السياق الياباني في رواية “كازوو إيشيغورو” ( بقايا النهار )
تتناول المقالة رواية كاتب إنكليزي من أصول يابانية من وجهة نظر السياق القومي. يكمن التصور الأساسي في كون الرواية التي يسميها النقاد الرواية «الأكثر انكليزيةً» من روايات الكاتب تتضمن في الواقع معاني لا تنكشف إلا من خلال مقابلة نص الرواية مع الثقافة اليابانية.
غدت رواية كازوو إيشيغورو لأكثر من مرة مادة للنقاش في أوساط النقد الأدبي المحلي. يسمى هذا النتاج في التعريفات المروجة للكتاب في الإنترنيت الرواية «الأكثر انكليزية» من بين روايات الكاتب. وعندما يقيمها النقاد بنوع من الحذر يتساءلون إن كانت هذه الرواية فعلاً تجسد «الروح الإنكليزية»، كما تبدو للوهلة الأولى. فمثلاً ي.تسوكور تقول «ليس محقاً تماماً من يقول، في سبيل المثال، أن في “بقايا النهار” النص يعكس “الروح الإنكليزية” الحقيقية والتحفظ المتأصل في بلاد الجزر البريطانية. والأرجح أن الأسلوب موجه لإظهار بقايا هذه الروح في البطل ولإعطائنا تصور عن وجهة نظره التي عفا عليها الزمن»[1]. تحاول يلينا بيلوفا إظهار أصالة روايات المؤلف الياباني من خلال مقارنة رواياته بنتاجات ايان ماكيوان [2]. وفي الوقت الذي تشير فيه أولغا سيدوروفا الى فهم إشيغورو العميق لظاهرة الروح الإنكليزية فإنها تقول إن هذه الروح «تنال في رواية كازوو إيشيغورو تقييماً مزدوجاً، وهذا يحدث بالطبع أساساً على حساب الرؤية المزدوجة للمؤلف، والنظرة في وقت واحد من الداخل ومن الجانب»[3].
واستناداً الى المقولة الأخيرة سنتناول خصوصيات موقف المؤلف حيال العالم الذي يصوره مع الأخذ بملاحظة أولغا سيدوروفا عن تزامن الموقف «الخارجي» والموقف «الداخلي» (وخلافاً للكثيرين من الباحثين نعتقد إن السيرة الذاتية الشخصية لإيشيغورو وآراءه حول دور تاريخ بلده لابد أن تؤثرا على الرواية «الأكثر انكليزية» من سائر روايات الكاتب).
يمكن تحديد الموقف «الداخلي» على انه موقف البطل الذي تهيمن وجهة نظره على السرد. الراوية – ستيفينس كبير الخدم عرَّفه الباحثون «مُحَدِّثاً لا يُعتَمَد عليه» [4: 20 [. يتجلى الموقف «الخارجي» الذي هو موقف المؤلف بالبناء الخاص للنص وبمزج «الزيادات» و«الثغرات» النصية التي تخلق الإنزياحات بالمعنى المحدَّدة لتشتت «الروح الإنكليزية» التي يعلن عنها ايشيغورو بإنكليزية أصيلة. وهذا يخلق لدى القارئ إحساساً داخلياً بعدم تناسب ما يعلن عنه الراوي مع ما يُعَدّ «رسالة» من المؤلف للقارئ. وقد لاحظ العديد من الباحثين وجود هذه الخاصية الأسلوبية. فمثلاً تقول أولغا جويمايلو «جميع روايات الكاتب مبنية على اللعب بالكتمان – فالرواة يجيدون تحرير “ذكرياتهم”» [4: 20] .
يمكن ان نقول ان من بين الزيادات الأكثر وضوحاً هي النقاشات الدائمة للراوية في الموضوعات «الفلسفية» (حول العظمة والكرامة) والموضوعات «الحياتية اليومية» (حول طرائق تنظيف فضيات السفرة). ففي سبيل المثال، النقاش حول العظمة يسبق التأكيد على ان العظمة – هي ميزة أساسية للطبيعة الإنكليزية: «مهمٌ هنا صفاء هذا الجمال وسكينته. وكأن الأرض نفسها على علم بجمالها وعظمتها ولا ترى ضرورة للإعلان عنهما بصوت عالٍ» [5]. يجري في النص بشكل مباشر انزياح للمعاني، إذ تتطابق العظمة والسكينة. إن ربط مثل هذا الحكم على الطبيعة مع اسم «بريطانيا العظمى» والانتقال الى النقاش حول كبير الخدم «العظيم» يكشف عن ربط لمفهومين يناقض أحدهما الآخر، ويعطي الحق المشروع بإشراك الذين يتناسب موقعهم المتواضع مع تواضع المنظر الطبيعي الإنكليزي بعظمة بريطانيا كلها. وهذا الانزياح غير معهود البتة في الثقافة الإنكليزية وموقفها الصريح من الإقرار بالدور الحكومي للأرستقراطية فقط، وغيره من الأمثلة الأخرى في النص يمكن تفسيره بتغييرات في عقلية الإنكليز أو بخاصية ذهنية مادة السرد، وربما يكون دليلاً على دمج سمات نظام آخر من التصورات في السياق «الإنكليزي».
وفي الوقت نفسه تكشف نقاشات ستيفينس حول الطبيعة واحدة من أكثر «الثغرات» وضوحاً في السرد. وبهذا الصدد يمكن ربط رواية اشيغورو بنتاجات أخرى من الأدب الإنكليزي ذات محتوى مشابه، أي بسلسلة ب.غ.وودهاوس (Pelham Grenville Wodehouse) حول كبير الخدم جيفيس والأرستقراطي الأخرق بيرتي ووستر الذي «تنتشر» بثبات إشارات انتقادية إليها في رواية ايشيغورو كلها، والتي تبدو في حوار ساخر مع هذا النتاج. إنَّ ستيفينس في نقاشاته حول كرامة كبير الخدم يذكر بأسلوب سلبية السادة الذين يتباهون «بالمعلومات التي يمتلكها» كبير خدمهم: «في أحدى تلك الحالات، كنت أنا الشاهد – إذ جرت العادة أن يُستَدعى كبير الخدم بحضور الضيوف وتطرح عليه أسئلة عشوائية مثل “مَن فاز في سباقات إبسوم في سنة كذا وكذا؟” كما لو أنه ليس خادماً بل خبيراً عارفاً من مسرح منوعات» [5].
إن البيئة الإنكليزية بما فيها الطبيعية في سلسلة وودهاوس، كما هو الحال في معظم النتاجات الإنكليزية من هذا الصنف، تتنفس حرفياً من التاريخ القومي والثقافة القومية. فكل بلدة وكل غابة أو تل تذكِّر الإنسان الإنكليزي الأصيل بالماضي القومي أو ترتبط بالثقافة الشعرية القومية. ووصف المكان والحوارات عند وودهاوس، كما عند الأكثرية من مؤلفي القرن العشرين مليئة بالإشارات الى الثقافة القومية. فلو تحدث بيرتي ووستر عن المناظر الطبيعية، يفعل ذلك استناداً الى الشاعر الانكليزي المخضرم ر.هيبير: «لكنكم تعرفون إنَّ كل هذه المناظر التي تداعب العيون لا جدوى منها في المكان الذي فيه إنسان بغيض» [6: 6]. وعندما يدور الكلام عن العلاقات فالاستناد يكون الى شكسبير: «واضح إن الشخص عاشق شأنه شأن أربعين ألف من إخوته» [6: 28].
الوعي في رواية إيشيغورو معزول تماماً عن هذا الوعي القومي «المشترك» وليس فقط عن السياق الثقافي بل والتاريخي أيضاً، الذي قد يفسر أحياناً بانتمائه الى فئة سفلية وهذا يناقض رغبته بالانتماء الى التاريخ الكبير وأن يكون أقرب من أولئك الموجودين «في محور العجلة العالمية».
إن غياب السياق الأدبي والتاريخي يكتمل بغياب أي تلميح الى آراء ستيفينس الدينية، الذي يتناقض كذلك مع تقاليد الأدب الإنكليزي ولا يمكن أن يُفَسَّر بمنشئه. وهنا نرى الفجوة، التي مع حساب «الروح الإنكليزية» لستيفينس و«تقليديته»، تثير الإحساس بالحماقة. وحتى عندما يزور ستيفينس كاتدرائية ساليسبري يرى انها ليست أكثر من «مكان سياحي»، أهميته متعلقة بذكره في كتيب السيدة سيمون الذي يبجله: «وبالطبع، لن ألبث أن ذهبت كذلك لمشاهدة الكاتدرائية الرائعة التي أشادت بها السيدة سيمون في كتابها» [5]. وهذا التجاهل الصارخ لقيمة واحد من أكثر أماكن بريطانيا أهمية من الناحية التاريخية والثقافية والدينية (سرعان ما ينتقل ستيفينس الى التأمل بعظمة الطبيعة الإنكليزية) لا بد أن ينبه القارئ الى تناقض هذه الشخصية مع «الروح الإنكليزية». وحتى لو فُسِّر هذا بانغلاق ومحدودية حياة ستيفينس، لا يمكن لهذا الانعزال عن بعض مكونات ما هو قومي والتركيز في الوقت نفسه على أخرى سواءً على مستوى المؤلف أو على مستوى البطل إلا أن يكون مقصوداً .
وإن غياب العنصر المسيحي الملحوظ يجعل الباحثين يفسرون على طريقتهم هذه الحالة غير المألوفة في الأدب الإنكليزي، على الأقل حتى نهاية القرن العشرين. فمثلاً تقول يلينا تسوكور: «الموضوع الديني في الروايات مثير للاهتمام، أو بصورة أدق – غيابة الكامل. لا يقتصر الأمر على خلو النصوص من ذكر لله والمسيح أو المسيحية، بل ليس هناك أي مفردات معجمية مسيحية (أو دينية على العموم). ولو نظرنا الى هذه البقعة البيضاء يمكننا أن نستنتج أن: الخلاص في عالم إيشيغورو غير ممكن» [1]. ونحن نتصور أن هذا التجاهل للمسيحية من طرف مؤلف الرواية ليس من قبيل الصدفة، لاسيما إذا أخذنا بالحسبان أن الإشارات الضمنية للمسيحية موجودة في المضمون، على أقل تقدير، في موقف التبرؤ المزدوج (الحقيقة، ليس الثلاثي) لستيفينس عن سيده اللورد دارلنغتون خلال لقاءه مع سكان القرية. وهذا التوازي الساخر يؤكد تهافت ستيفينس الذي يتراجع عن مبادئه بشكل واضح للغاية.
ومثال آخر على الانزياح الدلالي المرتبط بالتخلي عن الشخصي باسم الواجب. محور مضمون الرواية – حكاية علاقات ستيفينس والسيدة كينتون، عندما يؤدي العجز التقليدي للشخص الإنكليزي بالتعبير عن مشاعره الى خسارة حبه الوحيد في الحياة. وهذه الحالة كثيراً ما اضطلع بها أدب انكلترا. غير أن تبرؤ ستيفينس الذاتي الذي يحول عن قصد الحوار مع السيدة كنتون الى حوار عمل ليس في سنوات خدمتهما معاً فحسب، بل حتى بعد ذلك ، عندما يفسر رحلته بمحاولة إرجاع السيدة كينتون الى الخدمة، وسلوكه كله يبدو صارماً بشكل مفرط.
عادة لا يتجاهل الأدب الكلاسيكي الإنكليزي قيمة الحياة الشخصية، وحتى كبير الخدم يمكن له أن يمتلك حياته الشخصية واهتماماته الخاصة (رعاية شقيق زوجته بيريمور مثلاً)، التي يحاول سيده أن يأخذها بالحسبان قدر الإمكان ، والتي يحترمها الى حد ما نظراً لخصوصيات التفكير القومي. يذهب اللورد في الرواية نفسها لملاقاة ستيفينس، عندما يقبل أباه في العمل. إضافة الى ذلك، اللورد دارلنغتون، خلافاً لستيفينس، يستعرض أسبقية الأشياء الخاصة (ذكرياته عن الصداقة مع الألماني) على العامة (الرأي العام وما شابهه). وخلال مأدبة الغداء، عندما ينسى ستيفينس حتى والده، يتذكر اللورد دارلنغتون ضرورة مناقشة مسائل الحياة الودية مع ابنه في التعميد. وعلاوة على ذلك، تُستَعْرض بين ممثلي الطبقة الدنيا أولوية الأشياء الشخصية في حكاية الخادمة ليزا التي هربت مع الخادم الثاني، بما يعطي مثالاً لا يستغله ستيفينس والسيدة كينتون.
يمكن القول أن إنكار ستيفينس لذاته هو بمبادرة شخصية منه أملتها قواعد شرف كبير الخدم التي اختارها هو لنفسه. وإن التخلي عن العلاقة مع السيدة كنتون أملته كذلك القواعد نفسها وتَصَور اختلاف الخادم عن كبير الخدم: «بطبيعة الحال، هذا يمكن توقعه من الخدام والخادمات، أما كبير الخدم الجيد فملزم بإعادة النظر بمثل هذه الحالات في حساباته؛ لكن هذا النوع من الزواج بين الخدم ذوي المرتبة الأعلى يمكن أن يؤدي الى عواقب وخيمة للغاية بالنسبة للخدمة» [5]. وإن الزيادة في تفاني ستيفينس ونكرانه لذاته الى جانب رفضه دراماتيكية هذا الموقف سواءً من جانب البطل أو من جانب المؤلف، يخلق من جديد شعوراً بتناقض سلوك كبير الخدم. ويبدو أن الكلام لا يقتصر على التناسب التقليدي للراوية «الساذج» وللمؤلف «العارف بكل شيء».
ونصطدم هنا بحالة تقليدية في الأدب المعاصر لترميزٍ مزدوجٍ، لا يستعمل فيها هذا الشعور باللاتناسب لوصف ميزة البطل الاجتماعية (وهذا ليس ضرورياً لأن إيشيغورو يصف عالماً عفى عليه الزمن منذ فترة طويلة، وإن كتابة رواية لتكرار أشياء واضحة بالنسبة لقارئ الأدب الإنكليزي لا فائدة منها)، بل يخفي المعنى الحاضر ضمناً الموجود في حقل دلالي مختلف تماماً عن المعنى المعلن. ونحتاج من أجل الكشف عنه الى تفعيل السياق الثقافي «الياباني».
ينظر جون روتفورك في مقالة بعنوان «الكوميديا في أدب الكومنويلث» الى نتاج ايشيغورو بوصفه «نقداً بوذياً للكونفوشيوسية» ويخلص القول الى أن ايشيغورو شأنه شأن كتّاب «ما بعد الكولونيالية» «يستعمل الديانة والفلسفة المقارنة لكي يقدم مصطلحات مفتاحية ومفاهيم لفهم القيم والدوافع والهوية غير الغربية» [7]. وفي هذا التفسير لنتاجات ايشيغورو إشارة مركزة بشكل مهم في العنوان ذاته الى الطبيعة الهزلية للرواية وتعليق على أن التأكيد على «الروح الإنكليزية» للبطل يمكن أن يكون في الواقع وسيلة لتطبيق أفكار لا تمت الى الدراسة الفنية للروح الإنكليزية بأي صلة.
نلاحظ أن المؤلف في تلك المقالة يشير الى ثلاث نقاط أساسية في الثقافة اليابانية هي: البوذية والكونفوشية والشنتوية، ومع ذلك يولي بالتحليل تفاعل النقطتين الأوليتين فحسب في الرواية. يتجاهل كاتب المقال عملياً الشنتوية التي تُعَدُّ الوحيدة حصراً من بين النقاط الثلاث المذهبَ القومي في اليابان، الذي له دور كبير للغاية في صياغة التفكير الذي نقلَ البلاد الى الحالة التي تكونت نتيجة للحرب العالمية الثانية.
اليابان والمملكة المتحدة – هما إمبراطوريتان لم يعيقهما موقعهما الجزري من أن يكونا إمبراطوريتين أنتجتا نظاماً محدداً للتصورات التي تسمح بالحديث عن إيديولوجيا قومية (بالنسبة لليابان كانت المدة التي خرجت فيها الإمبراطورية عن حدود الجزر قصيرة جداً) واللتان فقدتا جبروتهما نتيجة للحرب العالمية الثانية. يرتبط فكر البلدين كليهما بإدراك الدور الرسالي لكل منهما، والإيمان بتفوقهما (انظر: [8]). الشنتوية في الثقافة اليابانية هي فكرة فلسفية أساسية للرسالة، حيث تتأكد هذه الفكرة كمبدأ ديني في تعاليم كامي – عن جواهر الروح والكاكوتاي – الجسد الموحَّد للدولة الذي يُعَدُّ كل ياباني جزء منه. وتعد الشنتوية، الممنوعة قبل منتصف القرن التاسع عشر، دين الدولة في اليابان منذ عام 1868، عندما ظهرت الإمبراطورية اليابانية والى العام 1945 بعد أن منعتها سلطات الاحتلال. تنحصر السمات المهمة للثقافة الشنتوية في عبادة الأسلاف وعبادة الطبيعة. وان الرغبة المستحوذة على ستيفينس تقريباً بالتمتع بالمناظر الطبيعية تتناسب تماماً مع «الروح الإنكليزية»، ولكن هذه الرغبة نفسها لأن يكون وجهاً لوجه مع الطبيعة لوحده تتناسب كذلك مع الشريعة الشنتوية.
جدير بالاهتمام أن ننظر الى علاقة ستيفينس بوالده بعين الثقافة الشنتوية. فإذا كانت هذه العلاقة من وجهة نظر القارئ الغربي دليل على إخفاق ستيفينس من الناحية الإنسانية، عندما لم يبدِ مشاركة بسيطة في لحظات وفاة والده امتثالاً لواجبه بصفته كبير الخدم، فمن وجهة نظر أخلاقيات المذهب الشنتوي يختفي هذا التناقض. عادة ما تنظر الشنتوية الى الإخلاص للسيد ورعاية الوالدين بالتساوي إجمالاً، وفي الوقت الذي تؤكد فيه على أهمية تبجيل الأسلاف لكنها تعطي الأسبقية لتبجيل السيد (المولى) لأن «مغزى حياة الساموراي يكمن في الخدمة» [9].
نرى في الرواية الكثير من بوادر تماسك بعض المكونات. إنها التقاليد الشفوية للقصص حول كبار الخدم «العظماء» التي نقلها الى ستيفينس في المقام الأول والده، ومثال والده، وأخيراً تأملات ستيفينس الخاصة حول «عظمة» و «كرامة» كبير الخدم. وهذه الوحدة لابد أن تذكِّر بمبادئ البوشيدو – مدونة سلوك رجال الساموراي التي للشنتوية تأثير مباشر عليها. واستناداً الى كتاب إينادزو نيتوبي الذي ألَّفه خصيصاً للقارئ الغربي ولمن يستفسر عن قيم الساموراي مقارنة بالقيم الغربية، نلاحظ سمات مهمة للبوشيدو، كعدم وجود قانون مكتوب، ووجود تقاليد شفوية واسعة النقاط تستعرض في أمثلة قواعد سلوك الساموراي الحقيقي: «البوشيدو – هي مجموعة الصفات الأخلاقية المطلوبة من المقاتل، أو المبادئ التي كان ملزماً بمراعاتها. ومع هذا لم تكن البوشيدو موجودة لا في عرض مكتوب ولا شفوي قط. ولم يحفظ التاريخ لنا سوى بعض الاقتباسات منها كتبها في وقتهم بعض الفلاسفة والمحاربين اللامعين. ومع ذلك، تمتعت هذه التعليمات غير المعلنة وغير المكتوبة بقوة القانون المحفوظ في قلب كل محارب» [9].
إن الضرورة الكامنة في البوشيدو للتأمل في قواعد سلوك الساموراي هي أيضاً واحدة من الصفات الرئيسية لستيفينس الذي دائماً ما يتأمل في صفات كبير الخدم «العظيم». وفي هذا السياق كان سلوك ستيفينس أثناء الغداء أسمى صور تجلي الكرامة: إنه في الوقت الذي لم يتخلَ فيه عن رعاية والده (استدعى الطبيب)، لم يبتعد عن خدمته السامية، مستعرضاً بهذا التزامه الراسخ بالمبادئ التي ألهمها إياه والده، وليس من باب الصدفة أن يكون كبير الخدم نفسه واثقاً من كونه لو تصرف بشكل آخر لكان قد خذل والده. إن بطولة ستيفينس «أحادية الجانب» ورفضه الطوعي لكل تنازل، إضافة الى جداله غير المتناهي حول «الكرامة» و«العظمة» لابد أن تناسب بأفضل صورة إخلاصه لقيم الساموراي: «حول مغزى النبل الكامن في إدراك الشرف والكرامة الشخصية التي كان كل فرد من رجال الساموراي، المعروف بأصالة مولده، ملزماً بمعرفتها والسعي لها لأنها كانت من ملزمات وخصائص طبقتهم» [9].
يجب الافتراض أن كاتب الرواية أدرك تماماً أن شجاعة ستيفينس «السامورائية» لا يمكن أن يقبلها قارئه الإنكليزي مثالاً. إنَّ «فضْح» ستيفينس الذي خان اللورد دارلنغتون، عندما تخفّى بزي سيد غير قادر على الاحتجاج (حالة الخادمات اليهوديات) يجعلنا نتحدث عن كون شخصية ستيفينس تصبح موضوعاً لسخرية شديدة من المؤلف موجهة ليس ضد القيم الإنكليزية التقليدية بل ضد قيم تقاليد ثقافته الخاصة التي تناقضها بل وأن عبثيتها تثبت من خلال إقحام هذه المنظومة في وضع ثقافي آخر.
تعيد الرواية بشكل ساخر النظر في قيم «الخدمة» التي تطرحها الإمبراطوريتان لمواطنيهما في «الواقع الإنكليزي» الذي يصوره إيشيغورو. وتتجلى السخرية في كون ستيفينس عندما يصرح بهذه القيم وعندما يتأمل بها الى ما لا نهاية، ولأنه منتزع من بيئة عادية سرعان ما يخرق قوانين الشرف الإنسانية البسيطة عندما يتخلى عن اللورد دارلنغتون أو عندما يتنكر بزي سيد من دون إرادته. وهذا كله يجعل وضعية وسلوك كبير الخدم «العظيم» قريبة بشكل خطير من خادم بسيط. وهذا يتجلى في كون «السيد» الحقيقي سرعان ما يتعرف على ستيفينس وكذلك في استعداد الأخير للتكيف مع موقف «إغاظة» السيد (المالك) الجديد، وهو ما يقر به حتى ستيفينس نفسه عندما يلخص مجمل حياته: «أنا الآن لا أمتلك حتى حق القول بأني المسؤول عن أخطائي. وهكذا عليَّ أن أتساءل – وهل في هذا كثير من الكرامة؟» [5].
وكما يقول إينادزو نيتوبي، «وفقاً للبوشيدو، الإنسان الذي يتناسى الشعور بالكرامة وينفذ رغبات وبدع وأوامر سيده الظالمة، يعد عاراً، ورجال الساموراي كانوا يدعون مثل هذا الشخص “ني شين” – أي “إمعة”، لأنه بدلاً عن الخدمة كان يمارس التزلف – أي التملق» [9]. إن استعداد ستيفينس لأن ينسى أفكاره الخاصة بعظمة كبير الخدم من أجل البقاء في المنزل مع المالك الجديد هو آلية للإغاظة، ويلقي الضوء على الموقف السابق لسعيه «السامورائي» لتنفيذ حتى أوامر سيده الظالمة (مثل الأوامر الخاصة بتسريح الخادمات اليهوديات). يجعلك هذا الخلط تفكر بالمرونة المفرطة لقواعد سلوك «كبير الخدم العظيم» التي ستصبح قريباً حامية للبطل من التصورات البشرية عن الشرف ولاستقامة. وفي الوقت نفسه يبقى من غير الواضح ما إن كان من الممكن أن يصلح لهذه الشخصية نظام القيم التقليدي. ويمكننا أن نقول إن ستيفينس يحقق الإنجاز التام، بتأديته التزاماته الوظيفية بشكل جيد، وعندما يتم تنفيذ هذه المهام يتحرر منها ويعيد التفكير بقوانينه مكيفاً إياها مع خدمته الجديدة.
ربما إن الأهم في هذه الحالة أن شخصية إيشيغورو هذه في الرواية معزولة عن أي سياق آخر سوى سياق الطبيعة. ولا تحمل العلاقات كلها في حياته سوى طبيعة خدمية وهذا ينطبق حتى على والده الذي يذكر فقط في سياق عظمته السابقة وإخفاقاته الحالية وعلى السيدة كينتون. يشعر ستيفينس بحرج شديد في وسط الناس، ويبدو من وجهة نظرنا، عنصراً غريباً على الوسط الإنكليزي.
يتجلى في النص بوضوح فشل منظومة القيم التي يمثلها اللورد دارلنغتون، أي منظومة الإمبراطورية البريطانية. فعندما يدافع ستيفينس عن سيده، يعلل عمله لصالح ألمانيا بالشعور بالعدالة والمروءة اتجاه العدو المهزوم ويذكِّر في الوقت نفسه بنفور الإنكليز من الفرنسيين وبعلاقتهم الحسنة مع «أقاربهم» الألمان. وهناك مسوغ آخر، معطى «بين السطور»، يرتبط بـ «الصداقة الحميمة» للورد دارلنغتون مع شخص يدعى هير بريمان، الذي انتحر فيما بعد بإطلاقه النار على نفسه في القطار بين هامبورغ وبرلين. إن فشل أسلوب دارلنغتون والأوربيين الآخرين المهذب (الذي يعرِّفه في وقت لاحق أحد الأمريكيين بأسلوب «الهواة») في السياسة يتجلى من خلال ذات السياق التاريخي للحوادث التي تصفها الرواية. وهذا بدوره يكشف فشل تصورات دارلنغتون حول «الشرف» (التي لم تمنعه من تسريح الخادمات اليهوديات)، الذي يوازي فشل تصورات ستيفينس عن «كرامة» كبير الخدم.
تتجلى سخرية المؤلف، إن لم يكن تهكمه، اتجاه دارلنغتون بوصه إنكليزياً أصيلاً، من خلال السياق التاريخي للرواية. فقد أدت عصبة «السياسيين الهواة» دوراً غير ملائم تماماً في تاريخ القرن العشرين بسبب عدم قدرتها على التخلي عن العلاقة «المهذبة» مع الخصم التي تخفي أسبقية المصلحة الخاصة على العامة وأسبقية المصالح القومية على الأخلاق العامة. إن إخفاق بريطانيا في السياسة وعدم قدرتها على المحافظة على قيمتها يُعَبَّر عنه مجازياً بتغيير مالك العقار الذي جلب قواعد حياتية جديدة. واستعداد ستيفينس «للتزلف» في علاقته بممثل عصبة «المحترفين» التي حلت محل الإمبراطوريتين على الساحة التاريخية والتي لا تتداعى مع الموقف السياسي البريطاني فحسب بل حتى مع الوضع السياسي الياباني كذلك وبمصير ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الاستعداد يكشف الخلفية المداهنة للمفهوم السامورائي عن الخدمة. وهذا كله يجعلنا قادرين على الحديث عن سخرية إيشيغورو من قيم الإمبراطوريتين الزائلتين سواءً على مستوى التاريخ أو على مستوى نظام القيم التي صرحت بها الثقافتين نفسيهما.
يبين التحليل الذي عرضناه أن حامل «الروح الإنكيزية» الحقيقي في الرواية هو اللورد دارلنغتون وحده الذي يكشف نشاطه «التاريخي» على مستوى المضمون دوراً غير عادي لبريطانيا في التاريخ العالمي. و«الروح الإنكليزية» لستيفينس في الرواية هي وهم لأنه يحقق بسلوكه معيار الخدمة المناسبة لشريعة البوشيدو اليابانية. والشخصيتان كلاهما يصبحان في الرواية مادة لسخرية الكاتب من خلال استعراض التناقضات بين نماذج السلوك المعلن عنها (العدالة والكرامة) والمتحققة (المصالح الشخصية و«التزلف»). ونرى أن المهم هنا هو الخلفية التاريخية للرواية المرتبطة بالعصر الذي ظهر فيه انحطاط منظومات قيم الإمبراطوريتين، الذي يتجسد في الرواية من خلال منظومة معقدة من العلامات الفنية.
ليليا فاوتوفنا حبيبوللينا
ترجمة : الدكتور تحسين رزاق عزيز