وأكد الباحث في المرتكز الخامس على وقف القتال فوراً وسحب القوات العراقية من الأراضي التي احتلتها ووضع حدّ للكارثة بالجلوس إلى طاولة مفاوضات لإيجاد حل للمشاكل القائمة، وحدّد خريطة طريق وطنية تقوم على: إلغاء معاهدة 6 آذار (مارس) لعام 1975 باتفاق رضائي بين الطرفين. أو تعديل بعض نصوص المعاهدة المذكورة بما يحقق مصالح الشعبين الجارين. أو إيقاف العمل بالمعاهدة المذكورة واستبدالها بمعاهدة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار مبادئ القانون الدولي، بحيث لا تؤدي إلى أي إجحاف، وذلك باتباع الطريق الدبلوماسي على أساس اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات. وإذا لم تتم الاستجابة إلى تلك الخيارات، فيمكن اللجوء إلى المساعي الحميدة لطرف ثالث، سواءً كان ذلك دولة أم منظمة دولية، لخدمة الغرض الأول، واقترح الباحث دوراً للأمم المتحدة ودول عدم الانحياز للقيام بهذه المهمة، لا سيّما بعد أن تنسحب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، أما الطريق الثالث فقد اقترح الباحث اللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولي وهو ما نصّت عليه اتفاقية 6 آذار (مارس) ذاتها، كما نصّت على المساعي الحميدة. وكان يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بهذا الخصوص، بما يدّعم وجهات النظر المتعارضة أو يفسّر بنود اتفاقية 6 آذار (مارس) لعام 1975 وبكل الأحوال استبعاد خيار الحرب والحل العسكري، مؤكداً أن المساعي ينبغي أن تنصب الآن وبعد اندلاع الحرب واستمرارها إلى وقف القتال فوراً والبحث عن حلول سلمية تفاوضية وقانونية في الآن ذاته. أما المرتكز السادس- فهو استحقاق وطني عراقي يتعلق بحق تقرير المصير ورفض الدعاوى التي تريد تغيير النظام لمصلحتها واعتبار تلك المهمة خاصة بالحركة الوطنية وقواها، وهي مهمة حصرية بها وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الحرب. ويمكن مراجعة نصوص الكتاب، لاسيّما الاستنتاجات الأساسية التي وردت في فقرة تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي وما بعدها، بما فيها الخاتمة (النزاع العراقي- الإيراني، منشورات الطريق الجديد، بيروت، 1981 ص 66 وما بعدها، كذلك ص 72 وما بعدها). وحين تغيّرت مواقع القوات المتحاربة بالطبع فإن مواقف الباحث هي الأخرى تغيّرت، ولاسيّما بتغيّر طبيعة الحرب، وخصوصاً عندما انسحبت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية بعد هزيمة المحمّرة (خرمشهر) 1982 لكن الحرب استمرّت، بل وانتقلت إلى الأراضي العراقية، وخصوصاً في العام 1983 من خلال موجات بشرية للاجتياح وقضم للأراضي واحتلال مواقع ستراتيجية عراقية، حيث انتقل المشروع الحربي والسياسي الإيراني من مرحلة التلويح ليدخل مرحلة التطبيق. فبعد أن كانت الحرب عدوانية من جانب النظام العراقي، تغيّرت إلى عدوانية من جانب إيران، التي كانت ترفض وقفها بعد أن بدأها النظام العراقي بحسابات خاطئة، ولعدم إدراكه أن إيران خرجت لتوّها من ثورة وهي تعيش حالة ثورية حيوية، الأمر الذي دفعها للوحدة الوطنية بوجه خطر خارجي، في حين أن نظام بغداد دخل الحرب معزولاً وبلا حلفاء داخليين، وعلى نفس القدر تطلّب الاستمرار في إدانة الحرب باعتبارها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية ، والدعوة إلى وقفها فوراً والجلوس إلى طاولة مفاوضات لإيجاد حل سلمي ينسجم مع مصالح الشعبين الجارين. بعد صدور الكتاب في بيروت تم توزيعه على المكتبات، وأرسل عدداً من النسخ إلى اليمن (منظمة الحزب الشيوعي) وعدداً آخر إلى سوريا (منظمة الحزب أيضاً) وبعد نحو شهر احتاج الباحث إلى نسخ أخرى، فذهب إلى بيروت وطلبها من جهة النشر التي كان يمثّلها فخري كريم، فأخبره أنه لم يتبقَّ منها سوى بضعة كتب، ولكنها موجودة في المكتبات، وحاول الحصول على نسخ من عدد من المكتبات التي تم التوزيع عليها، وإذا به يتفاجأ بأن الكتاب أصبح نافذاً. في البداية اعتقدتُ أن هذا الموضوع الحسّاس قد تم تناوله لأول مرّة من جهة مثقف وأكاديمي يساري ولذلك كان الطلب عليه كبيراً، ولكنني اكتشفت أن ذلك اعتقاداً خاطئاً ، خصوصاً حين عرفت أن الأجهزة العراقية وبواسطة السفارة العراقية في بيروت قامت بشراء جميع النسخ، وما بقي لديّ من نسخ إنما جمعت بعضها من أصدقاء كنتُ قد أهديتها لهم في وقت سابق، وخطر ببالي عنوان صحفي جميل: المخابرات العراقية تشتري كتاب عبد الحسين شعبان. III مشهد شخصي في خضم المشهد العام: الوالدة ” نجاة حمود شعبان” لكي استكمل حكاية كتابي ” النزاع العراقي – الإيراني” الذي جلب أذى كبيراً لعائلتي ، ولا أرغب هنا في الحديث عن تفاصيل تتعلق بالدور الذي قمت به، لكي لا تفسر وكأنها ادعاءات، إذْ كثيراً ما نقرأ عن بطولات وتحدّيات كبرى، لا يدّعيها الباحث، ولا يريد بأي شكل من الأشكال تناولها، خصوصاً وأن بعضهم، ولا سيّما بعد الاحتلال العام 2003 سطّر ملاحم لا حدود لها، وإذا كان ثمة ما يُذكر فرصيده لا يعود لي شخصياً، بل للعائلة، وخصوصاً لوالدتي نجاة شعبان ووالدي عزيز شعبان، وأعتزّ بأنني ابناً لهذه العائلة المتحابّة، المتسامحة، الصبورة، المعطاءة ، المضحيّة. وجزء من هذا الحديث هو وفاء لرحيل والدتي ولروحها الطاهرة وعذاباتها التي لا حدود لها طيلة أكثر من 20 عاماً مثل الكثير من الأمّهات العراقيات المنكوبات، وهو وفاء لروح والدي الراحل وعينه على باب الدار وأذنه على الإذاعة ووجهه إلى التلفزيون على أن يسمع خبراً عن ” الغائب” غير ” المرخّص” بذكر اسمه إلاّ إيماءً، جئت على ذكر ذلك في حواراتي مع التميمي المنشورة في كتاب ” المثقف في وعيه الشقي- حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان ” إعداد توفيق التميمي، دار بيسان، بيروت، 2014. لقد صدر الكتاب في العام 1981 وباسمي الصريح، ولو راجعت الأسماء التي كانت تكتب في تلك الفترة ستجد أنها قليلة، بل وقليلة جداً، خصوصاً وأن الأسماء المستعارة مثل أبو فلان وأبو فلتان كانت ظاهرة شائعة وقد تكون لها مبرراتها، لا سيّما ما تثيره من احتمالات ملاحقات حكومية. وقد سبق نشري للكتاب أن كتبت مقالتين عن الحرب العراقية- الإيرانية في صحيفة تشرين السورية (شهر تشرين الثاني/نوفمبر/1980) أي بعد شهرين من وقوع الحرب، بالتوجّه ذاته، وأثارت حينها ردود فعل متنوّعة، لاسيّما معالجتها المسألة من زاوية وطنية وحقوقية. بعد بضعة أسابيع وربما أشهر وكنت قد عدت من بيروت إلى الشام التي كانت مسؤوليتي فيها، وإذا بي أجد ورقة تحت الباب تقول إن الرفاق في بيروت اتصلوا وطلبوا عودتك إلى بيروت فوراً، لأن والدتك وصلت إلى هناك، وقد توجست خيفة، وشعرتُ أن أمراً جللاً قد حدث وكنت أعرف مثل هذه الأساليب التي اتبعت مع بعض المعارضين على نحو محدود. وذهبت إلى مقر اللجنة المركزية (قرب السفارة السوفيتيية) وهو البيت الذي استأجرته باسمي للحزب، وأبلغت الرفاق في المكتب بالأمر، خصوصاً وأن الوقت أصبح متأخراً نسبياً. وفي اليوم الثاني تحرّكت بوقت مبكّر بسيارة من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى بيروت، ووصلتها قبل الظهر، وبعد أن توجهت إلى مكتب الحزب في بيروت علمت أن الوالدة في مكان قريب من “جمهورية الفاكهاني” التي كانت ملاذنا، وذهب معي للقاء الرفيقين فخري كريم وعبد الرزاق الصافي، وعندما قابلتها بكت بكاءً مرًّا وقد تحفّظت عن الكلام وعندما تحدثت كانت متردّدة، إلى أن طلبت منها ذلك، وقد قدمت روايتها التي عدت ودونتها ودققت بعضها بعد 20 عاماً. قالت بالنص: لقد اعتقلونا جميعاً بعد أن سكنوا في البيت معنا لمدة خمسة أيام، وكانوا يأكلون ويشربون معنا وبجيوبهم مفاتيح الغرف، لاسيّما غرفتك في الطابق العلوي، وصادروا جميع حاجياتك الشخصية، ولاسيّما المكتبة والشهادات والرسائل والأوراق وكل ما يعود لك بالكامل، وبعدها جاءت السيارات وحملتنا إلى المخابرات، (لا تدري أين؟ ولكنها تقول إلى الأمن) وكان والدك مريضاً ومتعباً، حتى أنهم حملوه مع فراشه، وقد استدعاني شخص لم أكن أعرف من هو، لكنهم قالوا أنه المسؤول، وذلك بعد مقابلات مع آخرين، الذين أخبروني أن قضيتكم يحلّها ” المدير الكبير”، وهناك جرى الحوار بين والدتي الحاجة نجاة شعبان وبين المسؤول الكبير. قالت لم أكن أعرف من هو إلاّ بعد مضي سنوات، وقد شاهدته على التلفزيون خلال محاكمته فصرخت: إنه هذا ولم يكن سوى برزان التكريتي. تقول الوالدة: قال لي: تقبلين ” إبنج” (ابنك) مع العجم (الفرس المجوس)؟ قلت له إننا عرب أقحاح، وهل سمعت أن أحداً في حضرة الإمام علي (رض) من العجم؟ ولدينا فرامين سلطانية كُتبت منذ نحو 500 سنة” ونحن سدنة الروضة الحيدرية -“السرّخدمة”، أي رؤساء الخدم، ونحن نتشرّف بذلك. قال: نعم نحن نعرف أنكم عرب، ولو كنتم عجم لرميناكم خارج الحدود وتخلّصنا منكم، قلت له: لا أفهم ذلك كيف يكون إبني عجمياً وهو عربي أصيل من نسل قحطان ومن “حِمْيَر” ولدينا شجرة تثبت ذلك. قال: أتقرئين؟ قلت له : نعم، فأخرج كتاباً “وردي اللون” عليه اسمك وأطلعني عليه، قائلاً: هذا ما كتبه ابنك وهو يؤيد العجم ضد بلاده. فخفت وسكتت! ثم واصلت حديثها معنا: قال لي: أتعلمين أن هذا الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ حوالي شهر؟ فسألناها ماذا قالت له؟ فقالت: سكتُ ولم أنبزّ ببنت شفة. قال: عليك الذهاب إلى بيروت، نحن لا نريد شيئاً منه. نحن نعطيه الأمان إذا أراد أن يعود إلى وظيفته في الجامعة فأهلاً وسهلاً، وإذا رغب في منصب سياسي فنحن نعده بذلك، وإذا لم يرغب في العودة فعليه أن يختار إحدى سفاراتنا لنعيّنه فيها، وإذا لم يفعل ذلك، ليعلم أن مصيركم جميعاً ” الإعدام”. قالت: قلت له، نحن لا ذنب لنا، إن ولدي كبير ولا يسمع إلينا أو يأخذ بنصائحنا، وأنا إمرأة كبيرة ولا أستطيع السفر والمجازفة في هذه الأوضاع بالذات، ولديّ أحفاد أنا مسؤولة عنهم، فنظر إليّ بشرز وقال عليك التنفيذ و”إلاّ” وكرّرها ثلاث مرّات و”إلاّ”، قلت له نحن نتبرأ منه، وأنتم حكومة فإذا أخطأ فيمكن معاقبته. قال: إذا لم يفعل ما طلبناه منه، فيمكن أن يكتب لنا ورقة يقول فيها أنه يتعهّد بعدم النشاط والكتابة ضد الحكومة، و”الاّ ” فإن مصيركم كما قلتُ لكِ.. ثم قال إن مصيركم بيده وهو من يستطيع إنقاذكم والحكومة رحيمة معكم. قالت: بكيّتُ وتوسّلتُ، وحينها انفجرتْ بالبكاء بصوت عالٍ، لكنه دعا أحد الذين دخلوا علينا، كما تقول: وقال له اعمل لها جواز سفر إنْ لم يكن لديها جواز سفر، وأجلب صوراً لها، وسألني هل لديك جواز سفر؟ قلت له نعم فقال أين هو؟ قلت له في البيت. أعادوني إلى مكاني حيث يتكدّس الأطفال وصراخهم وكذلك والدك ” الحاج عزيز شعبان” وأختك سميرة وزوجها فاضل الريّس وزوجة حيدر شقيقك. بعد ساعتين أو ثلاثة أخذوني إلى البيت وأحضرت لهم جواز سفري وبعد يومين سافرت ووصلت إلى بيروت. وقد زودّوني بعناوين لا أعرف لمن تعود وإن قرأت الأسماء، وقد وصلت إلى بيروت وبعد توجهي من المطار بالتاكسي إلى العنوان أوقفنا حاجز وبعد تفتيش أوراقي وجواز سفري، قالوا لي تفضلي انزلي، ونزلت وأخذوني إلى مكان فيه رشاشات ومسدسات ومسلحين، وقد سألوني عدّة أسئلة من أعطاك العناوين ولمن تريدين الوصول، كنت خائفة هل أخبرهم أم لا؟ لا أدري ولكنني قلت لهم جئت إلى بيروت للعلاج وأعطوني هذه الأسماء في بغداد لمساعدتي للوصول إلى الطبيب. وبعد نحو خمس ساعات جاءت سيارة وأبلغوني بالصعود إلى الأعلى حيث كنت تحت الأرض، وذهبت مع سائق ووصلت إلى مكان آخر فيه مسلحين أيضاً، ولكنني خفتُ أكثر وبكيت بصمت. سألني الحرّاس والذين استقبلوني فيما بعد لمن تريدين قلت لهم الأسماء التي لديّ، واتضح أنها أسماء تيسير قبعة وبسّام أبو شريف (من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)(هذا ما عرفناه بعد اطلاعنا على الأوراق التي لديها). وحسبما يبدو فقد كانت هناك أشبه بعملية تبادل مع الكتائب، فتم تسليم الوالدة إلى الجبهة الشعبية، ويبدو أن الجبهة الشعبية سلّمت مخطوفاً إلى الكتائب. وكانت المخابرات العراقية بعد مصادرة حاجياتي الشخصية، بما فيها صوري، قد وجدوا فيها ما يوصلهم لي في بيروت فأعطوها عناوين قبعة وأبو شريف وآخرين لا أتذكرهم حالياً، وكذلك عنوان مكتب بيروت وتلفون الذي كان مسؤولاً فيه فخري كريم. استمعنا إلى هذه القصة وكانت الوالدة تتوقف بين الحين والآخرلتقول” إنهم ينوون قتلك، عليك عدم العودة حتى لو أعدمنا”. اتفقنا على تنظيم موعد لزيارة طبيب لها، وأخذت معها بعض الأدوية ولا أتذكر إن كان الطبيب حسّان عاكف حمودي أو غيره ، (في مستشفى فلسطيني يعود إلى فتح) وقد عملنا لها حجزاً وهمياً في فندق وفاتورة حساب وهمية (مدفوعة لثلاثة أيام) وقد مكثت معها اليومين التاليين في بيت خاص مع آخرين، ثم اصطحبها أحد الرفاق إلى المطار (لا أتذكّره) لتوديعها، ولم أظهر معها في أي مكان باستثناء زيارة لمكان قريب في العمارة ذاتها أو شقة قريبة لا أتذكّر، بدعوة من عصام الخفاجي. اتفقنا معها على ما يلي: أن تبلغ الأجهزة أنني غير موجود في بيروت، بل أنها سمعت أنني في إسبانيا، أعيش هناك، وأنها ظلّت خلال الأيام الثلاثة في الفندق، وأنها راجعت طبيباً لمساعدتها وأعطاها أدوية وضعتها في حقيبتها اليدوية، وأنها مستعدّة وكذلك الوالد إن طلبوا منه التبرؤ مني علناً في التلفزيون أو في الجريدة ، وحتى لو قتلتني الحكومة فهي سوف لا تحزن عليّ إذا كان الأمر ضد الوطن.وتستدرك الوالدة الحاجة نجاة شعبان لاحقاً: أن الذي قابلني بعد عودتي هو نفسه الذي التقاني عند سفري والمقصود هنا ” برزان التكريتي” وعندما وصلت إلى الجملة الأخيرة، (أي حتى لو قتلتني الحكومة …) قال: إي نحن نقتل وراح تشوفين، ولكنه غيّر الكلام وقال: هل صحيح أننا نقتل، فقلت له أنتم حكومة ولكم الحق في معاقبة المخالفين أو الناس ضد القانون، فضحك وقال نحن نعطيكم فرصة أخرى، لكنكم تذكّروا: أنتم تحت مراقبتنا وأي شيء يصلكم من هذا “الابن الضال” أوصلوه لنا في الحال، وإذا أرسل أحداً يتصل بكم أبلغونا فوراً، وأعطانا أرقام تلفونات، وقلت له حاضرون وكل ما تريده الحكومة ننفّذه، وكنت أرتجف خوفاً. كنّا قد اتفقنا معها أنها بعد وصولها بعشرة أيام ولغرض الاطمئنان أن تكتب لنا رسالة وترسلها بالبريد دون اسم المرسل وهي موجّهة إلى “ياسين سعيد” وتحت رقم صندوق بريد، وفيها تبلغنا أن الوالد بدأت صحته تتحسن، وفي حالة زيادة الضغط عليهم تكتب أن صحته بدأت تسوء، وانتظرنا عدة أسابيع ولم تصل أية رسالة، وعندما سألت الوالدة بعد 20 عاماً عن الحادث، بعد مدّة الفراق الذي استمرّ بيننا، قالت لي ” ولله إنتو بطرانين” – إنتو تدرون شكو؟ أي أنكم بطرانين ولا تعرفون ماذا يجري في العراق؟ خلال السنوات الثلاث الأولى أو بعدها تعرّضت العائلة إلى ضغوط كثيرة واستدعاءات عديدة، وكان مسؤولو المخابرات والأمن وأمن المنطقة والمنظمة الحزبية في زيارات متّصلة للعائلة، لدرجة أن صلاتها انقطعت بالعالم الخارجي تقريباً، باستثناء زيارات الدكتور ناهض شعبان للاطمئنان على أحوالها، وكانت حجّته معه باعتباره طبيباً، وكان والدي شبه مقعد في المنزل بعد أن ترك العمل وأجبر نفسه على ” تقاعد مبكر”، فباع محلّه في سوق التجار (خان النبكه) في بغداد وعاش على بعض أملاكه وأملاك والدتي وما وفّره من مدّخرات، وكانت زيارات الأخوال متباعدة، وكذلك العم الوحيد المتبقي، وهي زيارات شبه خاطفة، وبرضى الطرفين، المُستقبِلْ والمُستَقبَل، والكل كانوا في حالة رعب شديد، ويتفهّمون وضع العائلة الخاص. عناصر مخابرات في مطلع العام 1985) ربما في أواخر شباط/فبراير) جاءت عناصر من المخابرات وطلبت من والدتي السفر إلى تركيا للاتصال بي من هناك ودعوتي لزيارتها في اسطنبول، لكن والدتي رفضت ولكنهم أرغموها على الرضوخ، فأخذوا جواز سفرها وثمن التذكرة منها، وجاءوا إلى المنزل بعد يومين ومعهم التذكرة وتأشيرة الدخول والجواز، وتذكّرت والدتي ما أخبرتها به في بيروت بأنهم ربما يكونون معها في الطائرة، وعليها لو حاولوا مجدداً عدم المجيء والتملّص من الأمر بكل الوسائل، وهنا تشجعت وصرخت وقامت بالخروج إلى الشارع، فأوقفها رجال المخابرات ومنعوها، وهي تصرخ بأعلى صوتها، واتصلوا بأحد المسؤولين من تلفون المنزل وأبلغوها بتأجيل السفر، وفي مساء اليوم التالي أصيب والدي بجلطة دماغـــية، لم تمهله طويلاً، وأظـــن أنه توفي في مطلع آذار (مارس) 1985.باختصار هذه هي قصة الكتاب التي دفعت العائلة بسببه ثمناً باهظاً ، وانتهز هذه الفرصة للقول أنني فخور بهذه العائلة: الوالد والوالدة اللذان تحمّلا بسببي آلاماً لا حدود لها، وأجدها مناسبة للاعتذار لهما، لأمر لم يكن لي يدُ فيه، كما لم يكن لي حيلة به، وهكذا هي السياسة في بلداننا وفي مجتمعاتنا العربية، وبالأخص في العراق الذي وصلت فيه العقوبة إلى الدرجة الرابعة، ناهيكم عن القتل على الهوّية، واستبدّ به العنف والإرهاب إلى درجة مروّعة. كنّا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام، لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى كوابيس لعوائلنا التي لا ذنب لها، ربما سوى لأنها عوائلنا. انتهى