الكاتب أسامة مهران
هامش
التاريخ لا يُكتب مرتين
إنها لغة الأرقام، وهم الضالعين المخضرمين، هي مهنة الخشونة بكامل مشاعرها الفياضة
بقلم: أسامة مهران
عندما يطل التاريخ بأعناقه وأشباحه ورموزه بكبرياء، وحين يسقط حجر عثرة في بحيرة آسنة من المهاترات تحت أقدام الضياء، لا تنجلي أمامنا إلا مشاهد القيم، إلا حقائق وبصمات، و”إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات”.
قبل أن أكتب فكرت طويلًا، ماذا أكتب يا ترى هل عن سياسة تتقلب أو أشخاص يتوارون، أم عن حقائق مجردة؟
في النهاية اهتديت إلى الخيار الأخير، بالتحديد عند محطةٍ لم يتم التوقف على رصيفها من الكتاب والمفكرين وأبناء اللحظة، التاريخ لا يُكتب مرتين، فما بالك أن لدينا تواريخ لم تُكتب أصلًا، رزنامات لم يتم التطرق إليها إلا على طريقة مرور الكرام، أبجديات سوف تذهب أدراج الرياح لو لم نؤرخ لها، وإذا لم نسبر أغوارها، ولو لم نحيط الاخرين علمًا بأنها أنجزت حتى لو أخفقت، وأنها نجحت ولو أن طريقها لم يكن مفروشًا بالورود والرياحين.
أخيرًا اهتديت إلى شخصيات لم يؤازرها التأليف، ولم يتطرق إليها أحباء المهنة، إنه الاقتصاد، وهم المصرفيون، إنها لغة الأرقام، وهم الضالعين المخضرمين، هي مهنة الخشونة بكامل مشاعرها الفياضة، وهم القابضون على النار لأنهم يتشبثون بالعقيدة، وينصاعون للشريعة، ويلتزمون بصحيح المرتجى.
الرئيس التنفيذي لمجموعة البركة المصرفية، رئيس مجلس إدارة جمعية مصارف البحرين عدنان بن أحمد يوسف، شخصية مصرفية لعبت أدوارًا في المحيط وفي الداخل المضطرب، في الخارج، وفي مشاربه الممتدة، لم يكن مهنيًا بدرجة رئيس مصرف وحسب لكنه مازال مفكرًا على نطاق متسع من الرؤى، وحتى ظلال تجارب سبقته، وأخرى تأبى أن تكون في الطريق.
لكن لماذا عدنان بالتحديد؟ لماذا لم نبدأ بغيره، وعلى أي الحجج والمعايير يمكن أن نضبط إيقاع المسافة لتكون على المدى الموحد من الجميع، وعلى الاقتراب ذاته من الرموز، بل وعلى التعاطي الحميمي بشحمه ولحمه مع من سبقوه، ومن عاصروه، ومن سيتبعوه؟
الصيرفة الإسلامية في نظري تمر بمحنة لم يسبق لها مثيل، كورونا لم تكن سببًا، ولا حتى الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، المنافسة غير المتكافئة مع “الكبار” لم تكن بالضرورة مربط فرس، ولا حتى الفرص المحدودة للعمل في دول تعاني اقتصادياتها الأمرين من تقلبات أسعار الصرف، ومن اضطراب القرارات الاقتصادية، بل ومن تشققات النظام المصرفي في العديد من البلدان التي رفعت رايات الصناعة لكنها بدأت في التنازل عنها بكل سهولة.
نقول ذلك من منطلق عمليات بيع بالجملة لمصارف إسلامية لتصبح بنهاية المطاف في عهدة مصارف تقليدية.
“الوطني” يشتري “البحرين الإسلامي”، و”البحرين والكويت” في طريقه إلى الاستحواذ على “الإثمار”، ربما يقول قائل وما الغضاضة في ذلك فهناك مصرفيين تجاريين اختفيا في جلباب مصرف إسلامي، وهما البحريني السعودي الذي توارى في ظلال مصرف السلام، ثم البنك الأهلي المتحد الذي كان قد اقترب من الانزواء في بيت التمويل الكويتي بصفقة تجاوزت الثمانية مليارات دولارًا أمريكي، ولكن جائحة كورونا حالت دون إتمام العملية وإرجائها لأجلٍ غير مسمى.
قد يقول البعض إنها حالة استحواذ عادية، اثنان مقابل اثنين، وقد يرى البعض الآخر أنه النصف الفارغ في الكوب، هو الذي يهيئ لنا أن اختفاء مصرفيين إسلاميين أو تواريهم تحت أجنحة مصارف تقليدية قد يضع علامات استفهام بل وعلامات تعجب أمام الخطوة الواسعة من صناع الصيرفة الإسلامية، لأنه يوحي بتنازل غير مسبوق عن أصول عقائدية، وعن معاملات مشرعنة، بل وعن تصرفات بعيدة كل البعد عن المبادئ التي جاءت بها الصيرفة الإسلامية.
النصف الممتلئ من الكوب مثلما يراه عدنان بن أحمد يوسف أنه النجاح الباهر للصيرفة الإسلامية، ما دعا بل ما شجع مصارف تقليدية كبرى بأن تستحوذ على هذه الكيانات الجاذبة للانتباه.
رغم ذلك مازال النصف الفارغ من الكوب يطل على الأوساط بأسئلة في غاية القلق على تجربة، لماذا لم تكن مكة أدرى بشعابها؟ لماذا يدير مصارفنا الإسلامية أصحاب تجارب خارج منظومة التشبث بالشريعة السمحة؟ بين نصفين داخل كوب ماء، بين النصف الفارغ والنصف الممتلئ، رحابة صدر وسعة في التفكر، في التدبر، في النزول إلى رغبة الصالح العام، وإلى الفكرة المحايدة الخالصة لوجه الله عز وجل.
إن الصيرفة الإسلامية تعاني من سوء إدارة ربما، وربما من سوء إمدادات بمعنى سوء تغذية، وسوء معاملات، وغياب مفتول الملامح لملامح اختفت من وجه لم تشرق عليه شمس منذ سنوات، لكن لماذا عدنان؟ ربما لأنه الوحيد الصامد بين أعضاء المنظومة المؤسسية على قاعدة برأسين بعد رياح التغيير، وربما لأن “البركة”، و”فيصل” بعد رحيل مؤسسيها الشيخ صالح كامل وصاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل آل سعود يعانيان من رتابة مؤشر المعاملات على لوحة التداول في البورصات الإقليمية، لكن الأكيد أن هناك حل، بل هناك مُخلصين من المعضلة، بل وموجهين للمشتري الجديد، هل سيكون على حق؟ أم سيواجه العقبات ذاتها التي اصطدم بها صيارفة مخصرمين، ومفكرين متطوعين، وصناع قرار حالمين؟
لماذا عدنان؟ لأنه الوحيد المعاصر لكلتا التجربتين، لكلتا المرحلتين، ولكلتا المفارقتين والله المستعان.