I مشهد وقائعي: في الحيثيات في 22 أيلول (سبتمبر) 1980 أعلن العراق رسمياً الحرب على إيران بعد مناوشات حدودية وتحرّشات واستفزازات وإعلانات عن تصدير الثورة الإيرانية التي انتصرت في 11 شباط (فبراير) 1979. وجاء ذلك الإعلان بعد تمزيق الرئيس العراقي صدام حسين اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 من على شاشة التلفزيون، وذلك يوم 17 أيلول (سبتمبر)، أي قبل خمسة أيام من إعلان حالة الحرب. والمقصود باتفاقية 6 آذار (مارس) هي اتفاقية الجزائر التي وقعها صدام حسين نفسه بصفته نائباً للرئيس أحمد حسن البكر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بوساطة جزائرية. ولقيت الاتفاقية المذكورة نقداً شديداً باعتبارها اتفاقية غير متكافئة ومجحفة وألحقت ضرراً بالمصالح العراقية في الماء واليابسة، وخصوصاً الاعتراف بخط الثالويك في شط العرب الذي هو نهر وطني عراقي، لكن المطالبة باستعادة الحقوق العراقية شيء وشن الحرب شيء آخر. وكانت الحرب التي استمرت 2906 يوماً (ألفان وتسعمائة وستة أيام) حدثاً من أخطر الأحداث والمنعطفات المأسوية الخطيرة التي مرّت بالمنطقة في تاريخها المعاصر، خصوصاً في حياة الشعبين العراقي والإيراني؛ وهي كارثة شاملة من نمط الكوارث التي سيخصص لها التاريخ على مدى قرون مكاناً مهماً وحيّزاً كبيراً، لاسيّما ما أعقبها من سلسلة كوارث بدءًا بمغامرة غزو الكويت ومروراً بالحصار الدولي وانتهاءً بوقوع العراق تحت الاحتلال العام 2003. لقد بلغت الحرب العراقية – الإيرانية حدًّا من الشراسة والعنف قلّ نظيره وزادت مدّتها على الحرب العالمية الثانية. وشهدت تصعيداً خطيراً شمل المدنيين، سواءً بحرب الناقلات أم حرب المدن أم استخدام السلاح المحرّم دولياً، سواءً عندما ابتدأها النظام العراقي أو عندما واصلتها إيران. ووسعت إيران من عملياته الحربية داخل الأراضي العراقية، بعد تحرير العراق لمدينة الفاو، وصعّدت من لغة التهديد الحربي ولوّحت بإغلاق مضيق هرمز، وكان هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان الإيراني حينها قد قال: أن المعركة الحاسمة ستتم خلال ثلاثة أشهر، بعد أن انتهى عام الحسم الإيراني، فقامت طهران بتصعيد قصفها للمناطق الحدودية وقصف بغداد بصواريخ أرض – أرض؛ وباحتلال المزيد من الأراضي العراقية في هجوم كربلاء (أواخر العام 1986) والتوجه لاحتلال جزيرة أم الرصاص في شط العرب باستهداف البصرة، وكذلك لاحتلال جزيرة الأسماك في هجوم نصر 4 (26 حزيران /يونيو/1987) كما احتلّت نحو 20 كيلومتراً من كردستان. وبالمقابل فإن العراق بعد ” تحرير الفاو” واستعادتها من الإيرانيين وسّع هو الآخر من قصف المناطق الكردية التي حاولت القوات الإيرانية التسلّل منها، ولاسيّما قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي ليلة 16-17 آذار (مارس) 1988 واستمرّ بحرب الناقلات وهدّد بمواصلتها ما لم تستجب إيران لنداءات السلام، وأقدم على ضرب الفرقاطة الأمريكية ستارك وسفينة تركية. ورفضت إيران جميع المناشدات لقبول وقف إطلاق النار والموافقة على قرار مجلس الأمن 598 الصادر في تموز (يوليو) 1987 ولكنها اضطرّت إلى الرضوخ بعد عام واحد، إلى أن أعلن الإمام الخميني موافقة إيران على قرار مجلس الأمن 598 وتجرّع كأس السمّ على حد تعبيره، وهكذا توقفت الحرب في 8/8/1988. وإذا كانت الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل عنفية على حدّ تعبير العالم الاستراتيجي النمساوي كلاوزفيتز، فإن الحرب العراقية- الإيرانية هي تطبيق عملي لهذا القول النظري المأثور، لاسيّما ما عكسته سياسة البلدين، ولهذا صحّ عليهما أيضاً ما قاله السياسي البريطاني المعروف غلادستون من أن الحكومة قادرة على المبادرة في الحرب، لأنها خلال الأزمات الوطنية تتمتّع بتأييد الشعب لمدة ثمانية عشر شهراً على الأقل، فإن هذا الأمر تم تجاوزه من الطرفين، وفقد شرعيته، خصوصاً في محاولة التوغل في أراضي الغير، في حين كان الحسم العسكري غير ممكن. فالقوات العراقية التي احتلّت أراضي إيرانية اضطرّت إلى التقهقر والتراجع، لأن إيران كانت تدافع عن أراضيها في حين أن القوات العراقية تحارب فوق أراضي أجنبية وبدوافع ملتبسة وغير قانونية، وهو المصير ذاته الذي تعرّضت له القوات الإيرانية الغازية، التي لم تتمكّن من تنفيذ مشروعها الحربي والسياسي. ولعلّها أدركت ذلك منذ معارك شرقي البصرة في تموز (يوليو) 1982 التي راح ضحيتها 30 ألف جندي إيراني، لهذا غيّرت إيران تكتيكاتها، فبدلاً من الموجات البشرية وقذف الألوف في أتون الحرب، أخذت تفكّر بسياسة القضم التدريجي. إذا اعتبرنا قيام الدولة الصهيونية العام 1948 والكارثة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني، حدث من أخطر الأحداث التي مرّت بالمنطقة، فإن اندلاع واستمرار الحرب العراقية- الإيرانية لنحو 8 سنوات،هي الفصل الأكثر عنفاً وقسوة من الفصول المأسوية التي عرفها تاريخ المنطقة. لا يستطيع أحد أن يجادل اليوم أن شن الحرب كان صحيحاً أو خدم شعوب المنطقة، كما أن استمرارها هو الآخر لم يكن صحيحاً بغض النظر عن المبررات والدعاوى للفريقين، فقد حلّت كارثة حقيقية بالشعبين وأزهقت الحرب مئات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات الآلاف من الأسرى، ولكن البعض قد يبرر اليوم تلك المواقف بالقول أنه لم يكن العنصر الحاسم في استمرار أو وقف الحرب أو في فرض الحصار واستمراره من إلغائه، لأن الأمر كان بيد القوى الدولية المتنفّذة، التي لم ترغب بوقف الحرب، بل أرادت استنزاف طاقات البلدين وإنهاكهما لكي يتم إشغالهما عن مشكلات التنمية الإنسانية المستدامة بكل حقولها، فضلاً عن إبعادهما عن دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي جوهر مشكلة الشرق الأوسط. كما أن سياسة فرض الحصار والعقوبات على العراق كانت تستهدف الاحتواء فالإطاحة، وتلك القناعة كانت سائدة في عهد الرئيس كلينتون وأصبحت تدريجياً تعني الاحتواء المزدوج (العراق- إيران)، لكن صدور قانون تحرير العراق من الكونغرس الأمريكي 1998 وصعود مجموعة الصقور، لاسيّما في عهد الرئيس بوش الإبن، بما فيهم بول ووليفتر وديك تشيني وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد وآخرين، فضلاً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية في العام 2001 كانت وراء الإسراع بعملية غزو العراق واحتلاله. ولكن القوى الدولية كانت تحتاج إلى أصوات عراقية مؤيدة لخططها وهو ما حصل من جانب بعض القوى المعارضة “الرسمية”. وإذا كان صحيحاً أنها لم تكن القوى الحاسمة أو المقررة أو المؤثرة في القرار الدولي، لكن الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني كان يقتضي عدم تأييد استمرار الحرب أو تأييد فرض الحصار أو تأييد احتلال العراق، وحتى لو استفادت موضوعياً من البيئة المعادية لنظام الحكم في العراق، لكن ذلك شيء مختلف عن الإنخراط في المشروع الخارجي، الذي أوقع العراق في ورطة حقيقية ما يزال يدفع ثمنها باهظاً منذ أكثر من 17 عاماً. وقد اختفت الكثير من الأصوات التي كانت تنادي باستمرار الحرب العراقية – الإيرانية بعد وقفها، لكن البعض نقل رحيله من القوى الإقليمية بما فيها إيران إلى القوى الدولية، لاسيّما بعد مغامرة الحكم في العراق لغزو الكويت في العام 1990 وخصوصاً بدعوته لتشديد الحصار الدولي على العراق وإحاطة نظامه، وقد تغيّرت بعض المعادلات السياسية، الأمر الذي دفع بعض القوى الدينية التي كانت ترفض التعاون مع القوى الأخرى، لاسيّما قوى اليسار، إلى القبول بها والجلوس معاً في “لجنة العمل المشترك” 1990 ومن ثم في “مؤتمر بيروت” في العام 1991 والمؤتمر الوطني العراقي في العام 1992. وأستعيد هنا حواراً مع الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً بعيد انطلاقة حركة الاحتجاج التشرينية العام 2019 وكان قد سألني : كتبت كثيراً من الكتب والدراسات والأبحاث، فهل لديك مشروع توثيقي للحرب العراقية – الإيرانية، تقدّمه للأجيال التي لم تتلوّث بسخام ودماء هذه الحرب والمآسي التي عاشها شعبي البلدين؟ وباستعادة التاريخ، فثمة دروس عسى أن نستفيد منها؛ فعندما اندلعت الحرب كنت قد وصلت لتوّي إلى دمشق – بيروت، وكان بعضنا يعتقد أن الحرب ستنتهي بعد أسبوع واحد أو ربما ثلاثة أسابيع أو حتى شهر. وكنت قريباً ممن يقول: أنتم لا تعرفون الإيرانيين، فهم حتى لو انسحب صدام حسين من إيران، فهم لن ” لزكَة جونسون”، لأنهم إذا يتركوه تناقشوا حول مسألة فقهية أو لغوية، فقد تدوم ستة أشهر وقد يضطرّون بعدها للعراك، وقد يعودون إليها بعد أعوام، فما بالكم وأن صدام حسين هو الذي بادر بالهجوم عليهم، ولا تنسوا أنهم ما زالوا في ربيع الثورة وفي حالة وطنية من التلاحم. ولعلّ الثورة أية ثورة تخلق مثل هذه الحالة وهو ما شاهدناه في العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية، وأعترف أنه لم يستطع أحد منا التكهن بأن تلك الحرب ستطول ثماني أعوام بالكمال والتمام. وخلال تلك الأعوام المريرة كتبت دراسات وأبحاث عديدة بُعيد الحرب مباشرة ونشرتها في بعض الصحف والمجلات العربية، ثم أصدرت كرّاساً بعنوان ” النزاع العراقي- الإيراني- ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي” وصدر في بيروت أوائل العام 1981 وقامت المخابرات العراقية بجمعه من المكتبات على الرغم من دفاعه عن حقوق العراق التاريخية في المياه واليابسة ورفضه المشروع والبديل الإيراني، ولكنه من جهة أخرى أدان الحرب التي شنّها صدام حسين واعتبرها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية، الأمر الذي يستحق عليه المساءلة؛ وألقيت محاضرات عديدة عن الحرب وآفاقها، لاسيّما بعد أن انتقلت إلى الأراضي العراقية، والمخاطر والتحدّيات المحتملة خارجياً وداخلياً. وكتبت عدداً من الدراسات، بما فيها إنجاز ملفّات خاصة عن الجانب القانوني في النزاع، وشط العرب كنهر وطني عراقي واستخدام القوة في العلاقات الدولية وحرب المدن وحرب الناقلات، وعن أوضاع الأسرى العراقيين والإيرانيين في ضوء الشريعة والقانون الدولي، وعن سيناريوهات الحرب، والنفط والحرب، والقضية الكردية والحرب، والصراع العربي- الإسرائيلي والحرب، وبانوراما الحرب، والحرب والحسم العسكري وغيرها…الخ وآمل أن أتفرّغ لجمع تلك المواد وتأطيرها وتعزيزها لتصدر كموسوعة خاصة بالحرب العراقية – الإيرانية، بعضها كُتب خلالها وبعضها بعد مرور سنوات عليها، لاسيّما تقييماتها، أو أن يتفرّغ أحد الباحثين للقيام بهذه المهمة، خصوصاً لتوثيق مواقف القوى والشخصيات العراقية. وسعيت بكل ما أستطيع في المحافل الدولية والعربية للترويج لفكرة إن هذه الحرب عبثية، وأن الجهود ينبغي أن تنصرف لوقفها دون تحقيق مكاسب منها، وإنها مدانة عندما بدأها الحكم في العراق في 22 أيلول (سبتمبر) العام 1980 وعندما أصرّت إيران على مواصلتها منذ انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية، بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) العام 1982 وهي حرب تدميرية لطاقات الشعبين، وأن الحل المناسب هو الجلوس إلى طاولة مفاوضات طبقاً لقواعد القانون الدولي، دون نسيان حقوق العراق التاريخية والتي تم التنازل عنها في اتفاقيات سابقة، لاسيما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 لكن الأمر يحتاج إلى وسائل سلمية لتسوية الخلافات. وكان رأيي وما يزال أنه كلّما كان العراق ضعيفاً، كلّما تمدّدت إيران داخله، والعكس صحيح. ولعل ما يحتاجه الشعبان العراقي والإيراني هو علاقات متوازنة ومتكافئة وإلى صداقة وحسن جوار ومشترك إنساني على أساس حق تقرير المصير واحترام الخصوصية والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. II مشهد قانوني – سياسي: الصديق الإيراني المحتمل ظلّ البعض ينظر إلى إيران باعتبارها عدوّاً تاريخياً دائماً ومستمراً وأنه لن يتغيّر، في حين هناك من يعتبرها عمقاً استراتيجياً له لاعتبارات مذهبية أو آيديولوجية، فكيف السبيل لإحداث تغيير في العلاقات العراقية – الإيرانية؟ وهل يتم ذلك بالحرب أو بالوسائل العسكرية، أم بالعمل والتعاون على أساس المصالح؟ ولعلّ الكثير من المشتركات التاريخية والدينية تجمع إيران بالعراق، والأهم من ذلك هو المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي تحتاج إلى توفير بيئة سلمية ومدنية لكي تزدهر وتتعمّق، خارج دائرة العداء، وذلك بتغيير موقعها إلى صديق محتمل على أساس التكافؤ والمساواة.وبقدر ما نستحضر التاريخ للفهم والدلالة والعبرة، فإننا لا نعيده ولا نعيش فيه أو نغرق في فصوله، لأننا سنكون أسرى للتاريخ أكثر من التفكّر بالحاضر ورؤية استشرافية للمستقبل، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون عراق قوي بمواطنته ودعم شعبه.وبخصوص الموقف من الحرب فقد اختلفت معظم قوى المعارضة العراقية الرسمية في رؤيتها، فبعضها لاسيّما القوى الدينية الشيعية كانت تدعو إلى “استمرار الحرب حتى النصر” وهو ما ينسجم مع المشروع الإيراني. أما القوى الكردية فقد كانت أقرب إلى الرؤية الإيرانية آنذاك، في حين أن بعض المجموعات المحسوبة على سوريا كانت تدعو إلى “عدم توسيع رقعة الحرب”. أما الحزب الشيوعي وبعد جهد جهيد وصراع داخلي حاد وانشقاقات ، فقد قدّم شعار وقف الحرب والإطاحة بالدكتاتورية، بعد أن كان الشعار بالمقلوب. كان يخيّل لي أن الحرب العراقية- الإيرانية بفعل استمرارها ووحشيتها واحتمالات إتّساع دائرتها كأنها مصارعة على الطريقة الرومانية القديمة، التي لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الطرفين المتصارعين وإعياء وإنهاك الطرف الآخر حد الموت أحياناً، وهو ما كتبته في جريدة الحقيقة اللبنانية قبل انتهاء الحرب بعام واحد (تموز/يوليو/1987 وقبيل صدور قرار مجلس الأمن 598). وفي وقت سابق كنت قد أجبت على سؤال آخر بخصوص كتابي الموسوم ” النزاع العراقي- الإيراني” وملابساته ، لاسيّما موقف السلطات الحاكمة من صدوره فأشرت إلى أنه: صدر في بيروت في النصف الأول من العام 1981 وكتب مقدمة له الرفيق باقر ابراهيم (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في حينها) والذي أشار فيه إلى : أن الكثير من الباحثين بحثوا في موضوع الخلاف الحدودي بين العراق وإيران، وما جرّه ذلك من نزاعات طيلة قرون عديدة، ويتناول الموضوع الذي يضعه الرفيق عبد الحسين شعبان بين أيدي القرّاء، هذا النزاع، في ضوء قواعد القانون الدولي، وذلك جانب وجدته هاماً وضرورياً لكل المناضلين التقدميين وكل مواطن أن يلمّ به… ويعرّي الدكتور شعبان في بحثه بصورة ملموسة وحيوية حيل النظام القانونية التي يلتجئ إليها باستخدام التضليل والخداع… وينطلق في تحليله للنزاع من منطلقات المنهج ” الماركسي”- اللينيني في البحث، وهو إلى جانب التزامه بتلك المنطلقات يجتهد في بحثه ويستنتج الحلول بطريقة حيوية” . استند الكتاب إلى عدد من المرتكزات الأساسية هي: المرتكز الأول يقوم على أن النزاع العراقي- الإيراني هو نزاع سياسي، ولكن جانباً قانونياً مهماً فيه، الأمر الذي اقتضى متابعته تاريخياً بشكل مكثف، بعيداً عن الاعتبارات العنصرية أو المذهبية، التي أريد الترويج لها عشية وبُعيد إعلان الحرب من جانب العراق في 22 أيلول (سبتمبر) 1980. المرتكز الثاني استند إلى معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 في بحث الاتفاقيات العراقية- الإيرانية، ولاسيّما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 المذلّة والمجحفة، والتي وقّعها صدام حسين مع شاه إيران في الجزائر وبوساطة الرئيس هواري بومدين وكان لوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة دوراً مهماً فيها، وقد سبق للكاتب أن ناقش هذه الاتفاقية في حينها في إطار رسالة كتبها إلى المكتب السياسي، مورداً جوانب الضعف فيها، لا سيّما هدر حقوق العراق في الماء واليابسة، وخصوصاً فيما يتعلق بشط العرب وخط الثالويك، الذي هو أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر عند انخفاض منسوب المياه، وهو أمرٌ خطير وفق علماء الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) والطوبوغرافيا (علم التضاريس)، إذ سيعني ذلك انتقال النهر كلّياً إلى إيران بعد نحو 100 عام، حيث سيتراكم الطمى والغرين وعوامل التعرية في الضفة العراقية، ناهيكم عن كون النهر أصلاً “نهر وطني عراقي”، وليس نهراً دولياً، لكي يتم اعتبار الثالويك (الذي هو خط وهمي) الخط الفاصل للحدود. ومن الطريف الإشارة إلى أنني حضرت احتفالاً دولياً في الجزائر في العام 2010 بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور الإعلان العالمي لتصفية الكولونيالية (الاستعمار) الذي صدر عن الأمم المتحدة في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960 وقدّمت بحثاً في المؤتمر الاحتفالي، بعنوان ” ديناميكية حق تقرير المصير والقانون الدولي”، وذلك في القاعة نفسها التي جمعت صدام حسين بشاه إيران محمد رضا بهلوي، في مؤتمر قمة الدول المصدّرة للنفط، وصوّرت حينها عدسات التلفزيون والكاميرات عناق “الأخوة الأعداء” في رواية الأخوة كارامازوف للروائي الروسي دوستويفسكي في قاعة “قصر الأمم”، حيث تم التوصّل إلى توقيع اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 بين العراق وإيران والتي أدّت إلى إنهاء الحركة الكردية المسلّحة مقابل تنازلات قدّمها العراق إلى إيران، لا سيّما في شط العرب بقبول خط الثالويك وتنازله عن أراضي عراقية في منطقة نوكان وناوزنك في كردستان العراق. لكنّ تلك الاتفاقية بذاتها أصبحت عقدة جديدة من العقد التاريخية التي أضيفت إلى النزاع العراقي- الإيراني، وهي ما تزال محطّ أخذ ورد ونقاش وجدل، وحروب ونزاعات، نحو أربعة عقود من الزمان، ولعلّ فصلها الأكثر مأسوية كان هو الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 التي تعتبر من تداعياتها عملية غزو الكويت العام 1990 وصعود موجة الإرهاب، وفيما بعد احتلال العراق 2003. أما المرتكز الثالث، فإنه على الرغم من أن الحرب وقعت دون مراعاة حتى بنود هذه الاتفاقية المجحفة، أو قواعد القانون الدولي، إلاّ أنني لم أنسَ حقوق العراق حتى وإن كان الجيش العراقي قد اجتاح الأراضي الإيرانية، فإدانة الحرب شيء والإشارة إلى الحل السلمي واللجوء إلى المفاوضات لاستعادة حقوق العراق، شيء آخر، كاشفاً ومناقشاً الدعاوى الإيرانية التي تردّدت حينها، فيما يتعلق برفض وقف الحرب واشتراط التفاوض إلاّ بإزاحة النظام العراقي، أو إقامة نظام إسلامي، وهو ما صرّح به سفير إيران في موسكو السيد موكري، ومطالبة إيران بتعويضات عن خسائر الحرب، قالت حينها أنها تبلغ 150 مليار دولار، واستفتاء أكراد العراق بالانضمام إلى إيران أو استقلالهم عن العراق، وكذلك وضع مدينة البصرة تحت ” السيادة الإيرانية” بصورة مؤقتة، واعتبرتُ تلك المزاعم والدعاوى استفزازية وغير قانونية وغير شرعيّة. وفي المرتكز الرابع دعوت إلى تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي، لا سيّما للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والترحيل والاغتيال والجرائم ضد الجنس البشري وغيرها، إضافة إلى جرائم الحرب، وذلك طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977(بروتوكولا جنيف الأول والثاني الصادران عن المؤتمر الدبلوماسي الدولي 1974-1977) واستناداً إلى ذلك أفترض أن البدء بشن الحرب وارتكاب عدد من الانتهاكات السافرة والصارخة، سواءً ضد الإنسانية أم جرائم الإبادة أم ضد الجنس البشري أم جرائم الحرب، يستــــحق الإحـــــالة إلى القضاء في ضوء القـــــانون الدولي طبقاً لما يزيد عن 15 وثيقة دولية وبموجب تهم أربعــــــة أساسية. وكانت تلك أول دعوة مسبّبة لإحالة صدام حسين إلى القضاء، ولكن من موقع قانوني وحقوقي، وتردّد حينها كثيرون من التعاطي معها، أما لاعتبارها “غير واقعية” أو “غير ممكنة”، أو هي أقرب إلى يوتوبيا أو حلم راود ذهن الباحث، ناهيكم عن أن منطقها القانوني كان من الصعب استيعابه، خصوصاً وأنه تجاوز بعض الأطروحات السياسية والشعارات العامة السائدة، لكن الباحث وضع حلم نورمبرغ عراقية أمامه وظلّ يدعو إليه. يتبع