يصل الناقد إلى أعماق النص الإبداعي مهما حاول، رغم اختلاف أدواته النقدية، فهو يلامس أشياء، وتغيب عنه أخرى، فيما يصل الكاتب بسهولة إلى أعماق قارئه، حتى إن كان ناقدا. قد يأخذ الناقد النص بتأويلاته بعيدا خارج المعنى، وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال مهم، إلى أي مدى يمكن أن يشوه الناقد الكاتب؟ وهل يمكن للمناهج التي تدعو إلى قتل الكاتب، والاكتفاء بنصه أن تنقذه من التشويه الذي يلحق به؟
ولأكن مباشرة وصريحة: لماذا حين يكتب بعض الرجال عن الجنس على سبيل المثال، لا تُلفق لهم أي تهمٍ تلاحق أسماءهم، فيما البعض الآخر تلاحقه تهم كبيرة يحاكمون بسببها وكأنهم ارتكبوا جرائم لا تغتفر؟ المرأة على العموم يكفيها أن تكتب سطرا واحدا عن الجنس، حتى يُحصَر أدبها بين قوسي الجسد والجنس؟ تغيب القضية الرئيسية التي تبني عليها نصها الروائي، فينشغل القراء بمختلف مستوياتهم بهامش فرعي وصغير في روايتها، وتصبح مادة للدراسة محددة المعالم مثل، سجن لا مفر منه ولا خلاص.
نتحدث هنا عن نقاد وباحثين ومخابر سردية، تزج بالنصوص النسائية في الوعاء نفسه، أوعية تشبه توابيت الموتى، يغتال النص بهذه الطريقة وتغتال كاتبته، يموت في داخلها شيء ما إلى الأبد، وهي تكتشف أنها دخلت المكان الخطأ للحديث عن قضيتها المتشعبة. نعرف جيدا أن وضع المرأة يختلف تماما عن وضع الرجال في مجتمعنا الذكوري، وهذا «النقد الذكوري» يبدو أنه تمادى في ظلم الأقلام النسائية، وأعتقد أن صمت الكتّاب تجاهه، جعل هذا «الناقد الغرائزي» غير المتمرس يزداد غرورا فينتهك حرمة الأدب طولا وعرضا. لن نفهم لماذا فُرِض علينا هذا النوع من «النقد» إنه مثل الحشائش الضارة التي لا مفر من وجودها بين الشتائل الجيدة. أفلا يحق لنا على هذا الأساس أن نتساءل، لماذا ينزعج شخص – يفترض أنه ناضج جسديا وعقليا – من فقرة في كتاب تتحدث عن العلاقة الحميمية، أو تطرح أسئلة وجودية، أو ما شابهها في الشأن السياسي، فيحول الأمر إلى قضية رأي عام، تصل حد تحويل حياة الكاتب إلى جحيم؟ هل نحن أمام مرحلة انحدار للذهنيات التي طالت حتى المجالات الأكاديمية الرصينة؟ أم أننا أمام حالة انفجار فكري أشبه بفوضى الحروب، نتوقع أن تليه السكين، قبل أن يعيد ترتيب نفسه، وانتقاء الأفضل للمراحل المقبلة؟
تحضر كل الفرضيات المحتملة «لأننا تعودنا على التشكيك الجذري في قيمة وفائدة أي فكرة عن الحقيقة، ليس فقط في مجال الدراسات الأدبية، ولكن أيضا في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية» لهذا نتبنى التفسيرات الأكثر بساطة، وأقربها للثرثرات اليومية، شيء يحيلنا مباشرة إلى تدني مستوى التلقي، والذي بدوره يؤثر سلبا في الذائقة «النقدية» إن صح التعبير. من جهة نعرف جيدا أن النقد المعاصر الرائد والمهيمن يقوم على ترسيخ نماذج معرفية للعلوم الإنسانية، لكنه أبدا لا يمكنه أن يدعي أي حقيقة موضوعية. سنة 1856 صدرت رواية «مدام بوفاري» الشهيرة لجوستاف فلوبير، فأصدرت جريدة «لوفيغارو» حكما قاسيا في حقه، معلنة أنه ليس كاتبا، فيما حوكمت الرواية بسبب «الفجور». هذا لا يحدث اليوم في الضفة الأخرى من العالم، ولكن المطمئن في هذه القصة أن مستقبلا زاهرا ينتظرنا بعد قرن ونصف القرن ربما، طالما أننا نشبه ذلك الماضي في نقاط كثيرة.
يحضرني أيضا نقد فولتير العنيف لمسرحية شكسبير «روميو وجولييت» حين وصفها بالسيئة، أما «هاملت» فقد قال عنها إنها «عمل مبتذل، وبربري، ومتوحش كتبه رجل مخمور». وهذا النوع من «النقد اللاذع» قد يكون سيد أحاديثنا في المقاهي والجلسات الخاصة، ولكننا نعيش في زمن الواجهات الإلكترونية، التي هدمت أسوار الخاص، فأصبح كل ما يقال شبيها بالحميمي والمبتذل في الوقت نفسه، إذ كثيرا ما قرأنا تراشقا لا يليق بأهل الأدب بين كاتبين، اتهامات بالسرقة، بدون تقديم أي دليل، تهديدات لا أخلاقية، ثم عداوات تزيد من تأزم المشهد الثقافي عندنا. لا تختلف بعض هذه المناوشات الأدبية عن شجارات أبناء حواري القاع، ألفاظا سوقية، وتجريحا متعمدا، ومحاولات اغتيال أدبية واضحة، ترافقها رغبة عنيفة في إقصاء الآخر، وأشعر بالإحراج حتى لإدراج بعض الأمثلة هنا.
هل هذه هي وظيفة النقد؟ متأرجحة بين المجاملات المبالغ فيها، والهجاء والذم المبالغ فيهما أيضا، مع ملاحظة أن بلوغ مرحلة القدح هذه قد تكون ردة فعل طبيعية عن سيطرة النقد الزائف على المشهد.
نأتي الآن لزمننا الإلكتروني البشع، حيث يلجأ كتّاب لرشق منافسيهم بالتعليقات السيئة، وبعض مشاهير الأدب للأسف ممن لجأوا لهذه الوسائل الحقيرة لطمس غيرهم، دفعوا بشركة عملاقة مثل أمازون إلى اللجوء لشطب هذا النوع من التعليقات المرافقة لكتبها.
لقد أنقذت طفلة في الثامنة مستقبل ج. ك.رولينغ كله، بعد أن رُفض كتابها «هاري بوتر في مدرسة السحرة» من طرف اثني عشر ناشرا، حين جعلتها الأقدار تطلع عليه فأقنعت والدها بنشره، إذ كان رئيس دار بلومزبري. تعاملت الطفلة مع النص وفق مقاييس نقدية يصعب على البالغين فهمها، لأنها مقاييس تخضع للذائقة غير الملوثة بالمحسوبيات والغيرة والتنافس وأمراض الشهرة. في مفهومي الضيق يرفض المؤلف أن يموت، وما ينتظره من النقد ليس تقييما، أو مرافعات أخلاقية، أو البحث في حقيقة النوايا، إنما يتمنى إعادة اكتشافه ككائن لغوي، من أجل توسيع في معنى منتجه الجمالي، بدون العبث بمكونات نصه، وتشويه صورته ككاتب. وفي الواقع غالبا ما يشعر بالحاجة إلى التحليل والجدال الفلسفي، كمركز مُحرك لنشاط فكري إبداعي ذي نطاق معرفي، ولا يمكن إقصاء هذا الجانب فيه، ما دام هو الدافع الأول لإقباله على الكتابه وخوض مغامرة الأدب.
على الناقد أن يكون أكثر حذرا من غيره، كون مهمته ليست قذف أي كلام، وفق ما يمليه مزاجه عليه، فقد تكون إحدى عباراته القاسية وهو غارق في جلد أحدهم، قطرة السم التي تقضي عليه. حدث أن رُفِض روديارد كيبلينغ مؤلف كتاب الأدغال The jungle book من طرف «السانفرنسيسكو إيكزامينر» وقد أُرفِق الرفض بهذا التعليق: «أنا آسف سيد كيبلينغ، لكنك لا تعرف حتى أن تتحدث باللغة الإنكليزية بشكل صحيح». لم يستغرق الأمر وقتا طويلا، حتى أصبح كيبلينغ أول بريطاني ينال جائزة نوبل للآداب.
هل هناك قواعد لتقييم الأدب على هذا الأساس؟ ما دام حدس طفلة أقوى من لجان قراءة، بعضها مكون من اختصاصيين في الأدب والنقد. كل ما يمكنني قوله هو أنه على الناقد أن يضع عدته الحادة جانبا حين يقرأ أي عمل أدبي يقع بين يديه. إن مهمته ليست «ذبح الشاة ولا سلخها» بل تركها تنبض بالحياة، وتملأ مساحات الرؤية جمالا.
نأتي الآن لزمننا الإلكتروني البشع، حيث يلجأ كتّاب لرشق منافسيهم بالتعليقات السيئة، وبعض مشاهير الأدب للأسف ممن لجأوا لهذه الوسائل الحقيرة لطمس غيرهم، دفعوا بشركة عملاقة مثل أمازون إلى اللجوء لشطب هذا النوع من التعليقات المرافقة لكتبها. ولا أدري بأي تقنية تتم مراقبة الكم الهائل من الآراء السلبية التي تخرج عن آداب اللياقة العامة وشطبها. يجب أن نسأل أنفسنا بشكل أكثر عمومية لماذا يجب أن نحفظ النقد من السقوط أخلاقيا، وإبقاؤه مفصلا لكل العمليات التقييمية الجمالية. ولماذا يجب حماية الأدب من تطاولات ذلك النوع من البشر، الذي يمارس ساديته على كل شيء حوله، فيسعى جاهدا لتشويه كل ما تقع عليه عيناه بتعالٍ واضح يمنحه شعورا لذيذا بالتفوق؟
لعلها خطة إنقاذية جيدة، نختصر فيها المسافة التي تفصلنا عن نهاية حقبة العتمة.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين