قصص الموت السورية تلاحق اللبنانيين في عرض البحر وحكومة «بي الكل» خارج التغطية
زعماؤنا يتاجرون بنا.
«بي الكل» قالها منذ شهور بصراحة وشفافية مطلقة «إذا ما في عندهم أوادم بالدولة يروحوا يهاجروا»!
وهذا ما حصل فعلاً بعد أن ضاقت الدنيا بشعب هزمه الجوع والحاجة ولم يجد أثراً «للأوادم»!
شعب تستفزه لقمة عيش طرية ويطارده حلم بحياة تليق بالإنسانية لا أطياف لها في لبنان في ظل زمرة حاكمة آخر ما تفكر فيه هو الشعب المغلوب.
يتفاقم الوضع سوءاً يوماً بعد يوم. مظاهرات، واعتقالات، وانتحارات كثيرة، وانفجارات تمسح ما تبقى من معالم الحياة في المدينة.
لم يعد في اليد حيلة سوى أن يلجأ الشعب إلى نصيحة «بيّنا الكبير». فكما يقول المثل: خذوا الحكمة من أفواه المسنين!
ولكن الشعب اللبناني عنيد. حاول التمسك بأرضه وتأخر قليلاً في حزم حقائبه. تستاهلوا أكثر من الغرق! لقد حذركم الرئيس!
مركب الموت
هكذا انتشرت مؤخراً على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي قصة «مركب الموت» الذي انطلق من طرابلس في اتجاه قبرص. مركب عليه أربعون راكباً . رجال ونساء وأطفال ومسنون. كلهم يحلمون بغد آمن، وأرض أخرى أكثر رحمة.
بدأت الرحلة عند الفجر. تجمع المهاجرون اليائسون في سيارة واحدة، بعد أن باعوا كل ما يملكون ليدفعوا ثمن تذكرة المركب. جلسوا فوق بعضهم البعض حتى أصبحوا مكدسين كعلب السردين، علبة تنطح علبة. فتشعر وكأن السيارة ستتفسخ من الأطراف وستخرج منها الرؤوس والأرجل والأيادي من بين الأجزاء المخلعة.
استمرت رحلة الاختناق لوقت طويل. كان الركاب يتنفسون بالتقسيط. وكان كل واحد منهم يشعر أنه يسرق النفس من الركاب الآخرين. ربما أحدهم أشفق على الآخرين وحبس نفسه قليلاً كي يتشاركوا الهواء.
وصلوا إلى الشاطئ وصعدوا المركب. كانت الأشرعة تعدهم بضوء بعيد يشق غسق الليل. أخذ منهم المهرّب الطعام والشراب الذي كان في حوزتهم بعد أن وعدهم بأن يسلمهم إياها في وقت لاحق.
وصل المركب عرض البحر وتوقف بهم فجأة كما يشهق المقبل على الموت شهقته الأخيرة قبل أن يسلّم الروح.
لقد نفذ المازوت!
تقول امرأة كانت من الركاب الذين نجوا بأعجوبة: «الظلم موّت إبني.. إبني يا نور عيني يا ماما.. أنا يلي كبيته بالمي.. كان إبني عم يجوع شوي رحت موته وجوعته بالبحر.. لك لبنان آخ»!
هذه السيدة باعت بيتها وعفشها وكل ما تملك كي تبدأ حياة كريمة مع أولادها في قبرص.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.. أضاع السائق وجهته ووقف المركب في عرض البحر. لم يف المهرب بوعده وبقي الركاب من دون زاد.
بدأ سفيان، الطفل الصغير، يبكي ويصرخ من الجوع والعطش.. وكانت أمه تنظر إليه وهي تتمزق لحاله.. لا شيء معها لتسد به جوع الصغير.
في الناحية الأخرى من المركب فتحت امرأة حقيبتها وأخرجت منها بزر الكزبرة وأعطتها للأم لتبلّها بمياه البحر اعتقاداً منها بأنها قد تخفف من ملوحة الماء العالقة عليها.
ثم أعطتها للطفل كي يمضغها عله يرطب بها فمه الجاف. ولكن الملوحة لم تقل وزاد صراخ الطفل حتى كاد أن يشق السماء نصفين.
حاولت أم سفيان أن تستخدم الحفاضات حتى تصفي مياه البحر ولكنها لم تفلح وبقيت المياه تعاند الركاب بملوحتها.
تضيف الأم المنكوبة وهي تشهق بالبكاء: «في البداية مات قريبي وبعدها شهق إبني شهقته الأخيرة بعد عذاب دام ليومين.
كان هناك شاب على المركب شلح قميصه كي نكفن به سفيان الصغير وصلينا عليه معاً. تركناه معلقاً على الفلوكة لعدة أيام ونحن ننتظر أن يأتي أحدهم لإنقاذنا فنقوم بدفنه.. ولكن لم يأت أحد وانتفخت الجثة. فقام زوجي برميها في البحر كي لا تتعذب روح الطفل أكثر.
بقينا ثمانية أيام جياعا عطاشا. قفز عديد من الشباب في البحر ولا نعرف عنهم شيئاً حتى الساعة ومات آخرون. أما نحن فنجونا بأعجوبة بعد أن كنا جاهزين للموت..
لقد أنقذ «اليونيفيل» إبنتي وهي على آخر رمق. كانت تموت حين وصل مركب من المسعفين الأتراك أعادنا إلى الشاطىء. ركعت وتمسكت بأرجلهم وكم رجوتهم أن لا يعيدوننا إلى بيروت».
في طريق العودة إلى طرابلس يخرج والد سفيان عن صمته. كان يبدو مهزوماً تائهاً مذهولًا وهو يهمس أمام الميكروفون بصوت مرتعش: «ما في مسؤول دق تلفون سألني شو صار مع ولادك كأنن بسينات وماتوا بالبحر. إن كان من الدولة من السلطة ومن الزعماء.»
يا أبا سفيان، ما لا تعرفه أن للقطط في بلاد الآخرين أهمية وحقوقا. هناك من يحبها ويحزن عليها.
لا بلاد تشبه بلادنا. هنا القصص المؤلمة تتراشق يومياً دون أن تأخذ نفساً ومراكب الموت المتكاثرة تفرد أشرعتها في البحار وكأنها نسر عملاق يتباهى بأجنحته.
رحل سفيان ربما ليلتقي بآلان الكردي السوري وأصدقائه الصغار الذين رحلوا قبلهم.
لا تحزني يا أم سفيان… إن كوكبنا التعيس لا يليق بالملائكة!
ها هي الطيور تجتمع في سماء طرابلس الحزينة مهللة:
آلان قام حقاً قام… طوبى للأبرياء
سفيان قام حقاً قام.. طوبى للودعاء.
كاتبة لبنانيّة