عن زمن الحب والمقاومة في فلسطين ولبنان
هل صحيح أن سمة الشعوب العربية هي التأرجح المدمر بين الغرور الدافع الى التمرد البدوي والمثالية الفجة من جهة، واحتقار الذات الدافع الى الاستخذاء والخنوع للعدو من جهة أخرى، مما يجعل تسليم امرنا الى القضاء والقدر والقبول بالأمر الواقع على هناته حلا وحيدا لوضعهم المصنف سياسيا بالتعقيد؟
هل بات اليأس هو الكفاف اليومي للشعوب العربية، كما كتبت الشاعرة والاستاذة اللبنانية نادين عطو، مشيرة في اعقاب صدمة تفجير لبنان التي أذهلتنا جميعا، الى شعب « نزلت عليه الويلات كلها في وقت واحد. وقد لا تكفي كلمة «محزن» لوصف الوضع فيه؟ فما يحصل يدمي القلب، والقصص التي تصلني تشعرني بالانهزام والالم. ورغم أنني أقضي معظم الوقت في المساعدة ولو عن بعد، ادعو الله ان يزيل الغمة».
ونحن نخطو متعثرين، مثقلين بحمل صخرة الأسى، يصاحبها الاحساس بالذنب لأننا لا نفعل ما يكفي، في ليل توحي ساعاته المتمددة باللانهاية ، يتخذ دعاؤنا أشكالا متعددة. تشير اليها علامات طرق، نراها على الرغم من الظلام وصعوبة المسار لكي نواصل السير. قد تكون علامات الطرق أحداثا نستخلصها من الذاكرة فتشحننا بقوة الارادة أو كتبا عن شخصيات تاريخية توحي لنا بديمومة الأمل أو شخصيات تعيش معنا، في ذات الليل المظلم، لكنها قادرة على الصمود والرؤية بضياء القلب، فيتسلل الينا الضوء من خلالها. المخرجة مي مصري هي واحدة من تلك الشخصيات. وإحدى العلامات التي استوقفتني، أخيرا، في طريق القلب الى لبنان وفلسطين، كتاب يلخص ويوثق ثلاثين عاما من انجازاتها وهو بقلم امرأة تضاهيها نضالا. « الحب والمقاومة في افلام مي مصري» عنوان كتاب الصحافية والناشطة البريطانية المعروفة فكتوريا بريتن.
كيف نقرأ السينما؟ كيف يتم تحويل المرئي الى التدوين؟ كيف يحافظ المدّون، ناقل الصورة الى الورق، على فرادة وتمايز الفن الجامع لكل الفنون، بالاضافة الى التجربة الحياتية، اذا كان صانع الفيلم ، يتوخى، كما تفعل مي في افلامها الوثائقية، الجمع بين الفن والسياسة معا ؟ ليست مهمة سهلة. الا ان فكتوريا تمكنت من توثيق الأفلام بموضوعاتها، وخلفيات اخراجها، واسماء المشاركين فيها وفي الوقت نفسه اضاءة الجوانب الفنية والابداعية المميزة لأعمال مي التي يراها المشاهد خيطا ملونا في نسيج الحياة اليومية للبلدين . نسيج تغزله بحرص وشغف وحماس من يحب الحياة. وحب الحياة والتشبث بالامل هو الذي يرافقنا طوال صفحات الكتاب وطوال افلام مي سواء التي أخرجتها لوحدها ، او صحبة زوجها ورفيق حياتها الراحل جان شمعون ، ولعل هذا واحد من الاسباب التي تجعلنا نلتقي بالشاعر الفلسطيني محمود درويش ونحن نتصفح فصول الكتاب التي نتعرف من خلالها لا على افلام وحياة مي فحسب ولكن على حقبة نضال بكل تحدياتها: تحت الأنقاض، زهرة القندول، بيروت: جيل الحرب، أطفال جبل النار، أحلام معلقة، حنان عشراوي: أمران في زمن التحدي، يوميات بيروت، 3000 ليلة. مع اصوات الأسيرات المتحديات في معتقلات الكيان الصهيوني، والأطفال رافعي اشارة النصر، وعلى ايقاع روح النضال والمقاومة في فلسطين ولبنان ، نسمع درويش وهو يردد « على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة».
تُبدع مي مصري في زرع الأمل، وتوثيق مقاومة الفرد العادي وإنسانيته مقابل لا إنسانية المحتل ووحشية الطغاة
ان رواية مي مصري السينمائية عن الإنسان من خلال النساء والاطفال، عن القضية الفلسطينية، عن الحرب ومعنى السلام المرتبط بالعدالة ، عن حفظ الذاكرة و» خوف الغزاة من الذكريات» وتوثيق حالات التعذيب لئلا تتكرر، والبحث عن المختفين ، وأحلام وطموحات الأسيرات في سجون الاحتلال الصهيوني، بحثا عن الحرية واسترداد الارض، عن علاقة الفلسطيني بالارض، ارضه التي يحملها في وجدانه اينما كان. في سرديتها السينمائية ، بهدوء الراوي الواثق من نفسه وايمانه بقضيته، بابرازها انسانية نضال الفلسطيني ومقاومته، متعددة المستويات، وقدرتها على تقديم الواقع الحي بتفاصيله الصغيرة، تفكك مي مصري سينما المحتل العنصري المبنية على التزوير التاريخي، وتشويه صورة الفلسطيني ومحو وجوده. بهذه الطريقة ، وهي تروي قصص الحب والحيرة والتشتت وحكايات الطفولة والسجون والتعذيب ، تُبدع مي مصري في زرع الأمل، وتوثيق مقاومة الفرد العادي وإنسانيته مقابل لا إنسانية المحتل ووحشية الطغاة.
وتنبع أهمية الكتاب، أيضا، بذات الطريقة غير المباشرة، التي تبدع فيها مي أفلامها، من كون فكتوريا بريتن هي المؤلفة. حيث تشكل تقاريرها كصحافية مختصة بالشأن الافريقي والشرق الأوسطي، على مدى عقود، وكتبها ، وآخرها « النساء المنسيات في الحرب على الإرهاب» وكونها من مؤسسي واللجنة التنفيذية لجائزة افضل كتاب عن فلسطين باللغة الانكليزية، محطة تزخر بالتضامن اليومي الدؤوب للشعب الفلسطيني لاستعادة وطنه المحتل.
ويأتي اختيارها الكتابة عن سينما وحياة المخرجة الفلسطينية مي مصري امتدادا طبيعيا لإنسانية ما تؤمن به ، ورغبتها في توثيق الواقع اليومي والنضال من أجل العدالة الذي ميز حياة جيل بأكمله، والاكثر الحاحا هو ضرورة عدم السكوت ، خاصة في هذا الوقت المُهدد باليأس، والظلام السياسي الحالي وتقدمه في خلاصة الكتاب بأن شعرية وغنى سينما مي يكتسب اهمية قصوى ونحن نراقب ما يحدث في فلسطين بعيدا عن القانون الدولي والانساني، حيث استهداف الشباب وتشويههم لمشاركتهم في مظاهرات غزة، وسنوات الحصار الجائر عليها، ووحشية المستوطنين المتسعة في ارجاء فلسطين وعنفهم ، خاصة ، ضد النساء والاطفال. ولا ننسى جدار الفصل العنصري ، واعلان الولايات المتحدة الامريكية القدس عاصمة للكيان الصهيوني، والاعتراف بالجولان جزءا منه، واستقطاع الدعم لمنظمة الاونروا مما يعني العقاب الجماعي لجيل المستقبل من خلال حرمانه من حق التعليم. وهي تلخص لنا ما يعانيه الفلسطيني ، يوميا، تحفر فكتوريا ، في أذهاننا، الصورة الإعلامية التي تركز عليها اجهزة الإعلام لتغطي آلة القتل اليومي المستهدف للفلسطينيين ، ولترسخ صورة القوة الامريكية – الاسرائيلية متجسدة بايفانكا ترامب وزوجها جارد كوشنر، وهما بأبهى حلة، مبتسمان اثناء افتتاح السفارة الامريكية الجديدة في القدس المحتلة.
كاتبة من العراق