رحلة لقتل الحنين .. وسط غياب الجدوى والمعنى للوجود !
إتصل الصديق خالد مروان من مكان إقامته في لندن عبر المسنجر لتهنئتي بمناسبة عيد ميلادي ، كنت وقتها قد رجعت من رحلة الى العراق بعد فراق دام 25 عاما ، وحين وصلت خذلتني دموعي عند لقائي بالعائلة ، لم أصل في حرارة مشاعري الى درجة البكاء والمشاركة بمستوى درجة العواطف العائلية ، مؤكد ليس بسبب قساوة القلب ، لكني كنت قد تعبت وتقلصت طاقتي على الحياة ، كانت رحلة لقتل الحنين الى وطن مسقط الرأس الذي أُبتلينا به وتعذبنا بسببه نحن أبناء الطبقة الفقيرة، فقد إكتشفت ضآلة قيمة وطن مسقط الرأس وما يحيطه من خيالات وأوهام ، وطن ولدنا فيه دون إختيارنا ، وكان سجنا وعذابا لنا ، وجدت في عائلتي ثلاث من أشقائي معاقين وجالسين في البيت بسبب المرض ، وشعرت بخسارة فرحة زهو الشعور بالأخوة وأيضا أحسست بالعجز عن تقديم المساعدة لهم ، وكنت أمام خيارين: إما البقاء معهم وتدمير نفسي التي سيحطمها الهم العائلي والفقر ومجموعة الأمراض التي أحملها ، أو العودة الى أميركا والحصول على العلاج الطبي الجيد وفرصة الموت المريح دون ألم ، والتمتع براتب الضمان الإجتماعي الذي أنقذني من الفقر بسبب عدم قدرتي على العمل ، وبما ان الإنسان كائن أناني حسب قناعاتي .. فإن أنانيتي أيضا قد رجحت خيار العودة الى أميركا التي اختبرت حبي وإنتمائي لها هناك في العراق وتأكدت ان علاقتي بها تخطت إستفادتي الشخصية منها الى إيماني حقيقي من ان أميركا هي تجسيد لآمالي وطموحاتي في الوطن الحلم .
بعد تلك الرحلة لم يتبقى من العراق في نفسي غير الإلتزام الأخلاقي نحو الوطن و الناس الذين يعيشون فيه وواجب مشاركتهم أوجاعهم .. فيما بعد تطورت رؤيتي السياسية وأصبحت مقتنعا بإن إبتكار فكرة الأوطان من قبل البشر هي فكرة خاطئة ومخزية للضمير الإنساني ، ( فالوطن هو نتاج فكرة أنانية وعنصرية بحيث مجموعة من البشر تحتكر الثروات وقطعة من الأرض تضع لها الحدود و الموانع بين المجاميع البشرية الأخرى ) لا أعرف إن كانت توجد طروحات فكرية سبقتني في الحديث عن هذه الرؤية من منظور إنساني معرفي وليس أيديولوجيا ، وطبعا أنا ضد فكرة الأممية الشيوعية ومفهوم الأمة الإسلامية أو القومية وسائر الأيديولوجيات .. فالبشر بما أنهم شركاء يعيشون على كوكب الأرض يفترض بهم لو كان أخيارا عقلاء إنشاء نظام عالمي عادل للجميع يوزع الثروات على كافة سكان الأرض ويفتح الحدود بينهم ، لكن (( على من تقرأ مزاميرك ياداود )) والإنسان في أصل تكوينه كائن أناني شرير لهذا فشل في تحقيق العدالة .
– (( بمناسبة عيد ميلادك كيف ترى الحياة .. هل لها معنى ؟))
سألني خالد مروان .. وهو يعرف إهتمامي المبكر من حياتي بالأدب والفكر الوجودي وحالة الصراع التي كانت تنمو في داخلي في غفلة مني بين قناعاتي الدينية وبين طروحات الوجودية حول : الجدوى والمعنى للحياة ، كانت ردة فعلي الدفاعية المحتمية بالقينيات الدينية والأفكار الجاهزة تمارس عملية قمع للفكر النقدي التحليلي على مستوى الشعور ، ولم أكن اعرف انها مجرد طمأنينة وهمية زائفة ، فقد كانت تجري في مكان ما من مناطق اللاشعور عمليات نمو وتبلور لحياة فكرية أخرى تنتظر فرصة الظهور الى السطح ، بعد بلوغي الخمسين من العمر إنتبهت بفضل الأنترنت وعن طريق الإطلاع على الرأي الآخر المخالف لقناعاتي الى خطورة تشريع سبي النساء – ملك اليمين في الأديان ومن المؤسف في الماضي كنت أمر على هذا التشريع بصورة عابرة من دون فحص نقدي من منظور قيم العدالة وحقوق الإنسان ، كنت مثل جميع المتدينين أعيش تحت سطوة المعتقد الذي أغلق أبواب الفكر والمساءلة ، وتشريع السبي ورد في الكتاب المقدس والقرآن ، ففي العهد القديم سفر التثنية شرع هذا الأمر وإدعى الكتاب المقدس ان الرب يأمر المحارب المنتصر بأخذ المرأة سبية وحلاقة شعر رأسها وتركها جالسة خارج البيت عدة أسابيع ثم يتم إغتصابها وإستعبادها للأبد ، وفي القرآن شُرع ملك اليمين بأعداد مفتوحة بلا نهاية وسمح بأن تختطف المرأة من بين أطفالها بعد ان يكون قد قُتل زوجها وأبيها وأخوانها وعشيرتها في المعركة ، تؤخذ المرأة رغما عن إرادتها حتى لو كانت غير مشاركة في المعركة ، وتصبح سبية تغتصب دون عقد قران ، وتبقى طوال حياتها مستعبدة من دون ذنب !
إستفقت هلعا على بشاعة تشريع سبي النساء ، وشعرت بالعار من الإنتماء الى دين يسمح بهذه الجريمة الهمجية ، ثم تواصلت إنهيارات دفاعاتي وتبريراتي الدينية أمام أصوات انفجارات المفخخات وقطع الرؤوس وغيرها من جرائم الإرهاب .. وتحطمت المعاني الزائفة التي زودني بها الدين ، وشعرت لأول مرة اني يتيم حقيقي بعد إنقطاع الإتصال اليومي مع الأب الرمزي : الله الذي كنت أتعلق به راجيا متضرعا وآملاً ومواسيا نفسي في لحظات الضعف انني أتمتع بحمايته وحنانه .. عشرات السنين من بناء هيكل الإيمان بالقناعات المعززة بكم كبير من قراءة الكتب الدينية … تهاوى الهيكل وأصبحت حائرا معذبا ، لكني كسبت إحترام عقلي وإصراره على رفض التسليم والاقتناع بالفكر البدائي الذي يطلق عليه تسمية الأديان ، وبدأت من جديد أفكر في الوجود والبشر والموت متخليا عن التفسيرات الجاهزة .
– (( تخلصت من أوهام المعنى بعد ترك الأديان عزيزي خالد )).
– (( ألا يوجد معنى للحياة في مكان آخر في الواقع الموضوعي أو العالم الإفتراضي التصوري ؟))
كان في داخلي صوت بوذا أسمع صراخه (( الحياة شر )) وورطه في أصل وجودها ، .. لكن بوذا هو الأخر سقط في شرك أوهام الحصول على الحرية بعد التخلص من إستعباد الحياة ولم ينتبه أننا سنظل ندور داخل سجن إسطبل هذا الوجود ، ليس هناك حرية في هذا المعتقل الكبير ، وسنواصل السير مرغمين نحو حتفنا بإتجاه الموت .. والمعنى الوحيد الذي بإمكاننا صنعه هو الدعوة والعمل على نشر الخير والعدالة ومحاربة الشر من أجل جعل الحياة في مملكتنا الحيوانية مريحة أثناء رحلتنا من الولادة وطوال فترة إنتظار الموت !