قلق الروائي من قارئه… كالڤينو وأوستر ودوستويفسكي
يسمع الكاتب عبارات تأتي كتعليقات على نصوصٍ كتبها، روائية تحديداً، تتعلق بتفسير أصحابها للمكتوب، بتوقعاتهم لما كان يُتفرض أن يكونا مكتوباً، أو بعلاقة هذا المكتوب بمعارفهم وأمزجتهم وواقعهم.
لنتفق بداية على إمكانية أن يكون النص الروائي مفصولاً عن مؤلفه، فهو عملٌ مكتمل بذاته متى نُشر. وكاتبه لا مكان له، إزاء النص، سوى كعارف ـ ربما ـ أكثر من غيره بمعاني النص وسياقاته، يقدمها خارج إطاره، وبدون أن تكون له سطوة على قراءات آخرين للنص المكتمل. لكن كذلك بدون حاجة القارئ لاستفراد النّاقم/المنتقم بالنص بعدما أعلن الفرنسي رولان بارت «موت المؤلف» في كتابه «هسهسة اللغة».
من ذلك نأتي إلى موقع القارئ كباعث لقلق الكاتب (وما يزال حياً يَكتب) في تناول الأول لنص الأخير. يحاور الروائي قارئَه من خلال النص الواصل بينهما، أو للدقة أقول النصَّ المنفصل، بفعل القراءة، عن الأول المتصل بذلك، بالأخير. ولدى الكاتب، مهما كبر قلق يحوم حول القارئ الماسك بالكتاب، المستفرد به، المتأمل المُتَمتم أحياناً، عاقد الحاجبين غالباً، تركيزاً أو استياء، أو حتى استمتاعاً، متوقعاً ومؤوّلاً، وحاكماً كما يحلو له.
في روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء»، يكتب الإيطالي إيتالو كالڤينو، أن قارئته قرأت كتبه «فقط لتجد فيها ما هي مقتنعة به قبل قراءتها»، فكتبه «من خلال نظرتها صارت بالنسبة لي غربية عني»، يحاورها كالڤينو ـ الراوي – قائلاً: «أنا أنتظر من قرائي أن يقرأوا في كتبي شيئاً ما لم أكن أعرفه، ولكن يمكنني أن أنتظر ذلك فقط من أولئك الذين ينتظرون قراءة شيء لم يكونوا هم يعرفونه».
في سياق النص ندرك أكثر القلقَ الذي تسببه لكالڤينو، الكيفيةُ التي يمكن أن تتلقى بها القارئة روايته، متخوفاً من أنّها تقرأ بمعرفة افتراضية مسبقة. لا يبدو هنا كالڤينو منفصلاً تماماً عن نصّه، واستياؤه من أن تصير كتبه «غريبه عنه» بقراءات الآخرين يــُظهر قلقَه من قراءات مسبقة، إسقاطات جاهزة، يمكن أن ينفي بها القارئ النصَّ كما خرج عن صانعه، أو كما انفصل عن مؤلفه، فالقراءة هنا هي استخدام للنص وليس استكشافاً له، هو تكيّف النص مع القارئ وليس العكس، هو ابتلاع القارئ للنص وليس العكس.
قلقٌ آخر من القارئ يطرحه الأمريكي بول أوستر على شكل استياء، في سيرته «اختراع العزلة»، استياء من احتمالات قراءة ما للنص هي – كذلك- «ابتلاعية». يقول: «لو أن كاتباً روائياً، وصف هاتين الحادثتين المتعلقتين بمفتاحَي البيانو المعطلين، كان القارئ ليُجبر على لحظ ذلك، على افتراض أن الروائي يحاول قول شيء ما عن شخصياته، أو عن العالم». هنا يَقلق أوستر كما قلق كالڤينو من القراءة الاحتوائية للمنفرد بنصّهما، القراءة الاستملاكية المقوِّلة للنص ما تتوقعه، والمشْبِكة، لذلك، بين هذه وتلك في نص لا يقدم هذه وتلك بالضرورة كما اتخذتهما القراءة.
تُكتَب الرواية لتُقرأ، وانفصال صاحب الكتابة عن المكتوب/المقروء لا يكفي لإزالة القلق من انفراد صاحب القراءة به، ولا من لامحدودية مجالات التأويل في فعل القراءة، فهي ممارسة شخصية تفاعلية، مع خليط أمزجة القارئ ومعارفه، بحرية تامة له في افتراض ما قصده الروائي من هذه وتلك، بانياً على هذا الافتراض تشابكاته.
يكمل أوستر: «في عمل تخيلي، يفترض المرء (القارئ) أن ثمة عقلاً واعياً وراء الكلمات على الصفحات. في حضور المصادفات في ما يسمى بالعالم الحقيقي، لا يفترض المرء شيئاً. القصة المختلقة تتكون كلياً من المعاني. في حين أن القصة التي تخبر عن وقائع، خالية من أي دلالة تتخطاها». ما يعني أن قلقاً لدى المؤلف بأن قارئاً ما سينمح تفسيرات وأبعادا للنص، شابكاً المصادفات فيه بعضها ببعض، بعملية عقلية واعية، إنّه بذلك سيجعل النص «غريباً عني» كما كتب كالڤينو، ما ينفي حقيقة أن النص منفصل تماماً عن مؤلفه بالنسبة للمؤلف، وأن العملية النقدية الباردة في تلقي النص الروائي، كوحدة مكتملة بذاتها، بمعزل عن صانعها، لا مكان لها في الحرارة الناجمة عن عملية الكتابة/الصناعة الممتدة لسنوات، في الحميمية شديدة الذاتية التي خرجت أخيراً بهذا النص.
في روايته «الأبله» يقول دوستويفسكي على لسان إحدى شخصياته: «فلو كتب هذه القصة روائي لخرجت من بين يديه ترهات باطلة، وأموراً لا يصدق العقل أنها يمكن أن تطابق الواقع».
فنحن هنا أمام ادعاءين متقابلين: المؤلف القلق على «إساءة» فهم النص، والقارئ اللامبالي في مدى «حسن» فهم النص.
قد تحول القدرة المطلقة للقارئ في التأويل دون أن يكتب المؤلف القلِق ما يرغب بكتابته، وكيف يرغب، وقد يلغي أوستر صدفةً هنا أو هناك في النص، تفادياً لاحتمال تفسيرٍ أو تشبيكٍ ما من قبل القارئ، ما قد يغيّر في النص الإبداعي، في فعل الخَلق. لدى كالڤينو نلمس القلق ذاته، كأن النّص سيصير مكتوباً بحسب الاحتمالات النافية لتوقعات القارئ منه، وبالتالي اللاغية لاحتمال «خطف» القارئ للأحقية في النص، الذي سيسعى مؤلفه لئلا يكون يوماً «غريباً عنه»، فتكون الكتابة تفادياً، تراجعاً، تكون لعبة شطرنج.
حتى الروسي دوستويفسكي يقلق من قرائه، لكنه يذهب أبعد من رفيقيه كالڤينو وأوستر، فهو لا يقلق من توقعات مسبقة، كما يفعل كالڤينو، ولا من تفسيرات تشبيكية كما يفعل أوستر، بل من مطالبات شَرطية قد يفرضها القارئ على النص وهذا سابق حتى على فعل القراءة. فالقارئ المقلق لدى دوستويفسكي ليس مفسّر النص بما يحلو له، رابطاً «خبط عشواء» بين عبارات فيه، بل هو الرافض للنص أساساً، لعدم مطابقته الواقع.
في روايته «الأبله» يقول دوستويفسكي على لسان إحدى شخصياته: «فلو كتب هذه القصة روائي لخرجت من بين يديه ترهات باطلة، وأموراً لا يصدق العقل أنها يمكن أن تطابق الواقع». القارئ هنا يشترط أن يطابق الخيال الواقع، واقعه هو تحديداً، فلسنا هنا في حديث ذاتي يتعلق بمعارف القارئ وأمزجته، توقعاته وتفسيراته، بل في حديث موضوعي يصل إلى أساس الكتابة الروائية، أساس العمل الخيالي المعرَّف بموقعه المقابل لما هو واقعي. يكمل: «وقد تحدثت الجرائد عن هذه الجريمة منذ وقعت، فلو أن روائياً تخيل هذه الجريمة، لانبرى الناس الذين يعرفون حياة الشعب يصيحون قائلين مع النقاد: هذا لا يمكن أن يكون واقعياً».
قد يكون لكل كاتب عصره، وبالتالي مستوى قلقه، فقرابة مئة عام تفصل بين «الأبله» والكتابين الآخرين، ولذلك قد يبدو سؤال دوستويفسكي أبعد من سؤالَي رفيقيه، أبعد إلى أساس العملية الكتابية/القرائية للأدب، أو لنقل إن سؤالَي كل من كالڤينو وأوستر هما التطور الطبيعي في علاقة الكاتب بقارئه، العلاقة المتوجسة المتوترة، العلاقة الأقرب للندّية في لأيهما الأحقية في تفسير المقروء. هما المرحلة المتقدمة لسؤال دوستويفسكي، فالقارئ المطالب بأدب مطابق للواقع، قبل أكثر من قرن، هو ذاته القارئ المعاصر الأكثر تعقيداً من سلفه، هو الأكثر ليبرالية، فلا شروط له في ضرورة انطباق المقروء على واقعه، أي الانطباق الموضوعي، لكنه يحتفظ بحقه في التوقّع وكذلك التفسير الشخصي للنص، وهذا انطباق ذاتي لا يقل سطوةً.
الكل يريد، بعدما قتل رولان بارت المؤلفَ، الاستفرادَ بالنــّص، وهذا (لعمري) مقلق، بل مفزع.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا