. والرسول محمد (ص) وخلفاءه الراشدين، كانوا يرفضون وبحزم مثل هذه السياسة أو التقاليد والمظاهر. أما الإطلاع على منجزات الحضارة الإغريقية، فلم يحدث بحلول العصر العباسي الوسيط (عصر هارون الرشيد والأمين والمأمون فصاعداَ) حيث صار الإطلاع على منجزات الفلسفة اليونانية يسيراَ وإذا كان قد حصل تماس أو إطلاع، فذلك قد تم في حدود ضيقة وعلى مستوى النخبة، ولم يصبح هذا التماس متواصلاَ واسعاَ إلا بعد عام 800 فصاعدا.
فالفكر العربي، ثم الفكر العربي الإسلامي، كان يمضي قدماَ يتصل ويقتبس ويستفيد ولكن دون أن يسمح بتشوه سماته ومميزاته، وهكذا تكون الفكر العربي الإسلامي وهو ” صورة ناجمة عن تفاعل جزئياته المكونة لشخصيته عبر الزمن الطويل، وتمثل هذه الجوانب الاقتصادية والدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية “، وهذه بلا شك صورة تكونت عبر مراحل عديدة ما تزال خاضعة للتطور.(26)
وهكذا تمكنت الثقافة العربية أن تؤدي مهمتها الحضارية التاريخية، أن تلتقي وأن تشع بدورها وفي كل ذلك لم تحاول أن تفرض شخصيتها على أمة من الأمم، ولكن مع الحفاظ على شخصيتها، وأبرز دليل فيما نذهب إليه: هو ما نحن فيه، في معرض الفكر السياسي والتأثيرات المتبادلة. فقد قرأ العرب المسلمون أفلاطون وأرسطو، بل واستوعبوه بأفضل مما يستوعبه الأوروبيون أنفسهم وهذا ثابت عبر شروح أبن رشد لفكر أرسطو، فهناك جامعة فلسفية نشأت في إيطاليا (في مدينة بادوفا) وهي المدرسة الرشدية التي كانت عنصراَ هاماَ قاد إلى عصر النهضة.
ويكتب الأستاذ الأمريكي جورج سباين: “أن ادعاء البابوية في الهيمنة على الحكام الزمنيين ادعاء أشاع المشاكل والفرقة في أوروبا وفي إيطاليا بوجه خاص، وقد أثرت كتابات أبن رشد في مفكري القرون الوسطى ومنهم مارسيليو (عن الدولة والنظام والقانون) وأهم كتابات ابن رشد هو استنادها المطلق إلى العقل “.(27)
وغالباَ ما يصف علماء السياسة الأوروبيون الفكر العربي الإسلامي، والسياسة تحديداَ، بأنه يدخل ضمن بحوث علم الأخلاق. حيث يبدو من العسير جداَ الإقرار بأن العرب هم واضعوا علم السياسة. والحق فأن علماء السياسة العرب لم يكتبوا في علم الأخلاق (وهناك مؤلفات خاصة بهذا العلم)، ولكنهم لم يفصلوا الأخلاق عن السياسة، ومثل هذا الرأي كتب عنه مونتسيكيو الذي يصفه الكثير من المؤرخين بأنه مؤسس علم السياسة الأوربي الحديث وليس ميكافيلي. ومونتسيكيو لا تفوح من كتاباته روائح وثنية رغم كونه معاد للكنيسة، وهو يمزج بين المفاهيم الأخلاقية والسياسية بقوله : ” أن حب الديموقراطية هو أيضاَ حب العفة ” .(28)
كان علم السياسة العربي الإسلامي قد توصل عبر عناوين كثيرة إلى اعتبار واحترام السياسي، لضرورات الواقع الموضوعي، والتعامل معها وحسابات القدرات الذاتية واتخاذ القرارات السياسية على هذا الأساس. ومن تلك المبادئ: لا ضرر ولا ضرار، سد ذرائع الفساد، رفع الحرج، الضرورات تبيح المحذورات، البراءة الأصلية. ولكن مبادئ السياسة العربية تأبى تحقيق الخير بوسائل الشر أو تحقيق الفضيلة باستخدام الرذيلة، ففي ذلك تناقض خطير يقوض العملية السياسية.
ومثل هذه الفكرة، تحقيق الخير بوسائل الشر، ذهب أليها أحد شهراء السياسة الأوربية المعاصرة، ونستون تشرشل، في صدر مذكراته، عندما أعاب على ألمانيا الهتلرية تحقيق أهدافها بواسطة العدوان والعنف المسلح، في حين أن: ” السياسة بنظر الفكر والحضارة العربية الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتحيا إلا بحفاظها على مستوى خلقي معين، ومتى خرجت السياسة في سلوكها عن خطها الخلقي ليصبح كل شيء جائزاَ، أصبحت السياسة فاشلة ومصيرها النهائي هو الهلاك. والقيم العربية الإسلامية التي تسير وفقها سياستها، ترى أن السياسة تقوم للإصلاح والاستصلاح، وأن وجهة سيرها الصحيحة هي أن تسير في خط مستقيم “.(29)
ويذهب أستاذان عربيان أخرى إلى: ” أن المفكرين العرب المسلمين ينظرون إلى السياسة باعتبارها من النشاطات الإرادية والسلوكية وهي تنبثق عن الاختيار المحكوم بمعرفة الخير والشر والحق والباطل والفضيلة والرؤية. وقد ذهب أبن رشد إلى أن علم السياسة يشبه علم الطب “.(30)
وفي الفكر الغربي، فأن مونتسيكيو الذي يعتبره بعض العلماء، مؤسس علم السياسة الحديث، يؤمن بالعفة والفضيلة في الفكر السياسي، بيد أن ميكافيلي أطلق نزعة فكرية، إن على السياسي أن يحقق أهدافه بصرف النظر عن أساليب الخسة والنذالة والخيانة، وقد تطورت هذه الأفكار إلى مدرسة فلسفية هي البراغماتية Pragmatis، القائمة على أساس أن نجاح كل سياسة هي في النتائج التي حققها بصرف النظر عن الأساليب، أو بالأحرى أن جودة الأسلوب هو في النتيجة الحاصلة. ولكن البراغماتية ليست بالضرورة قانوناَ للسياسة لا يصلح غيره، فالميكافيلية والبراغماتية قادتا إلى الاستعمار وإلى الحروب التوسعية وإلى سلب ونهب ثروات الشعوب، وهي سياسة مدانة في الكثير من المحافل الدولية ومنها الأمم المتحدة، التي أصدرت قرارات كثيرة في إدانة الاستعمار والتميز العنصري الذي هو ناتج مباشر للاستعمار وإدانة لأساليب التوسع القائم على القوة.
والمفكرون الأوربيون يعترفون، وإن لا يقولون ذلك بصوت عال، بل همساَ و يدسون اعترافاتهم بين السطور والهوامش، أن الحضارة المسيحية الأوربية تعلمت الكثير من الشرق والعرب المسلمين، عبر نقاط وعمليات تماس كثيرة. عبر الأندلس وصقلية وبلاد الشام ومصر والحروب الصليبية بصفة خاصة، وحيثما أمكن لهم ذلك. فيقول الكاتب الفرنسي أمين معلوف (عربي مسيحي من أصل لبناني): ” أن الانطباع الذي أحدثه مجيء الصليبين إلى البلاد العربية كان مزيجاَ بين الخشية والاحتقار، فقد كانت الأمة العربية متفوقة جداَ بحضارتها، وإن كانت قد فقدت روحها القتالية ” .
وإن كان العرب قد تمكنوا فيما بعد من طرد الصليبيين الذين جاءت جيوشهم الجرارة من كل البلاد الأوربية، وملوكهم على رأس تلك الجيوش. وفي مقطع آخر يقول الكاتب المعلوف: “وفي عهد المستظهر بالله، حيث دارت أولى معارك الحروب الصليبية، كانت عاصمة الدولة بغداد تضم ألف طبيب مجاز ومستشفى كبير ومجاني، ومصلحة بريد منتظمة وعدد من المصارف لبعضها فروع في الصين، وشبكة مياه ممتازة وأخرى متصلة بمنتفعات المنازل لتصريف مياه الخدمة، ومصنع للورق. ولسوف يتعلم الغربيون الذين لم يكونوا(حتى ذلك الوقت)يستعملون غير الرق للكتابة قبل دخولهم بلاد الشام، ولسوف يتعلمون صناعة الورق من تبن القمح ” .
والمعلوف يؤرخ أيضاَ بأسف قائلاَ: ” وفي يوم الاثنين 11 ذي الحجة 502، المصادف يوم 12 تموز1105، وبعد ألف يوم من المقاومة ضربت طرابلس الشهيرة بالمصوغات والكتب والقضاة والمثقفين على يد محاربي الغرب، ونهب مئة ألف مجلد كانت في دار العلم ثم أحرقت لكي تمحى الكتب (الملحدة) من الوجود “. (31)
ولم يكن تأثير الأندلس وصقلية بسيطاَ، فخارطة الإدريسي، وهي على الأرجح أول خارطة للعالم، نقلت عن طريق صقلية، وكان لملوك النورمانديين والإفرنج مستشارين وخبراء عرب وجنود كانوا حرسه الخاص لإخلاصهم وشجاعتهم وقد تعلم أحد القياصرة الألمان اللغة العربية، لا بد لحاجته الماسة إليها. ثم ألا يعمل اليوم الآلاف من العلماء العرب في أعلى المؤسسات العلمية الغربية، الطبية والتكنولوجية بما في ذلك وكالة الفضاء ناسا، ووكالة الطاقة الذرية الدولية، ليؤكد ذلك حقيقة واحدة: ـ أن البحار والمحيطات لها سواحل، ولكن الحضارات لا ساحل لها، فهي تنتشر وتتصل ببعضها ولو على متن مركب شراعي من القش كما برهن على ذلك العالم النرويجي ثور هيردال في رحلاته البحرية من العراق ومصر بين القارات .
ولأوغاريت (رأس الشمرة)، مدينة اللاذقية اليوم، الفضل في تعليم الإغريق الأبجدية كما كان للحضارة العربية الفضل في نقل كم لا يحصى من المنجزات، ولكن بالمقابل، تلقت الحضارة العربية قديماَ وحديثاَ من أمم كثيرة. وإذا كانت البلاد العربية قد تعرضت في ظرف تاريخي حرج إلى هجمة بربرية همجية (1252 م.)، ولم تجري فيها العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي دارت بحكم الحتمية التاريخية في أوروبا، والتي أدت في النهاية إلى فض الاشتباك بين السلطة الدينية والدنيوية، ثم إلى عصر النهضة بكل ما تضمنته وما قاد إليه : ـ حركة الإصلاح الديني التي وضعت الدين في الكنيسة وليس في طريق تطور المجتمع والهيمنة والتسلط واحتكار الفكر والرأي وما قادت إليه كنتيجة حتمية : عصر التنوير، الذي وضع الإنسان أمام مصيره، كالذي يضع الحصان أمام العربة، ولا يعوزه سوى الانطلاق. وهذا ما قاد إلى نتيجة حتمية أخرى: الثورات البورجوازية، وأهمها الثورة الفرنسية.
والبورجوازية في استخدامها الثوري لهذه الكلمة في تلك الأزمنة (المواطن)، أن المواطن مساو للمواطن في الحقوق والواجبات أي كان لونه وعرقه ودينه وولائه وطبقته، وهذا ما لم تستطع أن تقدمه الأديان للإنسان، بل قدمه الفكر والثورة، والنظام والقانون. وكان لا بد أن يؤدي ذلك إلى نتيجة أكثر أهمية: الثورة الصناعية كنتيجة حتمية لإطلاق سراح الفكر ليبدع واليد لتعمل.
في هذه العمليات التاريخية التي دارت، كان الفضل فيها للإنسان الذي أمتاز بالشجاعة والأقدام فقد أعدم حرقاَ الكثير من العلماء والمفكرين وأستشهد الكثير من العلماء أثناء قيامهم بتجاربهم التي بدت في وقتها مستحيلة، ومغامرين أثناء محاولاتهم لاكتشاف وإجلاء الغموض عن ظواهر جغرافية وطبيعية، وحدثت ثورات وانتفاضات، ومؤامرات وفتن ودسائس، وكما أنجزت روائع، فقد حدثت فضائع أيضاَ وجرت حروب طاحنة دامية. وبينما كان ذلك كله يحدث في أوروبا، كانت البلاد العربية تحت إرادة القوى الأجنبية والعناصر الرجعية المتحالفة معها في خدر عميق.
وحتى القرن الثامن عشر لم تكن هوة التخلف جسيمة جداَ بين أوروبا والبلاد العربية والشرق عموماَ، ولكن الثورة الصناعية التي كما بينا كانت نتيجة حتميات تاريخية، وليس بمشاريع وخطط. فقد سمح برلمان إنكلترا للمرة الأولى تصدير الآلات عام 1824، وحتى ذلك الوقت لم تكن السكك الحديدية معروفة. ففي 1825 أفتتح أول خط للسكك الحديدية، وفقط في عام 1830 أفتتح خط حديدي مباشر بين مانشستر وليفربول، لاحظ أن مانشستر هي منطقة صناعية وليفربول ميناء تصدير، فالأمر لا يتعلق بالفخامة أو الأبهة.
وحتى أواسط القرن التاسع عشر، كانت هناك قوى أوربية مهمة تحتل مواقع عظمى ليس على صعيد القارة فحسب، بل على صعيد العالم وكانت بريطانيا سابقة لغيرها من القوى الأوربية ثم تبعتها دول أخرى، ولكن كان على العالم أن يتحمل نتائج قوة الدول الاستعمارية، حروب ضم وإلحاق وهيمنة، وحتى مطلع القرن العشرين كان 82 % من مساحة اليابسة في العالم تدار استعمارياَ وما زال حتى اليوم، يمارس الأقوياء لعبة القوة، وغالباَ تمارس اللعبة بقواعد لا علاقة لها بالقانون والعدل.
وإن شئنا العبرة من هذه التجربة، فالمؤكد أن التقدم لا يكمن في استيراد أجهزة ومعدات، بل في تحرير فمر الإنسان ليفكر ويديه ليعمل، وليس في كثرة الأبهة والسيارات، وإن ليس هناك وطناً حراً بلا مواطنين أحرار.
هوامش البحث
- بورجلان، بيير: مقدمة لكتاب العقد الاجتماعي (جان جاك روسو)، ص 14
- جوزي، بندلي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص18/39
- الغزالي، أبو حامد: المنقذ من الضلال، ص25
- سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج1 ن ص286
- سباين، جورج: نفس المصدر، ص250
- أليان، ج/ويد جيري: المذاهب الكبرى في التاريخ، ص133
- التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، 18
- مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ج1، ص65/70
- التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، ص39
- التريكي، فتحي: نفس المصدر، ص41
- الغزالي، أبو حامد محمد: معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ص63
- الغزالي، أبو حامد محمد: نفس المصدر، ص65
- سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج2، ص351
- حوراني، البرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص145/ 148
- التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، ص11/30
- سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج2، ص381/383
- حسين، طه: من الأدب الجاهلي، ص38
- حسين، طه: في الأدب الجاهلي، ص38
- لوكاش، جورج: غوته وعصره، ص7
- ياسين، د. نجمان: دراسة في المفهوم والتكوين، مقال /آفاق عربية
- لوكاش، جورج: غوته وعصره، ص93
- حوراني، البرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص311
- مصطفى، شاكر: التاريخ العربي والمؤرخون، ج2، ص416/411
- معلوف، لويس: المنجد، طبعة 13، ص1094
- محمد، د. فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، ص17
- سباين، جورج: نفس المصدر، ص406
- كرم، يوسف: نفس المصدر، ص190
- محمد، د. فاضل زكي: نفس المصدر، ص12
- الطعان، د. عبد الرضا:/ الأسود، د. صادق: مدخل إلى علم الفلسفة، ص183
- معلوف، أمين: الحروب الصليبية، ص64/81/12
- مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ج2، ص57