من يصنع المتملقين: الطمع أم الولع بدخول محراب الغالب؟
إذا كانت الغلبة من نصيب الأقوى، فالتبعية ستكون دائماً لصالح الغالب حتى لو كان ديكتاتوراً، وعليه، فالبعد الأخلاقي والإنساني للقضية ليس محط أنظار الرعية ولا يدخل في حساباتها، وهي تدرج اسمها على قائمة التابعين أو المؤيدين، ما يهمهم هو الإعلان عن اسم الغالب الذي سحق الخصم ونال لقب البطل الأوحد، حتى لو كان الخصم يحارب لصالحها وتحقيق مكتسباتها.
المفارقة الأخلاقية
أما المفارقة الأخلاقية، أنه وأثناء النزاع، تقف الرعية على مسافة أمان من كلا الطرفين، وتحرص أثناء عملية المتابعة، على تجميد ملامح وجهها وكبت حنجرتها عن أي صيحة تأييد قد تخرج عن طريق الخطأ، فإعلان المواقف قرار أحمق لا يغيب عن الرعية حتمية إخفائه حرصاً على سلامتها الأمنية والجسدية.
ولا بد من الوقوف على حقيقة أن تحفز الرعية الضمني على سحق الطرف الذي تسبب في مظالمها وخنقها، لا يشكل دافعاً كافياً لحسم موقفها وتحديد مكانها في مجريات العراك، فما في القلب، يبقى في القـلب حتى تـعلن النتـيجة وتحـسم نتـائج المعـركة.
وهنا يأتي دور المفارقة الأخلاقية الثانية، فالرعية لا تريد خوض معركتها، ولكن حين يأتي متبرع لخوضها بالنيابة عنها، تدخل في عالم من التصورات الوردية والملاحم الخيالية، وتوقع معه، ومن دون حضوره على اتفاقية بالحبر السري تنص على «أن المكسب بيننا، والخسارة عليك».
لقب البطولة
هذا الشرط الشاذ للشراكة في حالتي المكسب والخسارة، وهذا الانتظار الجشع لسقوط تفاح الانتصار طازجاً من دون النضال على إسقاطه، يعكس سقطة أخلاقية أخرى من سقطات الرعية، تتجلى في أبشع صورها، أثناء تهافتها على التفاح المرمي أرضاً، بغية تلقف أكبر قدر ممكن منه. وإن تجرأ من حارب لإسقاطه على انتقاد جشعها، تجرأت الرعية نفسها على انتقاد مطامعه «لنا الحق في الثمار كما لك الحق في لقب البطولة» وإن تجرأ أكثر على مساءلتها عن سبب التقاعس في مشاركته النضال، تعجبت من استغرابه وقالت «أنت من اختار المواجهة ولم نطلبها منك».
أما المحزن، فهو إدراك المناضل، الذي اعتلى غيوم حلم مشروع، أن الوطن ليس توأمة بين الشعب والأرض وإنما هو توأمة بين السلطة والانتفاعية، والمخزي، أن من حارب لأجله لم يحارب من أجل كرامته.
ومع تقدم وتيرة العراك بين طرفي النزاع، تبدأ عيون الرعية بالتوجه إلى صاحب الضربات الأكثر، فكلما انهال على خصمه كلما رجحت كفة الميزان لصالحه وتغيرت البوصلة النفسية والأخلاقية والعقائدية للمتفرجين، مع الاحتفاظ بموقف الشاهد الصامت حتى إشعار آخر.
وتقترب المعركة من نهايتها، وتذهب الغلبة بطبيعة الحال للأقوى، وتذهب الجماهير بحكم الانتفاعية للغالب، أما عن مصير المغلوب، هو الجحيم سواء على يد الغالب أو النبذ من مجتمعات الرعية.
وتأتي الخطوة الثانية، بعد القضاء على الخصم، بالاحتفالات، فيأمر الغالب بفتح باب القلعة لدخول المهنيئئن، ليتوافد الانتفاعيون على طاولته، ويصبوا الكؤوس ويرفعوها في صحته مرددين أهازيج انتصاره على المغلوب، الذي كان لوقت قليل مضى بطل أحلام يقظتهم.
قصائد الشعر
ويتبارى المنتفعون في نظم قصائد الشعر لمدح جرائمه، التي تأخذ اسم بطولات بعد حسن النتائج لصالحه. الكل يصبح شاعراً في مدح الغالب، فنظم الرياء على وزن النفاق، مهارة مجانية لا تحتاج إلى صقل أو موهبة، المطلوب فقط هو عدم التعاطي مع المغلوب والإيمان باستحقاق الغالب لتحوز على لقب شاعر البلاط. وفي زحمة التطبيل والتأليه، يوشوش الغالب مساعديه بضرورة توسيع رقعة مائدته: «علينا ان نحضر طاولـة أكبر، فالمـحبون كثر».
وحين تفرغ الكؤوس وتمتلئ البطون، يعود الوصوليون إلى بيوتهم مفعمين بنشوة دخول قلعة الغالب، فالنفس البشرية «تعتقد الكمال في من غلبها» ودخول عالمه، ليس سوى إقرار غير مباشر على وجود شبه بين الضيف والمضيف.
أما الغالب، فلا تغمض له عين، لا من الخوف على أمنه، بل من نشوة العظمة. إنه يعرف أن الرعية المنتفعة تقف وراء ظهره كالسيف أكثر مما يقف حراسه الأمنيون، فبقاؤه يعني ضماناً لمصالحها ومصلحة المنتفع طاولة قمار قد يقايض عليها ماء وجهه شرط ألا يخرج خالي الوفاض من خزنة الغالب ولو كانت مصنوعة من عظام شعبه.
أجل، ففي عالم يمثل فيه أتباع السلطة أضعافاً مضاعفة من أتباع الوطن، لا يسبب لقب مجرم حرب أي انتقاص للغالب، لا بالعكس، فما كان في عرف اللغة السياسية مذمة، هو اليوم تبجيل وترهيب، ومن كان في عرف الحكم الأخلاقي جلاد، هو اليوم بطل اسطوري، ولأن العامة على دين ملوكهم، فأبجدية الأخلاق واحدة، يحومون فوق الدماء و ينفرون من الطيران في السماء، التحليق خيانة، و الطاعة للغالب إيمان، ومن حارب لأجلهم كافر مطرود من الجنة.
كاتبة من سوريا