الدكتور ضرغام الدباغ .
عنوان الكتاب الأصلي : تأریخ الثورة الشعبیة الكوبیة : 1953 ـ 1962 Die Kubanische Volksrevolution : 1953 / 1962
مؤلفة الكتاب : الدكتورة لیزالوتا كرامر كاسكا Dr. Lieselotte Kramer Kaska
دار النشر : دار النشر الألمانیة للعلوم / برلین ـ 1980 VEB Deutscher Verlag der Wissenschaft, Berlin
صادرة عن المعھد المركزي للتاریخ في أكادیمیة العلوم الألمانیة الدیمقراطیة Herausgeber : Zentralinstiutut für
الطبعة الثانیة صادرة عن المركز العربي الألماني / برلین 2020
المطبوع مجاني الرقم : 35
ا
* مقدمة المترجم * مدخل 1. الإنزال ” غرانما ” والمسیرة نحو سیرا ماستیرا. 2. مرحلة القبائل. 3. من العصابات إلى جیش الثورة. 4. تأسیس الجبھة الوطنیة الموحدة. 5. أنتصار الثوار. 6. النضال من أجل إقامة سلطة الشعب.
ملحق 1. تشي غیفارا ومصرعھ البطولي
3
اد
كوبا، بلد لم یكن )حتى انتصار الثورة( أكثر من مكان لاستراحة الأثریاء الأمریكان في عطل نھایة الأسبوع، یشخصون إلیھا بطائراتھم الخاصة وبیخوتھم، لیلعبوا القمار ویمارسون الدعارة، في بلد تعتصره الفاقة، والأمیة، وسائر الأمراض الاجتماعیة، بل فاقداً حتى لشخصیتھ الوطنیة بالكامل، وحكومتھ لیست سوى كركوزات، وألعاب دمى تدار بالھاتف من السفارة الأمریكیة، حكومات دیكتاتوریة، لم تكن لتقوى أن ترفع خنصرھا بوجھ الغول الذي لا یكتفي بمص دمائھا، بل وتمنع تقدمھا في أن تكون دول محترمة لشعب محترم، لیواصل دون توقف أو نھایة / استغلالھا، ونھبھا، وإذلالھا وإھانتھا، وھذا الموقف یخلق مسألة وطنیة، مما یمنحھا طابعا ً خاصا ً للثورة الوطنیة، لدولة / جزیرة كانت مھمتھا ترفیھیة للغول
الإمبریالي القابع على بعد 80 میل لیس أكثر …!
ویحدثونك عن التحرر…. مھمة الثوریین لیست سھلة، فھم یواجھون معسكراً طویلاً عریضاً من الأعداء، وأسوئھم ھم أعداء الوطن في الداخل، فھم یمتلكون لون بشرتك، ویتحدثون بمفردات لغتك، ویمتلكون جنسیة بلدك، ویسھل علیھم الغش والاختفاء، والعدو الخارجي یستھدف ھذه الفئة ویضمن ولاءھا والعمل لصالحھ بسھولة، وبھذه الفئة تسھل علیھ )نسبیاً( اقتحام مجتمعات البلدان النامیة بصفة رئیسیة بوصفھا مجتمعات ھشة، لیست ھناك متكونات نھائیة صلبة، وحتى الأحزاب السیاسیة فیھا حدیثة التجربة، رؤیتھا وتحلیلھا للواقع السیاسي / الاجتماعي / الاقتصادي یتفاوت بین الرؤیة العقائدیة المدرسیة / ونصوص مقدسة، تعوزھا الواقعیة الوطنیة والقومیة، أو حركات سیاسیة تقودھا فئات علیا، أو دیكتاتوریات معادیة للشعب،
ً
ممن لا تختلف ولا تتناقض مع العدو الخارجي جوھریا، بل في سطحیات العلاقة السیاسیة /
الاقتصادیة.
الأطماع الأجنبیة، والنھب بلا توقف للبلدان النامیة، النھب حتى الرغیف الأخیر … شراھة لا حدود لھا، والعدوان واسع الأبعاد یبلغ أعماق الإنسان، في محاولة لألغاء كیانھ وتحویلة إلى حیوان إنتاج لصالح الأحتكارات العملاقة. وتبلغ محاولات الإلغاء وطنیتھ، وقومیتھ ودینھ، ولغتھ وتقالیده، وكل ما یختص بھ ویمیزه، في محاولة لإلغاء ھذا التمیز، وإلغاء ما یتصل بھ. وتزداد الإمبریالیة الجدیدة في عصرنا الرھن )العولمة( شراسة في إلغاء تام لكل الخصائص
الإنسانیة، ویتحول إلى رقم لیس إلا ..!
الوطني، المناضل الشریف الذي یرید أن یمنح بلاده أملاً بالغد، كینونة محترمة، أن لا یكون منجم مواد الخام، وسوق لتصریف السلع، ولا جرم صغیر یدور في فلكھم، عندما یجد نفسھ وبلاده وغده ومستقبلھ مكبلاً بقیود وسلاسل سیاسیة واقتصادیة وقانونیة، سیرفض ھذا الواقع الذي لا یتعامل معھ إلا على أنھ من أصغر الكینونات، وأن شجرة كاكاو أو بئر نفط أثمن منھ بكثیر، سیغضب، وعندما ینالھ سیاط القمع سیفكر أن الرفض لوحده لا ینفع، بل ھو یصب
4
ًً
في طاحونة تحرسھا نلك القوة المتجبرة المتسلطة، فیذھب إلى الثورة مجبرا ولیس مخیرا، ثم
یتخذ أشد المواقف جذریة، لأنھ بالتجذر یستطیع أن یضع جذور نھضة جدیدة. وبلا جذور فلربما تقتلعھ نسمة عابرة وتقذف بھ بعیداً ..!
وربما سینال الإنسان الثائر أذى كبیر في طریقھ الصعب، وربما یدفع حیاتھ ثمناً لتوكید ذاتھ، الخطر مع الحریة، أفضل من العبودیة في الأمان، ولكن ماذا كان سینال إن أرتضى أن یقف خلف الأبواب الموصدة دونھ ..؟ الثائر لا یستطیع أن یتجاھل جرحھ النازف، الثائر لا یستسیغ لقمة یعلم أنھا ملوثة … الثائر إنسان شریف لذلك لا یستطیع الھوان ولا یطیقھ، ولذلك یخرج ممتشقاً سلاحھ یدافع عن شرفھ الشخصي والوطني .. لذلك فالثائر ھو إنسان یمتلك القدرة أن یتجاوز نفسھ ومشكلاتھ الشخصیة لیحلق في فضاء أرحب، ولذلك فھو إنسان
راق … طلیعي، یعرف بلاده، والبلاد تعرفھ، في حب واحترام متبادل …
شھدت كوبا وعیاً مبكراً، وھو ما أثبتھ دورھا التاریخي في أمیركل اللاتینیة. كوبا لیست أكبر
البلدان مساحة، فھناك البرازیل، والأرجنتین، وكولومبیا، وھي لیست أثرى البلدان، ولا
ً
أكثرھا سكانا، ولكن الظروف التاریخیة اجتمعت في كوبا قبل غیرھا، ربما بسبب الاحتكاك
الأقرب مع الولایات المتحدة، ربما النھب الأوضح لاقتصادھا )تنتج كوبا : النیكل، الكوبالت، السكر، التبغ، السیاحة(، إضافة إلى مستوى طیب تاریخیاً من التعلیم ، وظروف نشأة حركة وطنیة مبكرة، كما كانت الصدامات المبكرة مع السلطات الدیكتاتوریة والعمیلة، سبباً في تكوین أرث نضالي ثوري، یدفع إلى الأعلى، والأمام، وھو ما أنضج ظروف حركة ثوریة
مسلحة منذ أواسط الخمسینات.
ومن المؤكد أن الشروط والظروف قد توافرت لنجاح الثورة، ولیس أدل على ذلك من : 1. ضعف امكانات الشبان الوطنیین. 2. قلة عددھم. 3. ضعف التسلیح. 4. سرعة عمل الثورة وتحقیقھا لھدفھا بالنصر الأكید
ھذه المؤشرات الواضحة المادیة لنجاح الثورة، یقابلھا شروط ذاتیة یبدو أنھا كانت متوفرة من حیث:
1. شخصیة قائد الثورة الرئیسي )فیدل كاسترو(. 2. عدد من المساعدین الأكفاء، تشي غیفارا كامیلو سینفویغوس، راؤول كاسترو. 3. الاختیار السلیم لمناطق فتح الجبھات. 4. إدارة سلیمة للمناطق المحررة. 5. بساطة الشعارات الثوریة، التي تقبلت في صفوفھا كل المعادین للنظام الدیكتاتوري. 6. عدم الانغماس في موضوعات آیدیولوجیة عمیقة، مسببة للجدل والصراعات الفكریة.
5
العدو )عدو الثوار( ساعدھم من حیث لا یدري في نضالھم، الحكم الدیكتاتوري ھو حكم
طغیاني، وھو حكم فاسد من أعلى ذروة الھرم وحتى قاعدتھ، ونظام كھذا لن یكسب المثقفین
والأذكیاء، والشجعان، والشرفاء، وقد یكسب موقتاً بعض الأنتھازیین والمتساقطین، ولكنھ لا
ًًً
یكسب الشعب. فالشعب یمكن أن یخدع حینا أو أحیانا، ولكنھ لا یفسد أبدا ….
فیدیل كاسترو أنتصر، وھا ھو یقود شعبھ نحو منجزات، أختفت نوادي القمار وبیوت الدعارة، بل ھناك كوبا شامخة دولة اشتراكیة رائدة على مبعدة 80 میل عن الشاطئ الأمریكي …
أرنستو غیفارا )تشي(، صار رمزاً لا یمحوه الزمن لملایین من الشباب في العالم، لكل من
یطمح بالحریة لابد أن تشحنھ كلمات غیفارا : ” إذا كان مصیر شعب ما مطروح، فما ھي
ً
قیمة حیاة الفرد …”، ففي لحظة تاریخیة في حیاة الثوري، یرى فیھا ویقتنع مادیا، أو روحھ
ما ھي سوى قطرة في بحر بلاده … في نھر الثورة الخالد الذي لابد أن یواصل الجریان … فیقدم روحھ بسعادة طاغیة وفرح للأعظم، للأكبر، للأكثر بقاء … للوطن المفدى، فیصبح نجمة في سماءه … نجمة لا تغیب ولا تنطفئ … فھنیئا ً لمن بلغ ھذه المرحلة … ومنھم غیفارا
تحیة كبیرة لشعب كوبا الظفر لكل شعوب العالم من أجل التحرر سلام لقادة ومناضلي الشعب والوطن الخزي والعار والشنار للخونة والجواسیس وعملاء الاجنبي والسراق والمرتشین.
ضرغام الدباغ
6
دل
لم تكن مزرعة دیبوني )Diboney( لتبعد أكثر من 15 كیلومتراً عن سانتیاغو دي كوبا، كانت اللیلة السابقة لیوم 26 / تموز ـ یولیو / 1953 كان موعد اللقاء ل150 من الشبان الكوبیین الوطنیین، الذین كانوا یستعدون منذ أشھر، لیستولوا بقوة السلاح على
مونكادا)Mooncada( التي ھي أقوى ثكنة عسكریة في البلاد. وكانت ھذه العملیة وكما قدر مخططوھا
لھا وتتألف من جماعة شباب )تنظیم غیر شرعي(، انتفاضة شعبیة ستنطلق من سانتیاغو ضد نظام فولجنسیو باتیستا المكروه من الشعب، ومن خلال سیطرتھم على المعسكر سیستولون على الأسلحة الضروریة لانتفاضتھم المسلحة. وقد أختیرت سانتیاغو عاصمة ولایة أورینتا )Oriente( المعروفة بتأریخھا وتقالیدھا الحافلة بالنضال المسلح من أجل الاستقلال والتي ما تزال ذكراھا حیة تنبض في نفوس الجماھیر، ولأن عاصمة ومقر قوة نظام باتیستا یبعد 900 كیلومتر عنھا، وبھذا سوف لن
یكون بوسع السلطة إرسال تعزیزات عسكریة سریعة، وأختاروا الوقت والتاریخ لأن الاحتفالات الشعبیة التنكریة )كرنفالات( تقام في ھذا الوقت، ویأتي إلى المدینة الألاف من الزوار وسیسھل على الثوار الشبان أن یختلطوا مع الناس.
)الصورة : الدیكتاتور فولنجسیو باتیستا(
وتحت إجراءات أمنیة قاسیة، كان فیدل كاسترو الذي أصبح قائداً للشبان الوطنیین الكوبیین المعارضین، وشقیقھ راؤول، وآبل سانتاماریا، وآخرون المشاركون : من الطلاب، العمال، وعمال یدویین)حرفیین(، وعمال مزارعون، الذین حضروا إلى سانتیاغو ومعھم الأسلحة
المخبأة في سیارة. كان راؤول منظماً إلى الحزب الاشتراكي الشعبي )الحزب الشیوعي الكوبي(، وآخرون كانوا نقابیون، والأغلبیة منھم كانوا إلى الجناح الثوري في الحزب البورجوازي الصغیر ” الحزب الاثودوكسي ” وھم یوحدون بھذا النضال الوطني، وبطلھم خوسیھ مارتي ) Joce Marti( المؤسس لحركة الطلاب والحزب الشیوعي الكوبي. خولیو أنطونیو میلا، آبل سانتاماریا، كما كان بینھم في المجموعة فتاتان، الشقیقتان : ھایدي سانتاماریا، ومیلبا ھیرناندز.
7
في الساعة 5,15 ابتدأ شن الھجوم بقیادة كاسترو على ثكنة المونكادا. فیما كان الھجوم قد ابتدأ من قبل مجموعة أخرى على ثكنة بایامو التي تبعد 100 كیلو متراً. والمجموعة التي شنت الھجوم في المونكادا، وبالصدفة وقبل أن یصلوا البوابة الرئیسیة، اضطرت المجموعة للاشتباك بالنیران إذ انتبھت الحراسات وأطلقت الإنذار، وأحبطت تقدم لم ینجز مھامھ،
وحوصرت المجموعة، والقي القبض على غالبیة الشبان. والمجموعة الثوریة الأخرى التي نجحت باحتلال المستشفى وقصر العدل، وكان بینھم فتیات، اضطروا إلى إخلال قصر العدل، ثم أقدم الجنود على مجزرة بحق من ألقوا القبض علیھم من الشبان، ولم ینجو منھم سوى الفتاتان، وبعض الشبان بادر نزلاء المستشفى إلى إنقاذھم. وفي المونكادا، قتل أبل سانتاماریا، فیما تمكن راؤول كاسترو من الاختفاء في المدینة لوقت طویل، ولكن ألقي القبض علیھ فیما بعد. ومجموعة صغیرة بینھم فیدل كاسترو، نجحوا بالھرب إلى الجبال، ولكنھم وبعد أسابیع قلیلة كانوا عرضة للأعتقال كذلك. وكان عرض الصور للوحشیة السادیة التي ارتكبتھا عناصر باتیستا في مونكادا قد أدى إلى غضب في كوبا، مما أدى إلى أن یحجم ضباط كاسترو عن قتل كاسترو، ورفاقھ ممن ألقي القبض علیھم. في أكتوبر 1953 عقدت محاكمتھم، وھنا عرض فیدل أفكاره وآراؤه في معرض دفاعھ عن نفسھ، وفیھا عرض برنامج الحركة الوطنیة الكوبیة التي اختتمھا بكلماتھ المشھورة ” إن
ً
إدانتكم لن تغیر من الأمر شیئا، ، فإن التاریخ قد أصدر حكمھ ببرائتي “.
)الصورة : فیدل كاسترو أثناء محاكمتھ في انتفاضة المونكادا عام 1953(
وكما حدث مع خوسیة مارتي، حكم علیھم بالأشغال وسفروا إلى جزیرة باینوز، ھناك أسس فیدل مدرسة یعلم فیھا السجناء الأفكار السیاسیة.
8
وإذا كانت حركة 26 / تموز ـ یولیة / 1953 لم تنجح، على الرغم من أن كوبا كانت ترزح لسنوات طویلة في أزمة اجتماعیة، ومنذ عام 1952 كانت ھناك ظروفاً ثوریة قد نشأت، لكن الحركة الثوریة لما تزل بعد ضعیفة وتعاني التمزق والانشقاق، ولك تكن ھناك منظمة موحدة وبقیادة موحدة تمثلھا، ولكن انتفاضة مونكادا مثلت نداء للشعب للمقاومة، وبدأت في كافة أرجاء البلاد تتكون منظمات ثوریة غیر شرعیة التي اتخذت لنفسھا أسم ” حركة 26 / تموز ـ یولیھ ” واتخذت جملاً من خطاب كاسترو في دفاعھ أمام المحكمة كأنجیل لمناھضي نظام
باتیستا.
وھكذا تشكل مركز ثوري یلتف حولھ المعارضون لنظام باتیستا، وھنا نشأت قیادة للحركة
الوطنیة الكوبیة.
وبعد ” انتخابات ” أجریت نھایة عام 1844، مترافقة مع تصاعد أنشطة المعارضة في
ًً
أرجاء كوبا، الذي أكد فیھ الدیكتاتور باتیستا رئیسا، أعقبھ كما یحدث تقلیدیا ” عفو عام ”
وفي أطلق سراح فیدل ورفاقھ، وغادروا فورا ً إلى المھجر في مكسیكو / المكسیك.
” أیھا الرفاق .. بدون فكر فأننا سنخسر كل شیئ، فنحن في غضون ساعات، یمكن أن ننتصر، أو نندحر، ولكن في جمیع الأحوال فإن الحركة سوف تنتصر، فنحن إن انتصرنا فإننا سنفعل ما ناضل مارتي من أجلھ، وإذا فشلنا، فإن الشعب الكوبي سیتخذ من عملنا مثالاً، وسینھض شبان آخرین للقیام بھ، ویرفعون العلم وسیكونون مستعدین للتضحیة من
أجل كوبا……. الحریة أو الموت. من كلمة لفیدل كاسترو في الأمسیة التي تسبق الھجوم على ثكنة مونكادا
9
)الصورة : فیدل كاسترو خلال التحقیق في الھجوم على ثكنة المونكادا عام 1953(
أو ً ازال، ” را ” وارة و را را
في 25 / تشرین الثاني ـ نوفمبر / 1956 تجمع في ظلام اللیل في الساعة 2,00 صباحا ً 82 من الشبان المسلحین في مكان من المدینة / المیناء المكسیكي توكسبان، لكي یغادروا البلاد بصورة غیر قانونیة على متن یخت یدعى ” غرانما / Granma “، والحارس في المیناء،
بفضل “بقشیش” نفحھ أیاه أحدھم، لم یرى شیئاً. )الصورة : الیخت التاریخي غرانما(
سرعان ما جاء الشبان بأسلحتھم یضحكون بصخب، وصنادیق الخیرة، ومعھم معدات
ضروریة ومواد معیشة مھمة، وصعدوا إلى الیخت الذي یتسع في الأحوال العادیة 12
ً شخصا، كانت الأمطار تھطل بشدة، مع البرق والریاح، ولكن قائد المجموعة فیدل كاسترو
أعطى الأمر،” شغلوا المحركات وأقلعوا “. غرانما المحملة فوق طاقتھا بكثیر، بالكاد استطاعت مغادرة رصیف المیناء وأقلعت وھي مطفأة الأنوار متخذة سبیلھا صوب كوبا. وعلى السطح تعالى صوت النشید الوطني الكوبي، ونشید ” حركة 26 / تموز”، وكان بینھم طبیب شاب من الأرجنتین یدعى أرنستو غیفارا )Ernesto Guevara( والذي بسبب لكنتھ أطلق علیھ ” تشي “)Che(، والمركب یغد السیر للنضال من أجل تحریر كوبا من النظام الإرھابي بزعامة باتیستا. وكانت ھذه الرحلة قد واجھت الكثیر من الصعوبات، وكلفت الكثیر من الجھد والاستعداد، كان یجب توفیر الكثیر من المال لیتمكنوا من شراء السلاح والیخت. والمشاركون من المقاتلین اختیروا من بین المھاجرین الكوبیین بعنایة وسریة، ثم جرى التدریب في مزرعة اشتریت لھذا الغرض، لتكون بمثابة معسكر للتدریب على حرب العصابات. وكل ھذا كان ینبغي أن یحدث سریاً لأنھ غیر قانوني، وكان یخشى خطر عملاء التحقیقات الاتحادي الأمریكي )FBI( وأیضاً رجال باتیستا والشرطة المكسیكیة الذین كانا یتعاونان في بعض الأحیان. في صیف 1956 ألقى القبض على فیدل كاسترو وارنستو غیفارا وبعض الرفاق الآخرین وأمضوا أسابیع في معتقل، ولكن إضراباً قمت بھ القوى الدیمقراطیة احتجاجاً اضطرت الحكومة المكسیكیة إلى إطلاق سراحھم، وقبل أن تحدث وشایة أخرى، أعطى فیدل الأمر بحركة المجموعة إلى كوبا.
10
ویبدو للوھلة الأولى، أن الأمر لا یعدو عن مغامرة مجنونة، فكیف سیكون بوسع مجموعة من الشبان أن تأتي من بلاد خارجیة إلى بلد مدعوم من الإمبریالیة الأمریكیة وجیش مسلح لحمایة الدیكتاتور …؟
نعم تاریخ بلدان أمیركا اللاتینیة زاخرة بھذه الأمثلة، ومن أشھر الأمثلة المشابھة التي اشتھرت في أمیركا الجنوبیة لمناضلین وطنیین في القرن التاسع عشر مثل فرانسیسكو دي میراندا، سیمون بولیفار، وقبل كل شیئ البطل الوطني الكوبي خوسیة مارتي، الذي أطلق النضال ونظمھ من أجل الاستقلال، فیما كان الوطنیون مھاجرون وموزعون في الولایات
المتحدة، والمكسیك، وفي جزر البحر الكاریبي. والتضامن بین الأمریكیون اللاتینیون التي نشأت في ظروف النضال المشترك ضد عدو مشترك یتمثل بالنضال ضد الاضطھاد الاستعماري، تمثل ھذه المرة أیضاً بمشاركة ثوریین في النضال المسلح من دول أمیركا اللاتینیة، وھكذا تمثل التضامن بین شعوب أمیركا اللاتینیة في مجموعة فیدل كاسترو، بمشاركة الأرجنتیني أرنستو غیفارا، لیحي تقلید قدیم، وكان نضال خوسیة مارتي صورة مثالیة ونموذجیة للثوار الكوبیین، فقد كانوا یطلقون على أنفسھم ” المارتینیون “. ثم أن الحظ لم یكن یرافق الرحلة، ففي عرض البحر دخلت غرانما في عاصفة، ودوار بحر، وجوع عانى منھ الرجال، والیخت الذي كان یتحمل كل ھذا، یقترب من كوبا، فیدل كاسترو كان یھدف إلى أن یبلغ السواحل الجنوبیة بالقرب من سانتیاغو في الثلاثین من نوفمبر ـ تشرین الثاني. ولكن ھذا الیوم حل، وغرانما ما تزال تبحر على مبعدة یومین من الھدف على الساحل الكوبي. وھكذا كان ھذا أول إخفاق في خطط المجموعة التي كانت قد أجرت حساباتھا في الإنزال في سانیاغو في الثلاثین من نوفمبر، وإعلان الانتفاضة. وحیث كانوا على موعد مع فرانك بایس، إحدى الشخصیات القیادیة في حركة 26 / تموز والذي كان قد وعدھم بمساعدات مھمة. وكان الشبان الشجعان كانوا قد استولوا على بنایة الإدارة، ولكن لم یكن بقدرتھم الاستیلاء على المدینة. وبعد بضعة ساعات من القتال مع رجال باتیستا، اضطروا للانسحاب، وفي نفس الوقت اكتشفت الطائرات من حرس السواحل الیخت غرانما. في 2 دیسمبر ـ كانون الأول أقترب الیخت من الساحل الجنوبي لكوبا ورسى عند لاس كولوراداس )Las Coloradas( التابعة لمحافظة أورینتا. وجنحت غرانما في الرمال، وغرقت زوارق الإنقاذ فور استخدامھا، وكان على المجموعة الانتظار على الساحل، ولم یستطیعوا أن یأخذوا معھم من الیخت سوى أسلحتھم، وبعض المواد الضروریة. وفي غضون كل ذلك تعرضوا لإطلاق نار من طائرة، ومن زورق ساحلي. وعن ھذا الإنزال علق راؤول كاسترو، إنھ لم یكن إنزالاً، بل تحطم سفینة. الشریط الساحلي الذي كان على الثوار قطعھ وبلوغ حقول قصب السكر التي توفر الحمایة لھم، كان عبارة عن مستنقعات وأدغال أشجار المانغروف، الذي مثل لرجال متعبین یعانون من العطش، والجوع، ومن سفرة عاصفة، كجدار من الأسلاك الشائكة وضع في طریقھم. وبعد مسیر أیام بصعوبات تفوق طاقة البشر، تمكنت المجموعة صباح یوم 5 / كانون الأول ـ دیسمبر، من الوصول إلى مساحة تابعة لمصنع سكر، في منطقة تدعى أرلیجیرا دي بیو، وھم في نھایة قواھم، فقرر الرجال أن یأخذوا استراحة قصیرة.
11
وفجأة أندلع زعیق الرصاص، وأنھمر سیل من الطلقات كالمطر على الرجال الذین لم یكن ما
یردون بھ سوى بنادقھم، وعتاد مبلل، وسرعان ما أنظمت طائرة وأخذت تطلق النار من
ً
رشاشاتھا. سقط نصف رجال المجموعة في ھذه المعركة القصیرة تقریبا، وسقط 20 منھم
ً
في الأسر، أطلق على البعض منھم النیران فورا، وقد أتضح فیما بعد أن أحد الرجال ممن
یعرفون المنطقة كان قد كشف عن العملیة. في كوخ لأحد الفلاحین، في سفح جبال سیرا ماستیرا، استطاعت المجموعة أن تحط رحالھا وتستریح. فیدل كاسترو، وشقیقھ راؤول، وارنستو غیفارا، كامیلیو سینفویغوس، و 18 من المقاتلین الآخرین، كانوا قد نجوا من العدو،)أي خسروا ستین رجلاً قبل بدء العمل، ومع ذلك لم یفكروا في التراجع …!/ المترجم( . تحدث فیدل كاسترو قائلاً : ” لقد أوقع العدو بنا خسائر، ولكن لم یكن بوسعھ إبادتنا، سنواصل نضالنا، وسنكسب ھذه الحرب “. ولكي یفلتوا من ملاحقة رجال باتیستا، قرر الثوار، أن یلجأوا إلى جبال سیر ماستیرا، ولیبدؤا من ھناك حرب الغوار )العصابات( ضد الدیكتاتور باتیستا. وكان ھذا القرار وفي مثل ھذه الظروف الغیر اعتیادیة، لھ علاقة وثیقة بالتقالید الثوریة لھذه المنطقة من جزیرة كوبا. وكانت الخطة الأصلیة مرتبطة بعمل مساعد، یتمثل بقیام انتفاضة في مدینة سانتیاغو، لیكون إشارة لإطلاق النضال المسلح لإسقاط الدیكتاتوریة. ولكنھا أخفقت، ولكن اختیار محافظة أورینت كمنطلق وقاعدة للنضال، كان ولا یزال وسیبقى صحیحاً. وحقاً تستحق أن تكون ” الطریق لتحریر كوبا ” إذ كان یكمن فیھا ضمیر وروح الانتفاضة ضد القمع والاضطھاد والذي ینبض بالحیاة.
)الخریطة : خط إبحار الیخت غرانما من المكسیك إلى كوبا(
12
13
ًر ال
في جبال سیرا ماستیرا ابتدأت مرحلة حرب الغوار )العصابات( تلك التي أطلق علیھا فیما بعد غیفارا مرحلة التنقل )البدو( مرحلة كان فیھا الرجال بتسلیح سیئ، وتدریب غیر كاف، في حالة مسیر دائمیة، لكي یتفادوا الجنود الملاحقین لھم، ومن أجل أن تتعود المجموعة حیاة محاربي العصابات. وكان الفلاحون یظھرون لھم التعاطف ویبدون الاستعداد أن یبیعوھم بعض مواد المعیشة، ولكنھم لم یدخلوا میدان النضال الفعلي بفاعلیة. فقد كان الفلاحون یخشون رجال باتیستا، من خلال تجاربھم القلیلة في العمل الكفاحي السري من جھة، وكان الثوار من جانبھم یخشون أن تفشى أنباء تحركاتھم، لذلك كانوا یلجأؤن إلى الحركة
المتواصلة من جھة أخرى. ومن أجل الحصول على السلاح والعتاد، والمواد الضروریة، ولضرورة الإعلان عن بدء حرب العصابات من أجل إعلام الرأي العام الكوبي، ھاجم الثوار في 16 / كانون الثاني ـ ینایر / 1957 معسكراً صغیراً عند نبع دي لابلاتا في جبال سیرا، والقتال كان ناجحاً وجلب لھم الانتصار الأول، كما كان لھ تأثیره النفسي الكبیر. سرى بین المقاتلین روح النضال والنصر، فیما أصیب جنود باتیستا بالھلع من الھجوم المباغت. وعلى عكس جنود باتیستا الذین أطلقوا النار على الجرحى وأجھزوا علیھم في المعركة الأولى، كان الثوار یعتنون بالجنود الجرحى، على الرغم من قلة الأدویة لدیھم. ھذه الخصائص كانت ھامة جداً للثوار في نضالھم، وكانت من جملة نتائج معركتھم ضد ھذا المعسكر، سقط الأسیر الأول من جنود باتیستا بأیدي الثوار. وأنصب الثأر الذي شرع فیھ جیش باتیستا تركز في ضد فلاحین المنطقة، والتي قصفت بشدة أیضاً. كما ابتدأ إرھاب منظم تقوده السلطة ضد الأھلیین الذین بدأو یتحولون ویقفون مع الثوار، وأبناء الفلاحین الذین بدأوا یتوافدون على جبال سیرا، ومعھم أسلحتھم وغالباً بالمناجل، وینظمون للثوار. تدریجیاً بدأت تنمو صلات مع منظمات ثوریة ووطنیة في سانتیاغو، وفي ھافانا أیضاً من المنتمین إلى حركة 26 یولیة ــ تموز. وحضر إلى مقر فیدل شخصیات منھا أمثال : فرانك بایس، ھایدي، سانتاماریا، أرماندو ھارت، كیلیا سانشیز، وفیلما أسبین، ، حضروا لیناقشوه )كاسترو( عن مشكلات تعبئة الجماھیر من أجل العمل ضد نظام باتیستا. كما أنھم بحثوا في في امكانیة توفیر السلاح والعتاد، والملابس، والأدویة، وأیضاً النقود. والأھم أنھم التنزموا بأن یوفروا مقاتلین متطوعین لحركة الثورة. لأن باتیستا كان یؤكد دائماً وأبداً بأن الثوار سوف یبادون، أتصل الثوار بصحفیین مؤثرین من الولایات المتحدة الأمریكیة مثل ھیربرت ل. ماثیوس )Herbert L. Mathews( من صحیفة النیویورك تایمس، الذي جلب بوسائل التسلل في شباط / 1957 إلى مقر فیدل كاسترو، بعدھا نشر ماثیوس مقالاً مثیراً عن ” ثوار اللحى ” وقائدھم، وكانت المقالة معززة بالصور تؤكد أن حرب الغوار موجودة، وأن الثوار یواصلون نضالھم. وقد ھزت ھذه المقالة من مكانة الدیكتاتور، وأعطت الثورة دفعاً جدیداً في البلاد. وفي الولایات المتحدة بدأ الشباب یتابعون أخبار الثورة في سیرا ماستیرا وأبطالھا، وكان القادة السیاسیون یرون في الثورة وقائدھا المحامي البورجوازي)كاسترو(، وكانوا یرون الخطر في أن تتحول ھذه الحركة „ الغیر شیوعیة ” في المستقبل وبعد انتصارھا على الدیكتاتوریة إلى الاشتراكیة ومن ثم إلى الشیوعیة.
14
في أواسط آذار / 1957 تلقت الثورة ما كانت قد وعدت بھ، خمسون مقاتلاً ” جدیداً “، ولكن مع مشكلات كبیرة إذ لم یكونوا مؤھلین لتحمل والتلائم مع حیاة المقاتلین الصعبة في الجبال والمسیرات الطویلة، وتحمل الجوع والعطش، والحرارة والبرودة، وتقلبات الطقس الاستوائي الممطر طویلاً. أوضح لھم فیدل أن ھناك ثلاث جرائم في عمل المغاورین یجب أن یحكم على مرتكبھا بالموت : عدم إطاعة الأوامر، ترك النضال بدون أذن، الإخلال
بمعنویات المقاتلین.
)الصورة : فیدل كاسترو قائد الثورة في إحدى القواعد(
ولكن أغلب ” الجدد ” تأھلوا وكانوا یطیعون الأوامر، وأصبحوا مقاتلین جیدین، وھكذا غدت الوحدة قویة تضم 80 مقاتلاً، منظمة جیداً قادرة على القیام بعملیات، وبالنسبة لھم فقد مثل لھم غیفارا رغم مرضھ )الربو( المقاتل الذي لا یتعب/ والطبیب المنضبط، في نفس الوقت، وكان المغاور الأول الذي قام في فترات الاستراحة، خلال المسیرات بتعلیم أحد الفلاحین
القراءة والكتابة. كانت العلاقات بین الثوار والفلاحین كانت تتسع بمرور الوقت، وفي بیت فلاحي منفرد، أسس فیھا المقاتلون قاعدة تموینیة، واستطاعوا التعامل مع الفلاحین بشكل رائع، وتأسیس عمل ونظام استخباراتي بمساعدة الفلاحین للأستخبار عن تحركات العدو. وكان غیفارا یعالج النساء والأطفال على الرغم من أنھ كان یفتقر بشكل حاد إلى المواد والعدد الطبیة في محیط من السكان الفقراء الذین یعانون مختلف أنواع الأمراض. ولكن السكان الفقراء، الذین لم یسبق لھم أن شاھدوا طبیباً في حیاتھم، كانوا یرون في مقاتل
ً
العصابات أخ لھم، یبدو عفویا، على شیئ من السخریة، والمقاتلین بدؤا بدورھم یقفون على
حقائق یكتشفونھا تدریجیاً بإنھم مناضلین من اجل الحریة، وأن أمامھم مھمات إحداث تغیرات جوھریة في المجتمع والشعب.
15
ویكتب غیفارا أن ” الفلاحین في جبال سیرا لعبوا في قرى سیرا دوراً یتسم بالأھمیة فقد
مثلوا الجناح الفلاحي في الثورة من خلال تعاملھم مع الثوار، الأمر الذي كان یرفع ویتقدم
ً
مستوى وعیھم، لیدركوا ما علیھم من واجبات حالیا، وفي المستقبل بعد انتصار الثورة، عند
الشروع بإصلاح الریف وھو من أھداف الثورة. وكان صدامھم بالنیران قد حدث في 27 / أیار ـ ماي / 1967 في الھجوم على معسكر أوفیرو )Uvero(، ومع أنھم خسروا ستة من المقاتلبن، )لقوا مصرعھم( وتسعة من الجرحى، كانت الخسارة كبیرة، ولكن المقاتلین كسبوا الثقة بالنفس، وإحساساً بالنصر، وتقویة روحھم المعنویة، وبالمقابل كانت معنویات جنود الدیكتاتوریة في انحطاط وتراجع متواصل، وبعد ھذه المعركة جرى ھجوم على حامیات صغیرة في سفوح سیرا، وإمكن إبادتھا. وبذلك فإن الجزء الأعظم من الحبل الكبیر أصبح بید الثوار وأراض محررة لكوبا، وبوسع الثوار التجول فیھا بحریة. ھكذا بدأت المرحلة الثانیة من النضال الثوري، التي تطورت فیھا عصابات الغوار إلى جیش الثورة الذي بوسعھ القیام بعملیات عسكریة في أكثر من جبھة.
16
ًن ات إ ش اورة
في حزیران ـ یونیھ / 1957، كانت ھناك استعدادات كبیرة لھجوم قوي یشنھ 200 من رجال الغوار الثوریین، مقسمین في رتلین: الأول كان بقیادة فیدل كاسترو مع بقاؤه القائد العام، والرتل الثاني كان بقیادة غیفارا. وكان قطاع عمل رتل فیدل ھو إلى الغرب من جبل توركینو، أما رتل غیفارا فكان إلى الشرق من القمة. وفي المناطق المحررة، أسرعت قوات الدیكتاتور لكنھا سرعان ما حوصرت من الثوار وقتل منھم وأخذ الباقین كأسرى. وكانت التاكتیكات الذكیة من الثوار وقدراتھم على الظھور والأختقاء المفاجئ في أراضي یعرفون طبوغرافیتھا بدقة وقد اعتادوا على الحركة فیھا، فیما كان العدو لا یستطیع من الاحتفاظ بالأرض وسرعان ما یتركھا بعد احتلالھا. وكان خوف الجنود یتمثل في خشیتھم أن تكون جبال ماستیرا كلھا ملیئة بالثوار، لذلك اختل الانضباط في الجیش، وشاع التمرد على الأوامر، والھروب من الخدمة. ومع الأتساع المتواصل في حجم جیش الثورة، كان من الضروري أیضاً ” عزل القش عن الحنطة ” ومع تصاعد الوعي عند المقاتلین، كان ھناك من یفھم أن الثورة مغامرة، بل وبعضھم اراد ممارسة النھب والاستیلاء على العقارات، ولھذا التحق إلى الثورة. وفي منطقة كاراكاس وإللومون نشطت عصابة إجرام تمارس السطو والتسلط على الشعب بأسم الثورة، وقد ألقي القبض على قائد ھذه الزمرة شینو شانك وحكم علیھ مع افراد زمرتھ بالإعدام. وكان من الضروري في ھذه الظروف التعامل بالوسائل القاسیة، ضد أي شكل من أشكال الفوضى، وإلا فإن الثقة كانت ستفتقد بین الثوار والشعب. في میامي )الولایات المتحدة( كانت قد تأسست جماعة من المھاجرین الكوبیین، كانت تضم دیمقراطیین مثقفین، ولكن أیضاً ممثلي البورجوازیة الكوبیة، من ضحایا الإرھاب وأسالیب النظام الدیكتاتوري وعناصره في الجیش وفي أجھزة الإدارة. وفي مطلع عام 1957 تقدمت ھذه المجموعة وبتأثیر فعالیات الثورة في كوبا، بتأسیس حكومة لكي یتمكنوا من استلام السلطة بعد سقوط الدیكتاتور باتیستا. وفي تموز ـ یولیھ / 1957 أرسلت ھذه المجموعة من المھاجرین مبعوثان أثنان من قبلھم، إلى جبال سیرا، لیستطلعوا ویتأكدوا فیما إذا كان فیدل كاسترو ورفاقھ الثوار على أستعداد أن یعترفوا بھذه الحكومة، وكان ممثلوا المعارضة البورجوازیة یؤسسون موقفھم على أساس استبعاد ممثلي الجماھیر الشعبیة، والشیوعیین، لكي یتمكنوا من استلام ثمرة النضال لمصالحھم، دون إزاحة كامل النظام الاستغلالي. وكان رد كاسترو على ذلك ذكیا، باقتراحھ، وقبل تشكیل مثل ھذه الحكومة، ولكنھ صاغ بیانا )Manifest( في 12 / یولیھ ـ تموز / 1975 الذي أعلن فیھ الوحدة لكافة قوى النضالیة ” كافة القوى السیاسیة الوطنیة، كافة الاتجاھات المدنیة، وكافة القوى الثوریة، في جبھة وطنیة ثوریة. ومن بین أھدافھا إلى جانب استعادة كافة الحریات والحقوق الدیمقراطیة، ولكن أیضاً التأكید على إصلاح الأرض. وكان التوقیع على بیان / إعلان مشترك كھذا وفي مثل ھذه الظروف توفیقاً
ًً
)Compromise( صحیحا، وضروریا، الذي سیساھم في توسیع الثورة، دون خیانة
للأھداف الاجتماعیة للثورة.
ًً
17
وبعد إعلان البیان، جاء ممثلوا بورجوازیة صناعة السكر إلى منطقة سیرا، لأن الكراھیة
لنظام باتیستا بدأت تحل حتى في أوساط البورجوازیة ویرغبون في إزاحة آمنة للنظام، لا
ًً
تنطوي على مخاطر بالنسبة لھم. ووقعوا سویة مع فیدل كاسترو بیانا، یشبھ إعلانا
)Manifest( لكي یلعبوا ھذه الورقة في میامي، )الولایات المتحدة( وھذا یعني أنھم سیذھبون إلى میامي ویطرحون طلباتھم ومساھمتھم في الحكومة المستقبلیة. لذلك فقد سافروا إلى فلوریدا، وأتفقوا مع مجموعة المھاجرین، ما سمي ” تحالف میامي “)Pakt of Miami( دون أن یشمل حركة 26 / تموز. وھذه المحاولة لجناح البورجوازیة في المعارضة، الاحتمال في انشقاق القیادات في الحركة الثوریة أمكن تلافیھا في خطاب حیوي ومھم لفیدل كاسترو، على ھیئة خطاب مفتوح موجھ إلى موقعي منظمة التحالف . أنتقد كاسترو التجمع البورجوازي للمھاجرین، الذین بدلاً من دعم نضال الكوبیین بالمال والسلاح، یكتفون بالحدیث عن الثورة. وكانت مساعي البورجوازیین الكوبیین في المنفى )الولایات المتحدة( تتمثل حقاً بخداع الشعب وحرمانھ من قطف ثمار نصره، رفض كاسترو أن یكون البدیل حكم الطغمة العسكریة رئیس وحكومة نھابین جدیدة، وطالب الجمیع بأن یقدموا برنامجا ً لحكومة مقبلة، ینبغي أن توافق علیھ كافة القوى المساھمة بالثورة.
ولكن الأمر الحاسم للثورة لیس الاتحاد بحد ذاتھ، ولكن ما ھو أساس ھذا الاتحاد، والشكل الذي یمكن أن تعیش فیھ، والنوایا الوطنیة وروحھ. وعندما لا یؤمن أمرؤ بھذا الشعب، وعندما لا یثق بطاقتھ العظیمة وقدراتھ النضالیة، لا یكون لھذا الشخص الحق، أن یضع یده على قدره وقیادتھ لتحدید مساره، وأن ندعھ یحرف مسار ثورة الشعب الدائرة الآن نحو الحیاة الجمھوریة.
من خطاب لفیدل كاسترو في 14 / كانون الأول ـ دیسمبر / 1957 إلى الأحزاب المساھمة” حلف میامي ” .
وأشار كاسترو إلى ضرورة إلى تحویل الجیش من خلال القوى المسلحة للثورة، لیكون بالامكان محاسبة كافة مجرمي النظام الدیكتاتوري، وأن حركة 26 تموز تنازلت عن المشاركة بالحكومة المؤقتة، ولكنھا عرضت وقدمت كافة إمكاناتھا المادیة والمعنویة. النضال السري، والنضال السري في حبال سیرا، وقبور قتلاھم یمنحھم الحق بأن یوجھوا
الشعب وأن یقودوه، لكي یتمكنوا من حل مشكلات الشعب جذریاً.
النجاحات المتنامیة لجیش الثورة، عملت على تغیر مجمل الأوضاع في كل كوبا.وقام الدیكتاتور باتیستا بتشدید الحصار والمراقبة، وفي آب / 1957، حدث إضراب عفوي في سانتیاغو، عندما اغتیل فرانك بایس، فوجدت كوبا نفسھا في حرب داخلیة، یقودھا من جھة الدیكتاتور بأسالیبھ الدمویة. ومن جانب آخر كان الإرھاب بالقتل والاغتیال لنظام باتیستا، یضخ دائماً بالمناضلین الجدد إلى صفوف الثورة، ومزید من التعاطف الشعبي معھا)الثورة(. وبالمزید من المناضلین وفرت الإمكانیة لتأسیس رتلان جدیدان: أحداھما بقیادة راؤول
كاسترو، والآخر بقیادة خوان المایدا.
18
في المدن وفي الأراضي المنبسطة، في أرجاء لیانو تصاعدت أعداد المناضلین في العمل السري، وكان عدد النساء یتزاید بین المناضلین سواء في الأعمال التحضیریة أو المساعدة، وفي قیادة العمل للفعالیات ضد النظام الدیكتاتوري. وكن فتیات شابات یتولین أمر نقل
الرسائل والأوامر والدعوات لعقد اجتماعات سریة، والأخبار عن الاعتقالات. وفي عام 1957، قمن نساء وأمھات بتنظیم مسیرة احتجاجیة طافت شوارع العاصمة ھافانا، تطالب بإطلاق سراح أقربائھن. وسرعان ما وجد عدد منھن أنفسھن خلف القضبان، ومع تصاعد القمع والاحتجاج، وجدت شرطة النظام والجنود أنفسھم لم یعد بوسعھم التجول لیلاً في الأحیاء العمالیة في المدن. وبالعكس كان كل مطارد من السلطات أن یجد لنفسھ المأوى
ھناك، وكان السكان یقومون بإخفائھم وبمساعدتھم. وقد قام العدید من الشبان بفعالیات قذف القنابل على مراكز للشرطة ومعسكرات الجیش. وتنامى في أرجاء من المدن في البلاد السخط على إرھاب النظام الدیكتاتوري، وكان لمصادرة الأراضي تحت ” الشبھة ” یثیر غضب ملاكي الأراضي من المواطنین، فباشر أبنائھم وبناتھم بالاتصال بمنظمات ” 26 / تموز ” حیثما یجدوھم في مناطقھم. وكانوا یستخدمون سیارات ذویھم في الفعالیات السریة للثورة، وفي نقل الأسلحة والذخائر للثوار، وفي توزیع النشرات، إذ كانت أسماء عائلاتھم وسیاراتھم معروفة لشرطة ونقاط السیطرة / حواجز، الدیكتاتور بوصفھا عائلات مضمونة الولاء. كما أن ممثلوا من الھیئات الروحیة من الكنیسة الكاثولیكیة، كانت تقدم المساعدات للثوار، وذلك بالوعظ بشكل علني تقریباً في الكنائس ضد إرھاب النظام الدیكتاتوري، وبعضھم كان یساعد في تھریب بعض المعارضین والثوار. وفي مدینة سانتا كلارا أقامت النسوة احتفالاً بثیاب الحداد السوداء، بعد مراسم جنازة صلوا فیھا على أرواح ضحایا الإرھاب ساروا في موكب، إلا أنھم تعرضوا إلى الضرب المبرح الدموي والتفریق بھراوات الشرطة .
السجون تمتلأ، ودائماً البشر یختفون، أو یغتالون، قد أصبح ھنا أمراً
ً
یومیا، ودبلوماسي أوربي یقول : أنھ لم یعد یستطیع النوم لأن
مسكنھ بالقرب من مركز للشرطة، ومنھا یتناھى كل مساء صرخات البشر الذین یتعرضون للتعذیب.
تقریر من ھافانا لصحیفة الموند الباریسیة. 31 / أیار / 1958
خلقت ھذه المعطیات ظروفاً في كوبا، ساد فیھا العداء بین كل فئات المجتمع الكوبي لنظام باتیستا الدیكتاتوري وتقربھم من الانتفاضة والثورة، ولم یجد النظام من یقف معھ سوى المنتفعین من الطغیان من الفاسدین ممن كانوا یستفیدون من النظام. والجنود كانوا یطیعون
ویخافون ضباطھم، رغم أن بین ھؤلاء كان من یكره النظام ولم یكونوا موثوقین. وكان أعوان باتیستا في الجیش وفي الشرطة، یخافون عاقبة ما یفعلون ویدركون كره الناس لھم لذلك كانوا یضربون بلا رحمة، وعبثاً حاول الدیكتاتور أن یستخدم الشعارات المعادیة للشیوعیة وأن یسیئ إلى الثورة وقادتھا بأعین الناس، بوصفھم بأنھم ” عملاء الشیوعیة
الدولیة “، ولكن موجة الثورة كانت تتصاعد في البلاد بصورة لا یمكن إیقافھا. 19
وعلى الرغم من أن الدمج لم یكن كما ینبغي بین الحركات الثوریة في ھذا الوقت في مناطق سیرا ولانو، والسبب یكمن في غیاب التاكتیكات الموحدة )التنسیق( بین القیادات للحركات الثوریة مثل ” حركة 26 تموز ” وكذلك الانشقاقات بین القوى الثوریة في أرجاء البلاد، ومن ھنا كانت الحركات الأنفرادیة القرار كھجوم تنظیم” مجلس الطلبة ” على قصر الرئاسة في ھافانا العاصمة في 13 / آذار ـ مارس / 1957، وكذلك لأنتفاضة قسم من البحارة في سینفویغوس في أیلول ـ سبتمبر / 1957 كان مصیرھا الفشل، لأنھا جرت بدون تنسیق، ولم تصل المساعدات التي كان یأملون وصولھا والقوى المحلیة لحركة 26 تموز لم تكن لوحدھا كافیة، للحفاظ على سینفویغوس، والمساعدات من الوحدات القریبة لم تحدث ورفضوا عرض الثوار في الانسحاب إلى جبال سیرا، لذلك لم یكن من بد لاندحارھم الذي كلف
كانتفاضة الطلبة الكثیر من الدماء والكثیر من الشبان الشرفاء الثوریین. وصعوبة أخرى تمثلت بالعداء للشیوعیة المتنامیة في الأوساط البورجوازیة التي شكلت الجناح الیمیني في حركة 26 تموز في لانو التي كان لھا صلات وثیقة بالحزب الشعبي الاشتراكي. وكان الشیوعیون المنظمین جیداً یخوضون منذ سنوات نضالاً ضد الإمبریالیة والدیكتاتوریة الرجعیة، ومن أجل ذلك كانوا یلاحقون بوحشیة من أجھزة السلطة. وشن نظام الطاغیة باتیستا بصفة خاصة بعد الھجوم على معسكر المونكادا، حملة تصفیة إرھابیة ضد الحزب الشیوعي، حزب الطبقة العاملة، على الرغم من أنھم لم یكونوا مساھمین بالعملیة أو بالأعمال التحضیریة لھا. ولكن الشیوعیین أعلنوا على أیة حال تضامنھم مع ” الفیدیلیون ” )نسبة لفیدل كاسترو / المترجم( ووضعوا بعضھم نفسھ في قمة الكفاح من أجل
الحریة)توصل بعضھم إلى مرتبات قیادیة في الثورة / المترجم(. وكان الشیوعیون قد عقدوا أیضاً الصلات مع حركة 26 / تموز بعد العفو الذي أرغم علیھ النظام الدیكتاتوري عام 1955، ولكن الحزب لم یكن مقتنعاً بعد أن الكفاح المسلح ھو عنصر جوھري في الاستراتیجیة الثوریة، وكان الاعتقاد ھو أن اضرابات قویة تعقبھا انتفاضة مسلحة ترغم الدیكتاتور على التخلي عن الحكم . وأدى الانشقاق في النقابات وتسلط العصابات على قیاداتھا بحسب النموذج الأمریكي، إلى ضعف الطبقة العاملة، وأضعفت من التأثیر الشعبي للشیوعیین، ولذلك فشل الإضراب الذي دعى إلیھ الحزب الاشتراكي الشعبي في نھایة عام 1955، وأطلقت موجة جدیدة من الإرھاب ضد العمال. وبسبب ھذه الظروف لم یكن بوسع الطبقة العاملة أن یكون لھا الدور القیادي في الثورة. وكانت مساعي الحرب الاشتراكي الشعبي قد أسفرت عن جبھة وطنیة ضد نظام باتیستا، مع حركة 26 / تموز وخاضوا بعض العملیات التخریبیة الھادفة المنظمة. رغم أن ھذا لم یمكنھم من تفادى الانشقاق في حركة المقاومة، كما أنھا أدت إلى نشوء اتجاھات فوضویة في أوساط الشباب، ومن جھة أخرى إلى تنامي نفوذ وتأثیرات الثورة في الجناح الیساري لحركة 26 / تموز، ولا سیما في مناطق الثورة سیرا ماستیرا. وھنا ابتدأت المرحلة الثالثة من الثورة عام 1957 والصراع المسلح، والتي استغرقت حتى شھر أیار ـ ماي / 1958 واتسمت بالتنسیق بین القوى الثوریة الأساسیة.
20
)الصورة : كاسترو ورجالھ یخططون لعملیة(
را ًس ا اوط اودة
وفي العبور إلى عام 1957 ساد نوع من التوازن العسكري بین الثوار وقوات باتیستا. فلم یكون بمقدور قوات الحكومة الصعود إلى معاقل الثوار في سلسلة جبال ماستیرا، كما لم یھبط الثوار من الجبال والابتعاد عن قواعدھم في معاقلھم الجبلیة المحكمة. في منطقة تیرالبري، أمكن تطویر صناعة تموینیة بالحدود الدنیا، تولت إمداد الخبز، وإصلاح الأسلحة، وصناعة بعضھا )قنابل یدویة( التجھیز، ومطبعة صغیرة لإصدار صحیفة ” El Cubano Libre ” الكوبیون الأحرار، وكان ھناك محطة للتمریض، وحلقة مواصلات، ومنظمات ابتدائیة لإدارة أعمال اقتصادیة بسیطة . والمواد المعیشیة اللازمة كان یتم شراءھا من الفلاحین، وھي لم تكن كافیة لرجال یبذلون جھداً وأجسام ما تزال في طور النمو. وقد قام الثوار وكمساھمة في تغطیة تلك الحاجات بزراعة بعضھا في المناطق المحررة كالفاصولیا والذرة والخضروات، ونقلھا بواسطة البغال التابعة للثوار. ویزرعون التبغ لمن یدخن من الثوار، واللحوم كانت یجھزھا كبار ملاكي الأراضي، وفي المدن الصغیرة التي كانت على سفوح الماستیرا، كان الثوار یھتمون بتدبیر بعض احتیاجاتھم مع التجار المتعاطفین مع الثورة، ولا سیما الأدویة في المقام الأول. ومما كان لھ أھمیة فائقة، كانت الإذاعة ” رادیو الثورة ” )Radio Rebelde( التي سرعان ما بدأ إرسالھا یستمع إلیھا الناس سراً في كافة أرجاء كوبا، والتي لعبت دوراً ھاماً في تنظیم النضال السري ضد النظام الدیكتاتوري. والمشكلة الأصعب لجیش الثورة، كان في الحصول على الأسلحة من لانو. والتنقل عبر الأراضي غیر الممھدة في جبال سیرا، كان أمراً مرھقاً ولم یكن النقل ممكناً إلا بواسطة البغال أو یتولى حملھا المقاتلون على ظھورھم، وتجنباً لھجمات من طائرات، أو من قوات باتیستا، كانوا یضطرون إلى التنقل عبر مسالك ضیقة في الغابات الكثیفة.
21
ولم یكن ھذا إلا جزء من المشكلة، وكان إلى جانب ذلك ھناك المناقشات الحامیة، بین فیدل وقیادي حركة ” 26 تموز ” في لانو لأنھم كانوا یریدون استعادة الأسلحة التي قدموھا للثورة لیزودوا بھا رجال تنظیماتھم السریة. وأخیراً تمكن فیدل من إقناع قادة ھذه الحركة في لانو أن إضعاف جیش الثورة سیكون لھ تأثیره السیئ على الثورة برمتھا، وتوصلوا إلى تنظیم
إمداد الثورة بالمزید من السلاح والذخائر. وكان النقل یتم في صنادیق مموھة، حتى سفوح جبال سیرا وھناك بحمایة أحد ملاكي الأراضي الكبار من المتعاطفین مع الثورة، وكان فیدل وراؤول یحرصان أیضاً على إنتاج الأسلحة في ورشھم وكانت تتألف بدرجة رئیسیة من القنابل الیدویة، وكانوا یحصلون على المتفجرات من ما تقذفھ الطائرات من قنابل غیر منفلقة. وفي قضیة تجھیز السلاح إلى جیش الثورة في سیرا، كنت ھناك خلافات تكتیكیة مع قادة حركة ” 26 تموز ” في لانو، فقد كان الخلاف التكتیكي یدور حول توسیع مناطق العملیات لجیش الثورة، بما في ذلك الاستیلاء على مدینة لانو نفسھا، وكان قادة الحركة یرغبون بأن یكون لمناضلیھم دوراً في ذلك، ویرغبون الإسراع في بدء المعارك ھناك، ومن أجل الحصول على دعم جیش الثورة، كانوا یرغبون بتدخل مباشر وفوري من قبل جیش الثورة في لانو.
)الصورة : تسمیة راؤول كاسترو قائداً لجبھة بخط وتوقیع فیدل كاسترو( 22
وكان قادة 26 تموز یأملون من خلال إضراب قوي یكون بمثابة توجیھ ضربة، أن یتمكنوا من إسقاط سریع للسلطة الدیكتاتوریة وأستلام الحكم.. ولكن توازن القوى كان لما یزل غیر مناسبا، إذ لم تكن الجبھة الوطنیة المعادیة لنظام باتیستا قد تشكلت بعد. رغم أن فیدل كان قد حذر من تقسیم جبھة سیرا، لكنھ أوضح لقادة لانو صیف عام 1957 أن یحاولوا القیام بأولى المحاولات القیام بالمحاولات وتنفیذ أولى العملیات، وكانت الخسائر عالیة بالاسرى، ثم
أنسحاب ضروري وتقییم للعملیة والخطط. وكانت كلتا العملیتان اللتان قام بھما جیش الثورة في شھر مارس / آذار / 1957 من أجل
توسیع مناطق العملیات، أوضحت بجلاء أن العملیات العسكریة المتواصلة في منطقة لانو لعملیات العصابات غیر مواتیة بعد. والنجاح الذي حقق الرتل الذي قاده راؤل كاسترو ضد رتل من العجلات العسكریة كان بالدرجة الأولى بفضل السرعة، والخطة التكتیكیة الناجحة
للأشتباك والانسحاب من المناطق التي كان یتواجد فیھا جنود باتیستا. وكان الرتل قد وصل إلى فرع لسیرا دیل كریستال في الشمال الغربي لمقاطعة أورینت وأفتتح ھناك الجبھة الثانیة والتي حملت أسم ” فرانك بایس “. وفي نفس الوقت تقدم خوان المایدة إلى المناطق الشرقیة لمقاطعة أورینت، الذي أبتدأ ھو الآخر عملیاتھ العسكریة بنجاح، وأسس بذلك الجبھة الثالثة. وكانت ھذه العملیات الناجحة دافعاً للدیكتاتور باتیستا تصعید إرھابھ من جھة، ومطالبة قیادة لانو الملحة في العمل. وكان من البدیھي ضرورة القیام بأستطلاع سیاسي، وفعالیات تمھیدیة، للجماھیر وفي ھذا الإطار نادت ” منظمة جبھة العمال ” التابعة لحركة 26 ــ تموز في التاسع من أبریل ـ نیسان / 1957 إلى الإضراب العام.
23
)الصورة : من الیسار: راؤل، رامیرو فالداس، فیدیل، سیرو ریدونو، مقاتل، صورة تذكاریة قبیل أفتتاح الجبھة الثانیة( وقامت رئاسة اركان جیش الثورة بتنظیم ھذا القرار وأرسلت رتلاً بقیادة كامیلو سینفیغوس لدعم الإضراب في لانو. وأدى قلة التنظیم ورفض قادة نقابات العمال الفاسدین إلى فشل الإضراب، والنتیجة كانت ھزیمة مرة لنضال العمال، الذین كان علیھم الآن مواجھة موجة جدیدة من الإرھاب، فیما تعین على القائد كامیلو سینفیغوس الانسحاب عائدا ً إلى جبال سیرا.
في 3 / ماي ـ أیار / 1958 انعقد في جبال سیر لقاء مھماًبین قادة حركة ” 26 تموز ” للخروج بثبات من آثار ھزیمة الإضراب العام، وكان ممثلي العمال في الحركة والذین كانوا یمثلون لوحدھم اتجاھاً یعتمد على المغامرات والمجازفات طرحوا برنامجا للانقلاب،
ولكنھم واجھوا انتقادات حادة. وكان ھذا یتفق مع وجھات نظر الحزب الشیوعي. ولكن النقد الحاد أصاب قیادة الحركة في بلدة لانو، التي لم یكن بوسعھا إقامة تقدیرات سلیمة لتوازن القوى في البلدة، كما لم یكن بمقدورھا أن تعمل وفق الاستراتیجیة والتكتیك الثوري لكامل البلاد. وفي خضم ھذا الصراع الصعب برزت المقدرة القیادیة والمعنویة لفیدل كاسترو، وھیبتھ ومكانتھ في الحركة وتأثیره على الكادر وقدرتھ على تشخیص الأخطاء،
وإعطاء رأیھ لتصحیحھا. وقد اتخذ قرار حاسم بإعادة تنظیم الحركة : وبتغیر المناصب والقیادات في بلدة لانو، وتشكیل سكرتاریة عامة لعموم الحركة، التي أستلم فیدل كاسترو قیادتھا. وعلى ھذا الأساس أصبحت القیادة العامة لكلا الجبھتین العسكریة والمدنیة تتمركز في قیادة واحدة مقرھا القیادي في جبال سیرا.
24
)الصورة : فیدل كاسترو مع الفتیات في جیش الثورة وقد قمن بأعمال مجیدة، وأسسن كتیبة خاصة بھن( وكان ھذا وفق الشروط والمقایس الكوبیة إجراء صحیحا، تأسیسا على شخصیة وقدرات فیدل كاسترو، والتطور النظري للحركة في مسار الثورة، ولاحقاً فسرت على نحو خاطئ ” المثال الكوبي „ التي أنتجتھا البورجوازیة الصغیرة ـ الرادیكالیة في نظریة ” حروب الغوار ” )Guerillerism( بعد تجربة ثوریة ناجحة ولا سیما في أمیركا اللاتینیة بقیادة محارب غوار، لا بل حتى قبل تأسیس وقیام المنظمة الثوریة القائدة، وبالمقابل یظھر لنا إعادة تنظیم حركة ” 26 ـ تموز ” أن المقدمات الحاسمة لأنتصار الجماھیر الشعبیة یكمن في تسلحھا بآیدیولوجیة العمالیة التي تقود النضال الثوري على قاعدة الأنضباط لجمیع الحركات الوطنیة المتحالفة المناضلة مع كافة القوى المعارضة الثوریة.
ًً
25
)الصورة : إحدى مقرات جیش الثورة في جبال سیرا(
وعلى أساس من إعادة تنظیم، كانت ھناك مقررات حول التنسیق للتحركات والعملیات الثوریة في كافة المناطق وكذلك بالعمل مع قوى المھاجرین الكوبیین في الخارج. وأستلمت المناضلة القیادیة ھایدا سانتاماریا )Haydee Santamaria( مھمة القیام توفیر مصادر
مالیة لدعم الثورة في الخارج )میامي / الولایات المتحدة(.
وكن مجموعة من الفتیات المناضلات المقاتلات في صفوف الثورة إبرزھن : ھایدا
سانتاماریا، میلبا ھیرنادز، فیلما أسبین، كیلیا سانشیز، وقد واصلن الكفاح الثوري الوطني
حتى أواخر أعمارھن.
والآن صار بالامكان مواصلة الحرب الثوریة عسكریا وسیاسیا، بقیادة فیدل كاسترو، وبھذا
أیضاً أستبعد نشوء سیاسة مغامرة ضمن الحركة، التي تكلف دماء وضحایا لا طائل منھا،
كما تضعف الثقة بالنصر لدى السكان في النضال الثوري.
وكسكرتیر عام للحركة، وكقائد أعلى لجیش الثورة، بدأ كاسترو الآن یقیم الصلات مع
المرشحین لرئاسة الدول من المعارضة البورجوازیة الدكتور أوروتیا، الذي كان یقیم في
فنزویلا لیتحادث معھ بشأن توحید المواقف السیاسیة، والعمل على إحباط محاولات
البورجوازیة من إحداث الانقسامات والانشقاقات في صفوف المعارضة.
ولھذا الغرض أقیمت عبر محطات اللاسلكي للثورة خط أتصال مع كراكاس/ عاصمة
فنزویلا، مع أوروتیا الذي یحتفظ بعلاقات ودیة من رئیس فنزویلا لارازابال الذي وعد
بإرسال طائرة محملة بالسلاح للثوار.
شجع فشل الاضراب العام الدیكتاتور باتیستا للتخطیط والقیام بھجوم شامل مضاد على معاقل
الثورة في جبال سیرا. وقد حضر لذلك بأن قذفت الطائرات منشورات تعد الثوار بالعفو لمن
ًً
یسلم نفسھ. وقد أفترض الثوار من ھذه النداءات بأنھم ینتظرون ھجوما كبیرا، وأتخذوا
أستعداداتھم حیال ھذا الھجوم المرتقب، وتحسبوا حاجاتھم للذخیرة، والسلاح وغیرھا. في 25 / ماي ـ أیار / 1958 أبتدأت قوات باتیستا الھجوم. وفي ھذا الیوم كان فیدل یتحدث مع الفلاحین حمول حصاد القھوة الذي كان تحت الخطر لأن الجیش لم یكن یدع أحد بمد ید
المساعدة للفلاحین في جني محصول القھوة. أقترح فیدل نظاماً للعمل والمساعدة المتبادلة وأن یساعد المقاتلون الفلاحون. ولكنھم ما كادوا یشرعون في مرحلة التجمع، حتى أبتدأت طائرات السلطة الدیكتاتوریة مناطق تیرالیبرا، وفي نفس الوقت تھیأ عشرات الألوف من جیش الدیكتاتور لأقتحام جبال سیرا. وكان على الثوار الانسحاب لأتخاذ مواضع دفاعیة أفضل، على الرغم من أن التوازن في القوى البشریة كان لصالح جیش العدو 1 : 10، بل وتبلغ حتى 1 : 15 ، وأن كان العدو یستخدم الدبابات والمدفعیة والطائرات، رغم ذلك لم یتمكن من أحتلال سیرا. وفي خلال شھرین ونصف من الھجمات خسر العدو أكثر من 1000 رجل بین قتیل وجریح وأسیر. كما كان یتصاعد أعداد الجنود الذین یفرون من الجیش ومن ساحات القتال. وفي الھجمات الأخیرة على سیرا، تحطم العمود الفقري لجیش العدو، كما أنھم لم یحرزا النصر، ولم یعد قادة جیشھ یفكرون بالتعامل مع الجبھة الثانیة في سیرین دي كریستال .
ًً
26
)الصورة : فیدل كاسترو وكامیلو سینفویغوس القائد في الثورة(
27
ً أر اوار
في النصف الثاني من عام 1958 بدأت المرحلة النھائیة في النضال ضد لنظام باتیستا
الدیكتاتوري المكروه. وأصبح الثوار یسیطرون في ولایة أورینتا على مساحة قدرھا 12 ألف
ًًً
كیلومتر مربع. ویطبق في ھذه المنطقة نظاما جدیدا ثوریا، سیكون الأساس في مؤتمر أكتوبر
ـ تشرین الأول / 1958 القادم تحت شعار ” فلاحین تحت السلاح ” والذي سیتم فیھ التأكید فیھ على مبادئ إصلاح الأرض، ودخلت إلى الخدمة والعمل 200 مدرسة، كما تأسست 300 مرحلة )صف( في نضال لمحو أمیة الفلاحین وابناؤھم. كما تأسست 12 مستشفى، وإذاعة بصوت الثورة، شبكة للاتصالات البعیدة )لاسلكي(، سبعة مطارات، وصحیفة، ومحاكم
ثوریة لإدانة أذناب وعملاء باتیستا. وكان عجز الجیش الحكومي التابع للدیكتاتور عن الانتصار على الثوار، أعلن عن المصیر الحتمي لأنھیار النظام الدیكتاتوري. وھذا ما أدركھ أیضاً الضباط الكبار في جیشھ، الذین بدأوا یفكرون في كیفیة حمایة ظھورھم. وھنا عرض الجنرال كانتیلو قائد الجیش في منطقة اورینتا على فیدل كاسترو بخلع وإبعاد باتیستا، وكان یأمل أن ینصب نفسھ مكانھ. واستقبل فیدل مبعوثاً من الجنرال، وأخبره أن على الجنرال أن یلقي القبض على باتیستا، وأن یقدم للمحاكمة. أما عن السلطة فإن الثوار فقط یحق لھم استلام السلطة، إذ أن الثورة لم تكن حادثاً عرضیاً أو
ًً أعتیادیا، وھذا لن یكون ممكنا إلا عبر ضرب النظام وتقویض الجھاز الدیكتاتوري وقواتھ.
وأزداد الوضع السیاسي للثوار قوة ومتانة وذلك من خلال المساعي في تشدید الصلات القویة مع الشیوعیین كان یتحقق في القیادات العلیا. التقى كارلوس ردریغوس عضو المكتب السیاسي للحزب الاشتراكي الشعبي مع وفد یمثل الشیوعیین، في سیرا، للتباحث في تنسیق
الفعالیات النضالیة. وعدا ذلك، فقد أنظمت بسرعة أعداد غفیرة من أعضاء الحزب، في جیش الثورة، وزادوا من متانة التكوین الآیدیولوجي والعسكري لجیش الثورة، وھذا الأتحاد النضالي أصبح الأساس الذي أمكن التغلب على إدانة حركة 16 تموز بمعاداة الشیوعیة الذین كانوا یمثلون بثبات أفكار فیدل كاسترو. على كل حال، سرى ھذا التوجھ بسرعة وبتفھم تام في صفوف جیش الثورة، أوسع من تلك الدعایات وأفكار الحركة المدنیة التي كانت تتألف من عناصر بورجوازیة، وأحیاناً من الموسرین والأثریاء، وأصحاب الأعمال المتوسطین وأبناء وفتیات من البورجوازیة الكبیرة، الذین كانوا یھدفون أیضا إلى إزاحة باتیستا، ولكنھم كانوا یرون في الشیوعیة خطر لممتلكاتھم وثرواتھم، وكانوا یمارسون الدعایة المشحونة بالعداء لھا.
28
كانت كوبا في تلك السنوات الملتھبة، تمور بالحركات السیاسیة، إلا أن أي منھا لم یكن بقادر على بسط نفوذه على الشارع، والسلطة السیاسیة كانت دیكتاتوریة فاسدة، وغیر مقنعة إلا لفئة ضئیلة من المرتشین والفاسدین. وكان الیسار الكوبي منقسم على ذاتھ إلى أحزاب وحركات ومجامیع، فقد كانت ھناك ثلاث حركات رئیسیة : الحزب الشیوعي الكوبي/ الحزب الاشتراكي الشعبي، ثم حركة 26 / تموز الأقرب إلى الثورة المسلحة بقیادة فیدل كاسترو، ولم تقتنع الحركات الیساریة بصورة تامة بنجاح الثورة المسلحة، إلا في أواخر 1958، وبدأت بالالتحام بالثورة
كحركات وكأفراد. / المترجم
كان باتیستا لما یزل یمتلك التفوق فقط من الناحیة الكمیة، كان یمتلك الأسلحة بلا رجال، لیقاتلوا بھا، لذا لم یكن لھا قیمة. لذلك كانت أعداد الجنود تتناقص الذین لم یكونوا على استعداد للقتال، ولم یكن حولھ سوى حفنة من كبار الضباط الفاسدین للقتال والموت. وھؤلاء
كانوا جبناء، ولم یحدث أن ذھب أحدھم للجبھات لیلقي نظرة على ما یدور ھناك. وحتى أولئك في ” قمة المجتمع” الذین كانوا یدفعوه، أعطوه ظھورھم الیوم، فھو یبدو لھم الیوم بأنھ عدیم القدرة على تحقیق ” الھدوء والنظام ” في البلاد. والكثیر منھم یدفعون
الضرائب الآن للثوار لیضمنوا عدم مصادرة ممتلكاتھم. وفي الولایات المتحدة تزداد الأصوات المطالبة بإعلان عدم كفایة الدیكتاتور باتیستا “رجلھم في كوبا” وبتمثیل احتكاراتھم في كوبا والدفاع عنھا. وفي مجلس الشیوخ بواشنطن اقروا بعدم مواصلة مساعدتھ بالأسلحة، لأنھا ستسقط لا محالة بأیدي الثوار. لا بل وضعت حكومة الولایات المتحدة خططاً لمواصلة التباحث مع بورجوازیة السكر لإیجاد مخرج من “الأزمة” في كوبا، ولكن تدخلاً مباشراً )غزو( لم یكن یبدو ضروریاً. إذ كانوا یأملون خیراً من البرنامج السیاسي للحركة المعادیة لباتیستا، واعتمادھم على القوى البورجوازیة المشاركة فیھا، وعلى التبعیة الاقتصادیة التامة لكوبا للولایات المتحدة، التي تجعل من المحال إحداث تحولات اجتماعیة رادیكالیة الطابع. كانت قوى الثوار تتصاعد وتنمو بتواصل ولا سیما من خلال تزاید التعاطف والتأیید الذي كانوا ینالونھ من كافة فئات الشعب، فقد كانوا ینالون الدعم من الفلاحین في كل مكان، والذین كانوا یشكلون أیضا ً الأكثریة في جیش الثورة. وفي المدن، كان انحیاز العمال، والطلاب، والمثقفین، والبورجوازیة الصغیر، لصالح الثورة
ًً متواصلا ومتصاعدا، ومساھماتھم في الأعمال الثوریة فعالة. وعلى الرغم من الاعتقالات
في صفوفھم والتعذیب في المعتقلات، والاغتیالات التي كانت الشرطة السریة لباتیستا تمارسھا، التي نفذت القتل بحق 20 ألف شخص حتى نھایة عام 1958، كانت الفعالیات الثوریة ضد النظام الدیكتاتوري في تصاعد. في آب 1958 تقدم فیدل كاسترو بمشروع ” الخطة الاستراتیجیة ” القاضیة بتوجیھ ضربة نھائیة للقوى المعادیة. وكانت ھذه الخطة تنص على تقدم جیش الثورة في ثلاثة محاور :
1. المحور الأول : سانتیاغو، تحاط بمرونة من قبل فیدل وراؤل. 2. المحور الثاني : یتقدم رتل كامیلو سینفویغوس صوب بینار دیل ریو. 3. المحور الثالث :یتقدم رتل بقیادة أرنستو غیفارا )وأسمھ الحركي ـ تشي Che( صوب
لاس فیلاس. والأخیر كان علیھ أن یتصدى لمھمة عسكریة صعبة، إذ كانت المنطقة 29
التي سیتقدم بھا على تماس من غرب ومن شرق الجزیرة )كوبا(، بعقد مواصلات العدو علیھ أن ینھیھا، وبنفس الوقت علیھ أن ینشئ الصلة والمواصلات بین المجموعات القتالیة في منطقة الجبال الصخریة لاس فیلاس.
وكانت مجموعات معارضة شتى تناضل منذ صیف عام 1957، مجامیع غوار، من منظمة الطلاب، وبعض المجامیع المسلحة من حركة 26 تموز، والذین كانوا أحیاناً یتنافسان فیما بینھما، وبطموح خاطئ یعتبران ھذه المنطقة ك ” قطاع نفوذ ” لھما. وكان غیفارا یرید أن یجمع ھذه التنظیمات في فصائل مسلحة ویوحدھم مع الفصائل المسلحة للحزب الاشتراكي
الشعبي في لاس فیلاس.
قام فیدل كاسترو بتعین تشي غیفارا ” قائداً لكافة الوحدات الثوریة في منطقة لاس فیلاس “.
من أجل أن یكون لكل ھذه الوحدات قیادة واحدة.
أدرك غیفارا أن رتلھ یواجھ تمركزاً قویاً لقوى الأعداء، وأن الطریق إلى لاس فیلاس یتطلب
جھوداً كبیرة، وھنا واجھ عناصره من المقاتلین بأنھم أحرار في مواصلة الطریق معھ،
بعضھم تقدم برجاء البقاء في منطقة الجبال، ولكن الأغلبیة الساحقة منھم وافقوا على التقدم
معھ في المھمة الصعبة، وكان ھذا ھو أقصى جھد لدیھم.
في 30 / أوغست ـ آب / 1958 غادر رتل غیفارا قواعده في سیرا، وتقدم صوب مانزانیلو.
وھناك مكث ینتظر سیارة شحن تلك التي سوف تنقلھم. وفي المطار الذي كان یقع غیر بعید
عنھم والذي كان محتلاً من قبل رجالھ، ھبطت طائرة قادمة من فنزویلا تحمل لھم السلاح
والعتاد. ولكن العدو أكتشف الطائرة وبدأ بقصف المطار بالمدفعیة الثقیلة وفي ھذا الوضع
شن ھجومھ، وحوالي الفجر كان یجب إضرام النار في الطائرة لكي لا تقع بأیدي العدو
وحتى سیارات الشحن كان یجب أن تحرق، وأستولى جنود باتیستا على سیارة الصھریج،
وھكذا لم یعد لدى الرتل محروقات.
وھكذا تعین علیھم مواصلة التقدم غرباً سیراً على الأقدام. وعلى الرغم أن المقاتلون، حصلوا
بالقرب من بلدة بایمو على سیارة شحن، لكن لم یكن بالإمكان استخدامھا ذلك أن عاصفة قویة
وأمطار مرارة بحیث یستحیل السیر بھا على الطرقات.
ً
قوات العدو المتفوقة، لذا كان علیھم مواصلة التقدم سیراً على الاقدام واستخدام بعض
الخیول.
في 9 / سبتمبر ـ أیلول / 1958، اصطدمت مقدمة الرتل ووقعت في كمین للعدو، وكان
بوسعھم إبادة العدو، ولكن العدو أكتفى بأكتشافھم وتعقیبھم دون الاشتباك، وسرعان ما ألتحق
ً
برتل غیفارا وحدة من رتل القائد كامیلو سینفیغوس وبدأ الرتل المتوحد بمواصلة التقدم غربا،
وكان علیھم الاشتباك لیلاً ونھاراً مع وحدات باتیستا وطیرانھ. وطیلة التقدم ولمدة شھر كامل لم یكن بوسع المقاتلون أن یتناولوا طعاماً حقیقیاً سوى أحد عشر مرة، والنوم لیلة كاملة لمرة واحدة، ولكن الجزء الأسوء من التقدم كان أمامھم، عندما توجب علیھم أجتیاز منطقة مستنقعات غیر مسكون، حیث ھاجمتھم أسراب كثیفة من البعوض وكان الرجال یكافحون ضدھا، بحال أسوء من العدو الحقیقي. ربما كان شیئاً یعد من العجائب، أن یتمكن 200 رحل من الثوار الذین یبدون ممزقي الثیاب، جیاع، ومنھكین لآخر درجة، أن یضعوا جیش باتیستا المحھز بأحدث الأسلحة في مأزق ثم أن ینتصروا علیھ. ولكن من الضروري الذكر أولاً، أن الشعب )ولاسیما الفلاحین( كان
ولاجتیاز منطقة معینة )Zentralchaussee( التي كانت خطرة جدا، فقد كان علیھم محاذرة
30
ً
یساعد جیش الثورة بقدر استطاعتھم، وثانیا، كان تعبئة كل الموارد، والتضحیة بالنفس كانت
قد أضحت لدى الثوار من البدیھیات، فیما كانت القوى المعنویة للجنود كانت في تراجع متواصل. وكانوا یلاحظون في كل مرة یبشر النظام بنھایة الثورة، یعود الثوار لیھاجموھم فجأة. تسلم غیفارا القیادة العسكریة في منطقة سیرا ایسكمبراي في نھایة أكتوبر، وقد تمكن برغم الصعوبات الكثیرة، أن یتولى قیادة القوى الثوریة في المنطقة ویقود عملیاتھا، وأن یتفق مع المقاتلین الذین یعملون في جبھة یاغویا، مع مقاتلي الحزب الاشتراكي الشعبي. وأراد الدیكتاتور أن ینصت لنصیحة السفارة الأمریكیة في ھافانا، بتنظیم “انتخابات” بتاریخ 3 / نوفمبر ـ تشرین الثاني / 1958 في إطار فعالیة “دیمقراطیة” لإنقاذ النظام. وأتخذ جیش الثورة على عاتقھ مھمة الحیلولة دون ھذه الانتخابات وإحباطھا. فأخذوا یھاجمون الشاحنات التي كانت تعمل على تنظیم الانتخابات، والتنقل، ویدمرونھا، ویصدرون النداءات للسكان بمقاطعة الانتخابات، وأطاعت الكثیر من الدوائر الانتخابیة ھذا النداء، وفي ولایة اورینتا )حیث النفوذ القوي للثوار( لم تنعقد الانتخابات أساساً. في المدن اتسعت ظاھرة الجماعات المسلحة، التي في النضال ضد الدیكتاتوریة وفي نوفمبر ـ تشرین الثاني، ودیسمبر ـ كانون الأول، واخذوا یقطعون الطرقات، وكذلك قطع طرق السكك الحدیدیة في عدة مناطق. وفي ولایة اورینتا، كانت المواقع التي ما یزال ولائھا للنظام الدیكتاتوري، تتلقى احتیاجاتھا من الجو، أو من البحر، وحتى ذلك كان یتعرض تدریجیاً لصعوبات متفاقمة. وكان جیش الثورة یبلغ تعداده الآن 300 شخص، عدا رجال المیلیشیا، والآلاف من المدنیین ممن یساعدون الثورة. وكانت قوات باتیستا التي یتعین علیھا الآن القتال في أربع جبھات ضد أرتال غیفارا وسینفویغس، وراءول وفیدل، ولم یعد بوسع الجیش القیام بھجمات، ومعنویاتھ تھبط بین یوم وآخر. وفي النصف الثاني من شھر دیسمبر ـ كانون الأول / 1958غادر رتل غیفارا قواعده في سیرا اسكامبراي وأبتدأ التقدم بالاستیلاء على نقاط الارتكاز في محافظة لاس فیلاس. كانت الحصون تتساقط واحدة بعد أخرى، بحسب موقف قائدھا، أو بعد أیام من القتال الدامي، أو بسرعة شدیدة بدون مقاومة، وكان الثوار ینتزعون أسلحة الجنود والضباط، ویعتقلونھم، ثم یطلقون سراحھم ما لم یكونوا متورطین بأعمال قتل، بدون سلاح، ومحتقرین من السكان. فھم لم یعودوا یمثلون خطراً. وھذه الطریقة في التعامل تسببت في أستسلام المزید من الجنود. والمتطوعین منھم یقبلون في صفوف الثورة. في 27 / دیسمبر ـ كانون الأول / 1958 ابتدأت بقیادة القائد ارنستو غیفار معركة تحریر سانتا كلارا عاصمة ولایة اورینتا، التي كان یتمركز بھا نحو 5000 من جنود العدو. كما عزز قواھم باتیستا بعدد من المدرعات توجھت من ھافانا إلى المدینة. وفي الطریق إلى المدینة وقبل الوصول، فر عدد من الجنود من القطار، وتمكن الثوار من إیقاف القطار في محطة ما بین كابیرو ومدینة سانتا كلارا وقذفوا المدرعات بالقناني الحارقة، وأرغموا أعداد المدرعات من الجنود على الاستسلام، وھكذا تمكن 18 رجلاً من أخذ أكثر من 400 من الجنود والضباط إلى الأسر. ووقع بأیدیھم 22 عربة، ومدافع، ورشاشات وكمیات ھائلة من الذخیرة.
31
ًًً
” ابتداء من الآن فصاعدا، سنستقدم بواسطة الخیول أو سیرا على الأقدام. یوما بعد یوم
سیكون الأمر أصعب.. سنعبر ضفاف أنھار، وقنوات، ومستنقعات، وأعاصیر، وسنجھد أنفسنا بأن نبقي أسلحتنا وعتادنا غیر مبللة، وأن نحاول الابتعاد عن مدن أورینتا. تدریجیاً سنصاب بالكآبة، والجوع والعطش والإرھاق، ولكن أیضاً الشعور بانھیار العدو الذي یحاول كل یوم أن یضعنا بین فكي كماشة. الأسوأ ھو أمراض القدم التي تصیب كل منا في كل خطوة التي تسبب في إمراض والألأم.
ًًً
كان وضعنا كارثیا حقا، حتى تمكنا أخیرا وبجھد كبیر تمكنا من النفاذ من الحصار في
باراغوا، وكنا بالكاد قد نفذنا، واجھنا عاصفة مطریة ھائلة فوق رؤوسنا، في طقس لا یرحم. وكان الرتل میتاً من التعب، ومعنویاتھم في ھبوط متواصل، عندما توتر الموقف، ولمحنا في البعد شیئاً أعاد الرجل إلى الحیاة، ومنحھم طاقة وقوة جدیدة: عندما ظھرت لنا
في الغرب سلسلة جبال لاس فیلاس غیفارا یتذكر حملة لاس فیلاس
وفي عاصمة الولایة سانتا كلارا قام عدد من الثوار بإضرام النار في ساحة العدل، في فندق، وسجن الولایة، وقیادة الشرطة، وفي معسكر للجیش. ولفت دخان الحرائق أرجاء المدینة وتسمع أصوات الانفجارات وإطلاق الرصاص. وأبدى سكان المدینة ضروب من المساعدة للثوار فأنزلوھم في بیوتھم، وقدموا لھم الطعام والشراب، وأعتنوا بالجرحى منھم ، ووضعوا
منازلھم تحت التصرف لأي خدمة. كان شباب المدینة یقودون الثوار عبر الأسطح إلى أنسب المواقع للتقرب من العدو، ویدلوھم على الأماكن التي یختبأ بھا عناصر باتیستا، وبالدرجة الأولى رجال الأمن المكروھین. واستفاد الثوار كثیراً من معلومات السكان عن تحركات السلطة ورجالھا. وقدم الكثیر منھم خدماتھ للقائد غیفارا. الدبابات التي كان النظام الدیكتاتوري یضع آمالھ فیھا، ھا ھي الآن في الشوارع بلا نفع. الرجال النساء، الشباب یبنون المتاریس من أجسادھم، ومن الشاحنات، المقاتلون یقذفون الدبابات بالقناني الحارقة، ویرغمون مستخدمیھا من الجنود على مغادرتھا والاستسلام.
ً
كانت طائرات باتیستا تقصف أحیاء في المدینة عشوائیا، التي كان یسكنھا المدنیین وأعداد
من جنوده ممن تركوا الخدمة في الجیش الحكومي. وحوالي الظھیرة من یوم 1 / كانون الثاني ـ ینایر / 1959 استسلمت حامیة سانتا كلارا، وبھذا أصبح الطریق إلى ھافانا العاصمة حراً بالتأكید. وفي الجبھات الأخرى أیضا، كان جیش باتیستا قد اھتز صموده وقلت مقاومتھ. واستطاعت الأرتال بقیادة فیدل وراؤول في الأجزاء الشرقیة من البلاد أن تغلقھا بالكامل، وبذلك أصبحت القوات المتناثرة للنظام ھنا وھناك مقطوعة الأتصال، ولا تصلھا الإمدادات، وسوف تستسلم في غضون الأیام القلیلة القادمة. وفي نقاط كثیرة، كان جنود النظام یسلمون
ً
أنفسھم ومواقعھم بدون قتال تقریبا، ففي 2 / ینایر ـ كانون الثاني دخل الثوار مدینة سانتیاغو
مصحوبین بمظاھر الاحتفال من السكان. والداعم المھم الذي تلقتھ الثورة وجیشھا، كان من الإضراب العام الذي جاء تلبیة لنداء أطلقھ فیدل كاسترو بتاریخ 31 / دیسمبر ـ كانون الأول / 1958، لوضع سلطة باتیستا تحت
32
ً
الضغط المتواصل، جاء مصحوباً بمقترح من قبل السلطة بعقد”ھدنة” كان یأمل منھا أن تحدث الارتباك في صفوف الثوار، وبالتالي إحباط محاولة استلام السلطة من قبل الثوار. وخلال ساعات تشكلت لجنة لإدارة الإضراب، واجتمع ممثلون عن الحزب الاشتراكي الشعبي، وحركة 26 ــ تموز لتنظیم الإضراب العام التي أصابت النظام بالشلل حتى 3/ كانون الثاني/ 1959 وحرمتھ من كل فاعلیة، مع نداءات للجماھیر الشعبیة بمساندة الثورة وقواتھا. وتحت ھذا الضغط من جمیع الأطراف، أنھار نظام باتیستا وأیقن أن نھایتھ قد حلت. ومارس كل الألعاب التي یمارسھا الطغاة الدیكتاتوریین الفاسدین من ھذا الطراز. وفي صباح یوم 31 / دیسمبر ـ كانون الأول / 1958 ابلغ رئیس أركان الجیش باتیستا بأن لا أمل بعد یرتجى في إیقاف تقدم جیش الثورة إلى العاصمة ھافانا. احتفل الدیكتاتور بمناسبة رأس السنة الجدیدة في مقر اقامتھ بالقرب من ھافانا، وأقام احتفالیة صاخبة من الرقص والشراب وھو ما بدا غریباً للحضور، وفي نفس الوقت كان باتیستا قد وضع طائرة على أھبة الاستعداد، وحوالي الصباح، استقل الدیكتاتور الطائرة مصطحباً 20 حقیبة، وضع فیھا أموالاً نقدیة، ومجوھرات، وأوراق نقدیة وسندات، وأشیاء ثمینة ذھبیة وفضیة. أطلق رحیل الدیكتاتور الذعر بین أنصاره، ولحقوا بھ في ھستیریا، وفي المطار أندلع صراع ضاعت فیھ الاعتبارات التي أصبحت قدیمة من أجل أي مقعد في الطائرة التي تتسع ل 35
ًً
شخصا فقط، ولكن في النھایة دخلھا 74 شخصا، والطیار رفض الإقلاع وكان لابد من إنزال
ً
حقائب لتخفیف الوزن، بما في ذلك 10 حقائب تعود لباتیستا شخصیا، حتى تمكنت الطائرة
بالإقلاع. وفي الجو دار صراع جدید حول وجھة الطائرة، الضباط كانوا یریدون التوجھ بھا إلى میامي /الولایات المتحدة، ولكن الدیكتاتور كان یخشى أن یصادف ھناك أعداء معارضون لھ، وكان یرید التوجھ إلى سانتو دومینغو عند “صدیقھ” الدیكتاتور” تروخیلو ” والذي عاملھ فیما بعد بقلة احترام، وأخذ منھ بضعة ملایین من الدولارات ثمناً للأسلحة التي
كان قد أرسلھا قبل السقوط كھدیة، كما طلب ثمناً لإقامتھ، وأیضاً للدعم السیاسي.
ولأن لم یكن ھناك بلد یقبل بلجوء باتیستا، كلن على الولایات المتحدة أن تبحث لھ عن مكان، فسعت لدى الحكومة الأسبانیة في آب / 1959 للحصول للإقامة في مدرید، حیث خصص لھ حصن قدیم، مكث فیھ إلى الأخیر. وكان الدیكتاتور قبیل فراره قد عین خلفاً لھ ھو الجنرال المحتال كانتیلو الذي كان قد وعد فیدل بأعتقال باتیستا، لكنھ لم یفعل ذلك لأنھما كانا من زمرة إجرامیة واحدة، وكان ھدف الجنرال كانتیلو ھو التفاوض مع كاسترو على وقف إطلاق النار، من أجل تسلیم السلطة، ولكن في غضون 24 ساعة تم إنھاء كل شیئ
فالعواصف الثوریة الشعبیة كانت تجتاح كل شیئ.
نحن الیوم نعیش لحظة تاریخیة في تاریخنا. أن الدیكتاتوریة قد ضربت، الفرحة ھائلة، ودون أدنى شك لدینا بعد الكثیر لنفعلھ، ولا یجوز لنا الاعتقاد أنھ سیكون كل شیئ سھل في المستقبل. بل ربما المستقبل سیكون أكثر صعوبة. فیدل كاسترو : خطاب في ھافانا یوم 8 / كانون الثاني / 1959
33
في 2 / ینایر ـ كانون الثاني / 1959 وصل تشي غیفارا ودخل برتلھ إلى ھافانا یتبعھ بكامیلو سینفویغوس وقاما باحتلال آخر معاقل باتیستا في معسكر كولومبیا الذي یضم عناصر النخبة في الجیش، وتم كل شئ دون أطلاق رصاصة واحدة. أستقبل شعب العاصمة محرریھ بحماس وإعجاب لا یوصف. إذ كان باتیستا ورجالھ قد فروا من البلاد، فالمعسكرات ودوائر البولیس لم تعد تبدي المقاومة. ولكن لما یزل ھناك بعد من الأعداء من لم یستسلم بعد. الجنرال كانتیلو وبعض الضباط كانوا متوارین عن الأنظار، إذ كانوا ما یزالون یأملون بمساعدة أو نجدة من سادتھم في الولایات المتحدة، وكان ھذا یعني اعترافاً سریعاً “بطغمة عسكریة”)Military Junta( تتولى حكم البلاد عبر حكومة مؤقتة، وخرج أنصار باتیستا إلى الشوارع لیلة 1 / 2 ینایر ـ كانون الثاني / 1959 یتظاھرون وكأنھم من رجال الثورة، وباشروا بأعمال النھب، من أجل أن یجعلوا السكان ضد الثورة والثوار الحقیقیین. وعلى الفور بدأ غیفارا وكامیلیو بتأسیس مجموعو مسلحة من الثوار، تنزع سلاح أي جماعة لا تنتمي للثورة، كانت تنشط بمساعدة بقایا أنصار باتیستا. وتمكنا بفضل مساعدة شعبیة من السكان المدنیین، وأخذت تھاجم بقایا معاقل باتیستا، وأخذوا باعتقالھم ووضعھم في معسكر كابانیا بأشراف رتل غیفارا وباءت بالفشل كافة المحاولات لإعاقة تسلم السلطة من قبل الثورة. واتخذ غیفارا من معسكر كابانیا مقرا ً وسكنى لھ، حیث أقام ھناك ھیئة ركنھ، وھنا في ھذا المكان أستقبل وبتوسط من كارلوس رفایل رودریغوس في 3 / كانون الثاني / 1959، الرئیس اللاحق لتشیلي: سیلفادور اللیندي الذي بمساعدة منھ كنائب في برلمان تشیلي عام 1952، أعطى غیفارا رسالة توصیة لیتمكن من السفر إلى غواتیمالا.
إلى الشعب الكوبي ھذا الانتصار العظیم للشعب على مضطھدیھ، ینبغي أن یتعزز ویترسخ بمساعدة الجمیع، وبوحدة العمال. إن جیشنا ھو جیش الفلاحین، والعمال، والطلاب، والمثقفین، وھدفھ یتعدى الحرب، بل إلى إسقاط النظام الطغیاني، ولتأمین الدیمقراطیة للجمیع، وأن نتمكن من الحدیث والتفكیر بحریة، ولنتمكن من إصلاح الأرض وتوزیعھا )كما فعلنا في جبال أورینتا ولاس فیلاس(، وأن تكون ھناك النقابات الدیمقراطیة، وأن نضمن حقوق الجمیع ونأخذھا لھم، ونضمن كافة الإجراءات، الضروریة، لضمان حقوق الشعب. أیھا الشعب : إلى الأمام مع الثورة. أیھا العمال : إلى النضال. أیھا الفلاحون : نظموا أنفسكم …!
نداء من رتل غیفارا إلى الشعب في 23 / دیسمبرـ كانون الأول / 1058……………….
وكان اللقاء في كابانیا ھو اللقاء الأول للقائد / الرئیس اللیندي مع قادة الثورة الكوبیة، كقائدین سیلقیان حتفھما في سبیل النضال من أجل قضایا أمیركا اللاتینیة، بما سیھز الضمیر العالمي. في 8 / كانون الثاني / 1959 دخل فیدل كاسترو بموكب نصر احتفالي بصحبة 1500 مقاتل، على ظھر دبابة من طراز شیرمان وسیارات جیب وشاحنات عسكریة إلى ھافانا.
34
وأستقبل بصورة أحتفالیة كان النظام الدیكتاتوري قد تحطم وقد ضحى أكثر من 20,000 كوبي بحیاتھ من أجل أن یتمكن 6 ملایین من البشر )سكان كوبا( من العیش في الحریة في ھذه الجزیرة وكحدث مھم في تاریخ قارة أمریكا اللاتینیة. ولكن النضال لم ینتھي بإنھاء نظام باتیستا الدیكتاتوري، وكان على الثورة والشعب مواصلة النضال خطو فخطوة من أجل الحفاظ على الثورة، وتقدیم المنجزات للشعب الكوبي، وتحقیق ما وعدوه من برنامج.
)الصورة : مسیرة النصر في ھافانا(
فقرات من برنامج الثورة الكوبیة )بالإشارة إلى برنامج خوسیة مارتیة( 1. تحقیق وطن حر ذا سیادة. 2. تشیید جمھوریة دیمقراطیة حقیقیة. 3. تطویر اقتصاد مستقل. 4. تطویر الثقافة الوطنیة.
35
ً
د ً ال ن أل إ ط اب.
الجیش الشعب، والشرطة التي أعید تنظیمھا، أضحت الأساس الذي یعتمد علیھ الشعب بحمایة مكتسباتھ ویوفر الامكانیة لترسیخ السلطة الشعبیة بوجھ مؤامرات إحباطھا. وفي ھیئة حكومة بورجوازیة، وقوى مسلحة، تأسست على ھیئة حكومة ذات سیادتین. أصبحت ھذه فیما بعد واضحة تماماً وذلك عندما كانت تبذل المحاولات الحثیثة من الجناح الیمیني ل ” لحكومة الوحدة الوطنیة” وحركة 26 تموز لتخریب الحكومة. وقد أتخذت الحكومة قراراً بالاجماع بحل أجھزة الأمن، وصرفت 50% من موظفي الدولة، وتسریح كافة اساتذة الجامعة من عناصر باتیستا، وأعادت الشرعیة للحزب الاشتراكي الشعبي، ولكن الحكم على 550 من المجرمین أعوان باتیستا من قبل محكمة الثورة أثارت صخباً من قبل الیمین. العدالة الشعبیة “الشیوعیة” تطلق حمامات الدم، ھكذا كان أعداء الثورة یتھامسون سرا، وسرعان ما سرى ذلك إلى الصحافة الأمریكیة، وابتدأت الحملة ضد “الملتحین” الذین لم یكونوا على استعداد، أن یعودوا بعد القضاء على حاكم دیكتاتوري ” العودة إلى الحیاة الطبیعیة ” التي تعني أن دیكتاتورا ً جدیدا ً سیعتلي المسرح.
ولكن فیدل كاسترو ورفاقھ اعتمدوا على العمال والفلاحین والكادحین من الشعب، وعرضوا
في الاجتماعات الجماھیریة الكبرى أھدافھم ودعوا الشعب لأن یقرر ویحسم. وفضحوا مكائد
الیمین عند بعض ممثلي الحكومة الذین لا یریدون أن یصدقوا على قوانین الإصلاح.
وتحت ضغط الرأي العام أضطر ھؤلاء )الیمین الحكومي( للأستقالة في 13 / فبرایر ـ شباط
/ 1959، وأستلم رئاسة الحكومة فیدل كاسترو.وفي دوائر الدول حلت عناصر ثوریة وھكذا
أمكن البدء بعملیات إصلاح رادیكالیة. ومن أھم تلك تأسیس معھد دراسات إصلاح الأرض
)INRA( التي بدأت تفرض نفوذھا على كافة دوائر الدولة، والتي أخذت تخطط لإحلال
الصناعة في كوبا أیضاً.
ومن خلال ھذه الإجراءات تصاعد الصراع الاجتماعي في البلاد، وشكل كبار ملاكي
الأرض بالإضافة إلى الرأسمالیین، وعناصر نظام باتیستا مجامیع سریة للثورة المضادة
الذین التجأوا إلى جبال اسكامباري ومن ھناك شرعوا بتنظیم إعمال تخریبیة، وبدأ رجال
المخابرات الأمریكیة بالأتصال بھذه المجامیع، وتنظیم عملیات أغتیال ضد فیدل وراؤول
كاسترو.
في أكتوبر ـ تشرین الأول / 1959 سقط القائد كامیلو سینفیغوس ضحیة نتیجة عمل تخریب
بینما كان یحلق بطائرة فوق السواحل الكوبیة. وبعد ضربة تعرض لھا فیدل في 8 / سبتمبر ـ
أیلول / 1960، تأسست لجان الدفاع عن الثورة في المدن، والأریاف والمناطق الصناعیة،
ًً
أنظم إلیھا النساء والفتیات، وتدربن على حمل السلاح وأستلام الحراسات لیلا ونھارا. ”
36
ً
نعمل ونقاتل ” كان شعارا، ومن ھذه الفعالیات والمجامیع تطورت فعالیات جدیدة في نظام
الإدارة التي كانت تھتم بشؤون ومشكلات السكان السیاسیة والاجتماعیة.
أھم الإصلاحات الثورة بعد 27/ فبرایر ـ شباط / 1959
1. في إصلاح الأرض : مصادرة الملكیات أكثر من 10 ألاف ھكتار. توزیع الأراضي على 150 ألف عائلة، وتأسیس الجمعیات التعاونیة. تأمیم 2,9 ملیون ھكتار.
2. الإصلاح الاجتماعي :
تخفیض الإیجارات، مصادرة مساكن أنصار باتیستا، الشروع ببناء المساكن. رفع مستوى أقل راتب، توفیر أماكن عمل. إیجاد التأمین الاجتماعي. تأسیس الخدمات الطبیة.
الثروات الطبیعیة. الاحتكارات الأمریكیة )1960(.
3. تأمیم 4. تأمیم
5. إصلاح نظام التعلیم. 6. بناء المدارس. 7. محو الأمیة )حتى عام 1961(. 8. إصلاح الھیكلیة الاجتماعیة. 9. دمقرطیة النقابات. 10.تأسیس الجمعیات الدیمقراطیة )النساء، الشباب ..الخ(. 11. تأسیس جمعیات الدفاع عن الثورة )1960(. 12. تأسیس الحزب 1965
بضع آلاف من البورجوازیین والأعداء غادروا كوبا واختاروا الھجرة إلى الولایات المتحدة، التي منحت حق اللجوء للعدید من مجرمي نظام باتیستا. وقد أثارت الإصلاحات الثوریة حقد الولایات المتحدة على البلاد، فأمتنعوا عن شراء السكر الكوبي، وسحبوا الأخصائیین من مواقع عملھم من المعامل، ولم یعودوا یجھزون كوبا بالنفط، كما امتنعت المصافي الأمریكیة
من تكریر البترول السوفیتي، لذلك قامت السلطة بمصادرتھا. وبتسلیط ضغوط سیاسیة من حكومة الولایات المتحدة الأمریكیة على كافة حكومات أمیركا اللاتینیة أرغمتھم )عدا المكسیك(على قطع العلاقات الدبلوماسیة مع كوبا.وعلى ھذا النمط، حاو لت ا لحك ومة الأم ری ك یة ب أس تخدام المس اع دات الاقتص ادیة و صولا ً للح ص ار، ك سبیل ل لضغ ط على حكومة كاسترو وتركیعھا. ولأن ھذه الأسالیب لم تكن لتثني الحكومة الكوبیة عن منھجھا، وبفضل المساعدات التضامنیة للبلدان الاشتراكیة وفي مقدمتھا الاتحاد السوفیتي، بدأت الولایات المتحدة تخطط لعدوان عسكري مباشر على الثورة الكوبیة لتدمیر تجربتھا.
37
وباشرت حكومة الولایات المتحدة بقیادة الرئیس جون كنیدي، بالنشاط التخریبي على أراضي غواتیمالا، وذلك بتجھیز قوات عسكریة من المھاجرین الكوبیین والمرتزقة، فقد كانوا یعتقدون أنھم وبعد التدخل العسكري المباشر سیكون بوسعھم تشكیل حكومة في كوبا
ستطلب المساعدة العسكریة من الولایات المتحدة. وبھذه الذریعة اعتقدت الولایات المتحدة سیكون بوسعھا ضرب الحكومة الثوریة في كوبا وإعادتھا إلى العھود الرجعیة / الدیكتاتوریة. وبعد بضعة ھجمات بالقنابل بواسطة طائرات على المطار العسكري في ھافانا في 15 / أبریل ـ نیسان / 1961، نفذت قوات الغزو المعتدیة إنزالاً من البحر في منطقة خلیج الخنازیر )Bahia de cochinos( في نقطة )Playa Giron( ولكن الشعب الكوبي الشجاع تمكن من دحر محاولة الاعتداء على بلاده وثورتھ خلال 72 ساعة فقط… وسخر من خطط المخابرات الأمریكیة ووزارة الدفاع )البنتاغون(. كافة سكان المناطق التي تعرضت للغزو، من الشیوخ وحتى طلاب المدارس، كانوا یساعدون القوات المسلحة الكوبیة التي أسرعت للتصدي وأحرزت الانتصار على فلول المرتزقة والرجعیین. وبعد مقابلات علنیة مع أسرى العدوان، فضحت الحكومة الكوبیة دور الولایات المتحدة كمنظم للقوى المعادیة للثورة لشن ھذا العدوان. كما أوضحت أن بعض الكوبیین یلعبون أدوارا ً في مساعدة القوى الخارجیة ضد بلادھم. وعندما تأكد الأمریكیون أن عام 1961 ھو لیس عام 1954 عندما اسقطوا الثورة في غواتیمالا بواسطة قوى الثورة المضادة وعملائھم في شركات الموز والمتعاونین من الخارج والمرتزقة، فصاغوا عدوانھم ھذه المرة بطریقة الغزو المباشر بإدارة مخابراتیة أمریكیة مباشرة بواسطة سفن من البحر الكاریبي. وتصرفت الحكومة الكوبیة بما یحمي البلاد من اعتداءات أخرى، وتقدمت بطلب الحمایة العسكریة إلى الاتحاد السوفیتي وحمایة البلاد حتى بتمركز الأسلحة الذریة، وقد نجم عن ھذا الوضع معاھدة عسكریة سوفیتیة ــ أمریكیة، أوضحت الحكومة الأمریكیة التھدید، والتزمت من جانبھا أیة إجراءات عسكریة ضد الاتحاد السوفیتي، إذا سحب الاتحاد السوفیتي أسلحتھ النوویة من كوبا. الحكومة السوفیتي في إطار مصالحھا في الحفاظ على السلم الدولي صادقت، بشرط أن یتعھد الرئیس الأمریكي جون كیندي بالتخلي عن كل خطط ونوایا غزو كوبا من جانب الولایات المتحدة الأمریكیة. وبھذا التوافق وجدت أزمة الكاریبي نھایتھا في أكتوبر / 1962، ومثلت انتصارا لقوى السلام العالمي، وفي نفس الوقت المقدمات الضروریة للتطور السلمي للثورة الشعبیة الكوبیة. وتلقت كوبا وبصفة متصاعدة المساعدات الاقتصادیة من الاتحاد السوفیتي والبلدان الاشتراكیة من أجل التغلب على المشكلات القدیمة الموروثة، والتغلب على آثار الحصار. والبلد الذي كان شبھ مستعمرة للولایات المتحدة الذي كان علیھ أن یستورد كافة أدوات الإنتاج والقطع الاحتیاطیة والسلع المستعملة “غالباً” من السوق الأمریكیة، الآن علیھ لأن یعبأ كل قواه مع استعداد عال للتضحیة، وبالمساعدة ا التضامنیة للبلدان الاشتراكیة من أجل بناء اقتصاد جدید. في 1 / أیار ـ ماي / 1961 اقترح فیدل كاسترو، بناء الاشتراكیة تأسیساً على التجارب الثوریة للجماھیر الشعبیة الكوبیة، وتشكل وعیھا في خضم نضالھا ضد قوى الثورة المضادة
38
داخ وخارج كوبا، وأن النضال من أجل الإصلاح الدیمقراطي بحاجة إلى الخطوة الأولى، من أجل مجتمع حر. وبھذه الخطوات دخلت الثورة الكوبیة مرحلة جدیدة من أجل التحولات الاشتراكیة، والصلات الأخویة مع البلدان الاشتراكیة. وعلى الرغم من توفر الشروط الخاصة للتطور الوطني في كوبا، وأن الثورة الشعبیة لم تكن بقیادة حزب الطبقة العاملة مباشرة، ولعبت النظریة الماركسیة ـ اللینینیة لعبت دوراً حاسماً في النضال في مسارات الثورة في تحدید سیطرة الطبقة العامل ودورھا القیادي في المجتمع، ووجدت انطباعھا في تأسیس الحزب الشیوعي الجدید. ویثبت ھذا أن ثورة الشعب الكوبي لھا خصوصیتھا كمسار ثورة تاریخیة في حقبة التحولات السیاسیة والاقتصادیة، وتفند الادعاءات أن الثورة الكوبیة لم تكن في الواقع سوى ثورة فلاحین، أو ثورة مثقفین. إن النضال البطولي للشغیلة الكوبیة ومتوجة بتأسیس سلطة أعمال والفلاحین أمام ” بوابة ” إمبریالیة الولایات المتحدة الأمریكیة وأشرت أن النضال من أجل الاشتراكیة یحرز المكاسب وأن قضیة حریة الشعوب تنتصر. وأن سلسلة حلقات الھیمنة الأمریكیة على قارة أمیركا اللاتینیة قد تحطمت في واحدة من أھم حلقاتھا، وعبر عن أھمیة نجاح الشعب الكوبي في نضالھ ضمت كفاح أمیركا اللاتینیة. وعلى الرغم من أن الولایات المتحدة تواصل حصارھا وتآمرھا على كوبا، إلا أن نجاح التجربة یتواصل، والثورة الكوبیة تصمد والشعب یلتف حولھا.
كانت النقاط الصلبة في نضالنا : الشعب
التجارب التاریخیة. تعالیم مارتیس مبادئ الماركسیة اللینینیة.
كل ما فعلناه وأنجزناه في ظروف نضالنا الصعب فیدل كاسترو : مؤتمر الحزب الشیوعي الكوبي الأول ھافانا / 1975
39
طوا ررا و ق
أرنستو غیفارا المولود في الأرجنتین، كان قد حسم خیاراتھ منذ مطلع شبابھ ومنح روحھ للثورة، للمسحوقین في أرجاء العالم، ھو كان قد درس الطب، ولكنھ مارس طباً من نوع آخر، ھو أن یعمل شخصیاً على فك الأغلال من أیدي شعوب كاملة تحت الأسر، فذھب إلى القیثتنام، وأنغولا، ثم أستقرت سفینتھ في بولیفیا، یعتصر الجبال، لیصنع ثورة في ظل ظروف سیاسیة واجتماعیة ونضالیة معقدة للغایة، وإن كان عقلھ وفكرة یتوھج بالثورة، كانت
السنین قد أكلت من جسده ومن صحتھ، ولكن ھل یعرف رجل كغیفارا التعب ..؟ في معركتھ الأخیرة، قریة )فالي غراندا/ بولیفیا( لعب القدر لعبة السخریة، فأصیبت بندقیتھ برصاصة، ولم تعد صالحة للعمل، وھكذا أمكن لأعدائھ ألقاء القبض علیھ حیاً ….. وھو ما لم
یصدقھ رفاقھ في معقل الثورة … في ھافانا …
رجال المخابرات الأمریكیة لم یصدقوا أي ھدیة ثمینة وقعت بأیدیھم من السماء، بصدفة لا
ًً
یجود بھا التاریخ إلا نادرا، ونادرا للغایة.
قرر الجناة قتلھ، فأوفدوا جندیاً لیقوم بالمھمة القذرة، إلا أن الجندي حالما دخل الغرفة التي
اعتقلوا غیفارا فیھا، نھض تشي وجلس، وأدرك ماذا ینون فعلھ، جلس الأسد، والجندي الذي
جاء لیقتلھ لم یقوى على النظر في عینیھ، ھرب … فر من ھذه المواجھة الصعبة ..!
ًً
أرسلوا ضابطا بعد أترعوه بالخمر، دخل على غیفارا، نھض غیفارا مبتسما، وقال للضابط
المخمور: ھیا أطلق النار … لا تخف ..! سقط غیفارا … جالساً على كرسیھ، یحاكم القتلة، یعلن أنتصاره في نیل ما یرید، أن یقع صریع القضیة، وأن لا یموت بحادث سیارة، أو طائرة، فبصبح بعد سنوات نسیاً منسیاً … شاعر عراقي )شریف الربیعي( كتب قصیدة من ضمنھا بیتاً واحداً أضحت من أشھر بوسترات الثورة الفلسطینیة : حین أستطاع أن یضحك عبر الموت …. أرعب ذل الصوت …
40
یصل الخبر إلى ھافانا، لم یصدق رفاقھ، كیف أستطاع الأوغاد أن یأسروا عاصفة أسمھا
ً
غیفارا … ھذا أمر لا یصدق أبدا، إلا بعد شاھدوا صور بندقیتھ مصابة بطلق ناري عطلھا
عن العمل .. أیقنوا أن الغریب الذي یشبھ المستحیل قد حصل .. كیف ینعیھ رفاقھ … من سیقول وبأي كلمات للشعب الكوبي ولأمیركا اللاتینیة، ولشعوب العالم بأسره، أن غیفار قد مات … و بأي كلمات … ألقى كاسترو خطاباً في الجماھیر، أستغرق ساعات، تحدث عن الثورة الكوبیة، تحدث عن ثورات العالم، تحدث عن الثوریین، تحدث عن الرجال الأبطال، تحدث عن كل القضیة ومحركیھا، وأخیراً تحدث عن رفیقھ وصدیقھ … رفیق غرانما وسیرا ماستیرا، وبطل سانتا كلارا، تحدث وأفاض، وفي ختام كلمتھ قال كلمة ھي جماع روحھ: ” لابد أن تشي )غیفارا( قد قضى ساعات مریرة بین أیدي جلادیھ، ولكن من منا مؤھل لمثل ھذا الامتحان كغیفارا ……” قرأت ھذه الكلمات قبل ثلاثین عاماً ولكني أسطرھا الیوم تقریباً كما وردت، وفاء للثورة الكوبیة، ولكاسترو، ولغیفارا، فقد وقفوا بالكلمة والبندقیة مع شعبنا العربي وقضیتھ.
ضرغام الدباغ
أرو را
)الصورة : أرنستو تشي غیفارا وقد تحول إلى إیقونة نضال وعمل للملایین من البشر في العالم(
كان غیفارا قد ترك رسالة إلى رفیقھ كاسترو .. ھي رسالة الوداع، وھا نحن نضعھا ھنا كقطعة من الأدب الثوري الرائع.
رسالة وداع من غیفارا إلى فیدل كاسترو … نیسان / أبریل 1965 41
فیدل … إني أتذكر في ھذه اللحظة أشیاء كثیرة… اللقاء الأول بیننا في منزل ماریا أنطونیو حینما دعوتني للأنظمام إلیك. الاستعدادات السریعة للرحلة، عندما وجھ أحدھم السؤال إلینا : ” من ھو الشخص الذي یمكن إبلاغھ بخبر وفاتكم ؟ ” وفي ذلك الوقت أصابنا الذھول … إذ فوجئنا باحتمال الموت، وقد عرفنا فیما بعد أن موت أي منا كان یمكن أن یحدث في لحظة، وأنھ في حالة الثورة، وخاصة إذا كانت الثورة أصیلة.. فلا بد أن ننتصر الإنسان أو یموت.. وغیر ھذا الطریق المؤدي إلى النصر تركنا الكثیر من الرفاق …
ًً
والآن أصبح كل شيء یكتسب طابعا أقل كآبة وإثارة لأننا أصبحنا أكثر نضجا..
إلا أن كل شيء یتكرر .. واشعر أني أدیت جزءاً من واجبي على أرض كوبا، وإني استأذنك الآن،
ًً
وأستأذن الرفاق، وأستأذن شعبك الذي أصبح شعبي لأقول لكم جمیعا، وداعا.
ولذا فإني أتخلى عن منصبي في قیادة الحزب ومنصبي كوزیر، ورتبتي العسكریة، وعن جنسیتي الكوبیة. إن بلاداً أخرى في العالم تحتاج إلى خدماتي المتواضعة، وإني أستطیع القیام بما تمنعك ظروفك القیام بھ، لأنك مسئول عن كوبا.
وقد حانت ساعة الفراق، وأریدك أن تعرف أنني أفعل ذلك بمزیج من الرضا والألم، فأنا اترك ورائي أطھر جزء من آمالي وأعز أصدقائي، وأترك شعباً اتخذني أبناً لھ. وإنني اعفي كوبا من أیة مسؤولیة إذا حلت نھایتي في مكان آخر، فإن ھذا الشعب وأنت بنوع خاص ستكونان موضع تفكیري قبل أن ألفظ
نفسي الأخیر.
إنني لم أترك شيء مادي لزوجتي وأولادي، ولا اطلب لھم شیئاً الآن، لأن الدولة ستعطیھم ما یكفیھم لیعیشوا ویتعلموا.
كنت أود أن أقول أشیاء كثیرة لك ولشعبي، ولكن الآن لا توجد الكلمات التي تستطیع التعبیر عن كل ما یجول في خاطري، وعلى ذلك لیس ما یدعو للإسراف في استعمال الورق.
فإلى النصر دائماً … الوطن أو الموت … أعانقك بكل ما أمتلك من حرارة الثورة